استقدم الشيخ أحمد جميع غلمانه، وسألهم عن موضوع هجرة أبنائه لكنّهم أنكروا علمهم للموضوع، ولمّا رأته الخادمة شامة محتارا مشوّشا تقدّمت منه وقالت بنبرة وجلة:
ــــ سيّدي أحمد لدي ما أقوله حول هجرة الأولاد.
انفرجت عيناه، وتجهّم وجهه وقال بصوت هو أقرب للصراخ والتأنيب:
ــــ ويحك. ألك علم بالموضوع وتخفينه؟ قولي ما عندك.
ــــ منذ أيام قلائل، قدم سيّدي نجم الدين وأخبر سيّدتي زينب بأنّه قرّر وإخوته هجران المنزل والقرية، إذا ما كان المولود ذكرا... التقيته عند مدخل الدار وهو يغادر، فقطع علي عهدا أن أشير له فور خلاص سيّدتي من مخاضها، كانت العلامة التي اتفقنا عليها، أن أشير له بالمنجل إذا كان المولود ذكرا، وأن أشير له بخرقة بيضاء إذا كانت أنثى.
ـــ لم الرحيل إذن؟!
ـــ هذا ما يحيّرني سيّدي، إنّني وفور خلاص سيّدتي زينب، طرت فرحا بالمولودة، وهرولت نحو غرفتي، حملت الخرقة البيضاء، وحثثت خطى متسارعة نحو الربوة المطلّة على البساتين، حيث تواعدنا أنا وسيدي نجم الدين، انتظرت طويلا حتّى ألوح له بالخرقة البيضاء كإشارة لميلاد أخت له لكنّني عبثا سعيت وانتظرت، لم يظهر له أثر، عدت إلى الدار، لأنّ أعمالا كثيرة تنتظرني، والقابلة كنانة كانت قد طلبت منّي أن أعدّ طعام الخلاص للنسوة اللاّئي قدمن للمباركة.
ـــ عجب...! أصادفت شخصا معيّنا في طريق العودة؟
ـــ بلى سيّدي. كانت زوجة أخيك مرجانة... وكانت قد حثّتني على الإسراع في إخبارك، زاعمة أنّك ستخبر أولادك فور حضورهم.
ـــ لقد تبيّن الأمر، هي فعلتها إذن... كانت دوما تغار من زينب وتحسدها وأجزم قطعا أنّها هي من دبّرت هاته المكيدة... اللّعنة عليها امرأة سوء وأخي لا يستحقّ أن يؤاخذ بأفعالها.
صمت هنيهة ثمّ أردف قائلا وقد خمدت بعض حرائقه:
ـــ إذهبي أنت الآن يا شامة. وتكتّمي على الموضوع، سيّدتك ما تزال منهكة ولا تتحمّل هذا الخبر الصاعق، كما أوصيك بالحرص على إخفاء الموضوع على النسوة الحاضرات... تصرّفي وكأنّ شيئا لم يحدث، ودعي الأمر لي.
عادت شامة إلى الدّار تستأنف أعمالها، أمّا الشيخ أحمد فراح يشيع الفرح في الدار والقرية، وقد أمر غلمانه بإخبار الأعيان والمشايخ في كلّ القرى والمداشر المجاورة أنّ الشيخ "أحمد الزايدي" قد رزق بنتا كأنّها البدر في ليلة اكتماله وقد سمّاها "قمرة".
كان يوم يوم السبوع، أقيمت الأفراح احتفاء بالريحانة "قمرة"، لكنّ الفرح كان منتقصا، فزينب لم تعرف طعم فرح ولا نوم وهي تنتظر قدوم أولادها، ترجّت زوجها أن يريحها ويخبرها الحقيقة وألحت عليه قائلة:
ـــ ناشدتك مقام الرسول يا شيخ أحمد أن تريح قلبي وتخبرني بحقيقة غياب أولادي.
ربت على ظهرها وتبسّم ليداري ملامح الغضب والحزن الدفين الذي يخفيه وقال مستجديا رضاها:
ـــ لا تكوني متشائمة يا بهجة قلبي، الأولاد غابوا لمدة يبادلون فيها الإبل والغنم، وسيعودون قريبا.
أقيمت عقيقة للمولودة "قمرة" تحدّث عنها القاصي والدّاني، حضر جميع من بالقرية من نساء ورجال، فابتهجوا وأكلوا ما لذّ وطاب في بيت الشيخ أحمد، ذاك البيت العامر بالخير الذي عرف عنه "بيت القصعة والفزعة"
بالغ الشيخ أحمد في دلال زوجته زينب ووهبها ذهبا وجواهر، الأمر الذي أشعل نار الغيرة أكثر في قلب سلفتها مرجانة، فقد كانت تبدي أمام النسوة عكس ما تخفي من قهر وغلّ... دخلت كنانة على النسوة والبهجة تكلّل ملامح وجهها المستبشر وقالت:
ـــ غنّوا معي وزغردوا، هذا يوم الفرحة الكبرى، وقد جبر الله بدعوات لالة زينب ووهبنا الريحانة "قمرة". ادعين لهما بالصحة والصلاح وطول العمر.
أطلقت النسوة زغاريد، فضجّ المكان، وعمّت البهجة، وفرح الحاضرون إلاّ قلب مرجانة الذي ملىء غلاّ وحسدا، فما كان منها إلاّ أن تجاريهنّ في فرحهنّ، لكنّ داخلها يفور حقدا... همست لها نفسها الموبوءة شرّا:
ـــ لا بدّ أن أفضح أمرها وأكسر غرورها، و أبوح للنسوة بخير هجران أولادها لها.
تحيّنت خروج كنانة من سقيفة الدار وانهماك شامة بتقديم الضيافة، وقالت للنسوة بنبرة ساخرة يملؤها الحقد:
ــــ أنتنّ تفرحن وتزغردن على مولودة جلبت الفأل السيء لدار الشيخ أحمد.
رمقتها النسوة بنظرات تعجّب، فقالت إحداهنّ:
ــــ والله لا نرى هذا الوجه الملائكي إلاّ فأل خير على دار الشيخ أحمد وعلى القرية قاطبة... إنّها عام خير... عام الصابة والشعير... إنّها "قمرة". قدم السعد.
ردّت مرجانة وهي تكاد تنفجر غيضا:
ـــ إييييه يا النْسا... هي قمرة جنّاية عشرة.
ثقلت جفون "عنق حمام"، وبدا عليها التعب، وهمّت بالخروج بعد استئذان الشيخ "خليفة" وقالت:
ـــ الغيرة يا سيّدي خليفة كانت سبب أول جريمة لدى البشر وما زالت تتفشى بينهم. الله يبعد عنّا كلّ حسود غيّار.
غادرت عنق حمام وتركت الشيخ خليفة، يتوق إلى لقائها بلهفة وشغف كبيرين.
...... يتبع
ليلى تبّاني ـــ قسنطينة ـــ الجزائر
ــــ سيّدي أحمد لدي ما أقوله حول هجرة الأولاد.
انفرجت عيناه، وتجهّم وجهه وقال بصوت هو أقرب للصراخ والتأنيب:
ــــ ويحك. ألك علم بالموضوع وتخفينه؟ قولي ما عندك.
ــــ منذ أيام قلائل، قدم سيّدي نجم الدين وأخبر سيّدتي زينب بأنّه قرّر وإخوته هجران المنزل والقرية، إذا ما كان المولود ذكرا... التقيته عند مدخل الدار وهو يغادر، فقطع علي عهدا أن أشير له فور خلاص سيّدتي من مخاضها، كانت العلامة التي اتفقنا عليها، أن أشير له بالمنجل إذا كان المولود ذكرا، وأن أشير له بخرقة بيضاء إذا كانت أنثى.
ـــ لم الرحيل إذن؟!
ـــ هذا ما يحيّرني سيّدي، إنّني وفور خلاص سيّدتي زينب، طرت فرحا بالمولودة، وهرولت نحو غرفتي، حملت الخرقة البيضاء، وحثثت خطى متسارعة نحو الربوة المطلّة على البساتين، حيث تواعدنا أنا وسيدي نجم الدين، انتظرت طويلا حتّى ألوح له بالخرقة البيضاء كإشارة لميلاد أخت له لكنّني عبثا سعيت وانتظرت، لم يظهر له أثر، عدت إلى الدار، لأنّ أعمالا كثيرة تنتظرني، والقابلة كنانة كانت قد طلبت منّي أن أعدّ طعام الخلاص للنسوة اللاّئي قدمن للمباركة.
ـــ عجب...! أصادفت شخصا معيّنا في طريق العودة؟
ـــ بلى سيّدي. كانت زوجة أخيك مرجانة... وكانت قد حثّتني على الإسراع في إخبارك، زاعمة أنّك ستخبر أولادك فور حضورهم.
ـــ لقد تبيّن الأمر، هي فعلتها إذن... كانت دوما تغار من زينب وتحسدها وأجزم قطعا أنّها هي من دبّرت هاته المكيدة... اللّعنة عليها امرأة سوء وأخي لا يستحقّ أن يؤاخذ بأفعالها.
صمت هنيهة ثمّ أردف قائلا وقد خمدت بعض حرائقه:
ـــ إذهبي أنت الآن يا شامة. وتكتّمي على الموضوع، سيّدتك ما تزال منهكة ولا تتحمّل هذا الخبر الصاعق، كما أوصيك بالحرص على إخفاء الموضوع على النسوة الحاضرات... تصرّفي وكأنّ شيئا لم يحدث، ودعي الأمر لي.
عادت شامة إلى الدّار تستأنف أعمالها، أمّا الشيخ أحمد فراح يشيع الفرح في الدار والقرية، وقد أمر غلمانه بإخبار الأعيان والمشايخ في كلّ القرى والمداشر المجاورة أنّ الشيخ "أحمد الزايدي" قد رزق بنتا كأنّها البدر في ليلة اكتماله وقد سمّاها "قمرة".
كان يوم يوم السبوع، أقيمت الأفراح احتفاء بالريحانة "قمرة"، لكنّ الفرح كان منتقصا، فزينب لم تعرف طعم فرح ولا نوم وهي تنتظر قدوم أولادها، ترجّت زوجها أن يريحها ويخبرها الحقيقة وألحت عليه قائلة:
ـــ ناشدتك مقام الرسول يا شيخ أحمد أن تريح قلبي وتخبرني بحقيقة غياب أولادي.
ربت على ظهرها وتبسّم ليداري ملامح الغضب والحزن الدفين الذي يخفيه وقال مستجديا رضاها:
ـــ لا تكوني متشائمة يا بهجة قلبي، الأولاد غابوا لمدة يبادلون فيها الإبل والغنم، وسيعودون قريبا.
أقيمت عقيقة للمولودة "قمرة" تحدّث عنها القاصي والدّاني، حضر جميع من بالقرية من نساء ورجال، فابتهجوا وأكلوا ما لذّ وطاب في بيت الشيخ أحمد، ذاك البيت العامر بالخير الذي عرف عنه "بيت القصعة والفزعة"
بالغ الشيخ أحمد في دلال زوجته زينب ووهبها ذهبا وجواهر، الأمر الذي أشعل نار الغيرة أكثر في قلب سلفتها مرجانة، فقد كانت تبدي أمام النسوة عكس ما تخفي من قهر وغلّ... دخلت كنانة على النسوة والبهجة تكلّل ملامح وجهها المستبشر وقالت:
ـــ غنّوا معي وزغردوا، هذا يوم الفرحة الكبرى، وقد جبر الله بدعوات لالة زينب ووهبنا الريحانة "قمرة". ادعين لهما بالصحة والصلاح وطول العمر.
أطلقت النسوة زغاريد، فضجّ المكان، وعمّت البهجة، وفرح الحاضرون إلاّ قلب مرجانة الذي ملىء غلاّ وحسدا، فما كان منها إلاّ أن تجاريهنّ في فرحهنّ، لكنّ داخلها يفور حقدا... همست لها نفسها الموبوءة شرّا:
ـــ لا بدّ أن أفضح أمرها وأكسر غرورها، و أبوح للنسوة بخير هجران أولادها لها.
تحيّنت خروج كنانة من سقيفة الدار وانهماك شامة بتقديم الضيافة، وقالت للنسوة بنبرة ساخرة يملؤها الحقد:
ــــ أنتنّ تفرحن وتزغردن على مولودة جلبت الفأل السيء لدار الشيخ أحمد.
رمقتها النسوة بنظرات تعجّب، فقالت إحداهنّ:
ــــ والله لا نرى هذا الوجه الملائكي إلاّ فأل خير على دار الشيخ أحمد وعلى القرية قاطبة... إنّها عام خير... عام الصابة والشعير... إنّها "قمرة". قدم السعد.
ردّت مرجانة وهي تكاد تنفجر غيضا:
ـــ إييييه يا النْسا... هي قمرة جنّاية عشرة.
ثقلت جفون "عنق حمام"، وبدا عليها التعب، وهمّت بالخروج بعد استئذان الشيخ "خليفة" وقالت:
ـــ الغيرة يا سيّدي خليفة كانت سبب أول جريمة لدى البشر وما زالت تتفشى بينهم. الله يبعد عنّا كلّ حسود غيّار.
غادرت عنق حمام وتركت الشيخ خليفة، يتوق إلى لقائها بلهفة وشغف كبيرين.
...... يتبع
ليلى تبّاني ـــ قسنطينة ـــ الجزائر