(4)
دقّت "عنق حمام" باب غرفته، ودخلت وبيدها طبق سعف به تمر "القرباعي"، تبسّم الشيخ خليفة لمّا رآها مقبلة، مدّ يده لطبق التمر، وأخذ يأكل منه ثم قال بنبرة ملهوفة:
ـــ وماذا عن الشيخ أحمد وأولاده؟
اعتدلت في جلستها أمام كانون الجمر، ثمّ قالت:
تزوّد الشيخ أحمد، وشدّ الرحال ـــ حيث لا يدري له وجهةـــ بحثا عن أولاده لكنّه لم يعثر لهم عن أثر ولا خبر يوصله إليهم، دامت رحلته أياما وشهورا كُلِّلت بالخيبة، فعاد إلى الديار بخفّي حنين. أصابه وزوجته حزن شديد لفراق أبنائه العشرة، ولم يحسن معاقبة زوجة أخيه مرجانة على فعلتها لأنّها أنكرت ولم يجد الدليل الذي يدينها.
تعاقبت الأيّام حزينة، لم يعرفوا فيها طعما للفرح، وكانت مرجانة بالمقابل تشيع خبر هجرانهم الدار، وتستلذّ عذابهما، فلا يخلو مجلس أو مناسبة من مكرها ونشر سمّها، فلم تهنأ حتى تفشّى بين الناس، اسما نسبته لابنة سلفها فصار كلّ من بالقرية يعرفها بكنية " قَمْرة جَنّاية عشرة".
مرّت خمس سنوات، ذاق فيها الشيخ أحمد وزوجته مرارات الانتظار العقيم، فأحاله إلى هيكل من بثّ وحزن. أصابه الوهن ومرض مرضا ألزمه الفراش، فناب عنه أخوه "سليمان" في تسيير شؤونه ورعاية حقوله وبساتينه و شياهه وخيوله.
كانت الفرصة سانحة بالنسبة لزوجته مرجانة، فما خطّطت له أدركته وسوست لزوجها بأن يحرم أخاه وزوجته و ابنة أخيه من كلّ الغلال والمحاصيل وحتّى من عائدات المواشي، تقدّمت منه ذات مساء صيفي قائظ وهي تسلّمه طبقا به أشهى غلال بساتين الشيخ أحمد ،مشمش، خوخ وتفاح... قالت بنبرة كأنها انشطرت من فحيح أفعى سامّة:
ـــ لا حقّ لهم عندنا، أنت من تتعب وتبكر وتبيع، ولولاك لماتت مواشيهم وبارت أراضيهم، وسابت بساتينهم.
كان سليمان الزايدي مختلفا عن أخيه في المروءة والشدّة وقوّة الشخصية الأمر الذي سهّل لزوجته مرجانة السيطرة عليه، فوصل بها الأمر إلى حرمانهم حتىّ من قوت يومهم... توالت السنوات وكبر جشع مرجانة وشرّها وأشتدّ مرض الشيخ أحمد ولم يكن ليستجيب لعلاج أو عقاقير.
كان مساء مدلهما بسواد قلب مرجانة وحزن زينب على زوجها شيخ القرية الذي لفظ أنفاسه الأخيرة منذ فترة قصيرة، حضر فيها أعيان القرية وشيوخ الزاوية. تمّ تغسيله وتكفينه وكانت ليلة وهب فيها الحاضرون كلّ وقتهم للدعاء للشيخ أحمد وقراءة القرآن على روحه الطاهرة، فقد عرف عليه في حياته مساعدة الفقير ونصرة الضعيف و نجدة المستغيث، والسخاء للسائل.
مرت أيّام الحداد حزنت فيها زينب وابنتها قمرة على فراق الشيخ أحمد، وما أن انقضت شهور العدّة، حتّى جاءتها الفتاة الفاتنة جمالا وبهاء وقد بلغت من سنّ الإزهار عتبته وقالت:
شعرت عنق حمام ببرد يسري في جسدها، فانقطعت عن الحكي، و راحت تضع جذوع الحطب المبلّلة في المجمر، لعلّها تجفّ وتشتعل فتدفىء ليلة سيّدها خليفة، لكنّه ورغم برودة تلك اللّيلة واستمرار تساقط الثلوج بكثافة، لم يشعر ببرد، فدفء الحكي وحضور عنق حمام كان يغمره فينسيه برودة المكان. تسعّر الجمر فقلّبته بسيخ حديدي، واستأذنت الشيخ خليفة بالمغادرة إلى مخدعها، واعدة إياه باستكمال الحكاية في اللّيلة الموالية...
......يتبع
بقلم : ليلى تبّاني ـــ قسنطينة ــ الجزائر
دقّت "عنق حمام" باب غرفته، ودخلت وبيدها طبق سعف به تمر "القرباعي"، تبسّم الشيخ خليفة لمّا رآها مقبلة، مدّ يده لطبق التمر، وأخذ يأكل منه ثم قال بنبرة ملهوفة:
ـــ وماذا عن الشيخ أحمد وأولاده؟
اعتدلت في جلستها أمام كانون الجمر، ثمّ قالت:
تزوّد الشيخ أحمد، وشدّ الرحال ـــ حيث لا يدري له وجهةـــ بحثا عن أولاده لكنّه لم يعثر لهم عن أثر ولا خبر يوصله إليهم، دامت رحلته أياما وشهورا كُلِّلت بالخيبة، فعاد إلى الديار بخفّي حنين. أصابه وزوجته حزن شديد لفراق أبنائه العشرة، ولم يحسن معاقبة زوجة أخيه مرجانة على فعلتها لأنّها أنكرت ولم يجد الدليل الذي يدينها.
تعاقبت الأيّام حزينة، لم يعرفوا فيها طعما للفرح، وكانت مرجانة بالمقابل تشيع خبر هجرانهم الدار، وتستلذّ عذابهما، فلا يخلو مجلس أو مناسبة من مكرها ونشر سمّها، فلم تهنأ حتى تفشّى بين الناس، اسما نسبته لابنة سلفها فصار كلّ من بالقرية يعرفها بكنية " قَمْرة جَنّاية عشرة".
مرّت خمس سنوات، ذاق فيها الشيخ أحمد وزوجته مرارات الانتظار العقيم، فأحاله إلى هيكل من بثّ وحزن. أصابه الوهن ومرض مرضا ألزمه الفراش، فناب عنه أخوه "سليمان" في تسيير شؤونه ورعاية حقوله وبساتينه و شياهه وخيوله.
كانت الفرصة سانحة بالنسبة لزوجته مرجانة، فما خطّطت له أدركته وسوست لزوجها بأن يحرم أخاه وزوجته و ابنة أخيه من كلّ الغلال والمحاصيل وحتّى من عائدات المواشي، تقدّمت منه ذات مساء صيفي قائظ وهي تسلّمه طبقا به أشهى غلال بساتين الشيخ أحمد ،مشمش، خوخ وتفاح... قالت بنبرة كأنها انشطرت من فحيح أفعى سامّة:
ـــ لا حقّ لهم عندنا، أنت من تتعب وتبكر وتبيع، ولولاك لماتت مواشيهم وبارت أراضيهم، وسابت بساتينهم.
كان سليمان الزايدي مختلفا عن أخيه في المروءة والشدّة وقوّة الشخصية الأمر الذي سهّل لزوجته مرجانة السيطرة عليه، فوصل بها الأمر إلى حرمانهم حتىّ من قوت يومهم... توالت السنوات وكبر جشع مرجانة وشرّها وأشتدّ مرض الشيخ أحمد ولم يكن ليستجيب لعلاج أو عقاقير.
كان مساء مدلهما بسواد قلب مرجانة وحزن زينب على زوجها شيخ القرية الذي لفظ أنفاسه الأخيرة منذ فترة قصيرة، حضر فيها أعيان القرية وشيوخ الزاوية. تمّ تغسيله وتكفينه وكانت ليلة وهب فيها الحاضرون كلّ وقتهم للدعاء للشيخ أحمد وقراءة القرآن على روحه الطاهرة، فقد عرف عليه في حياته مساعدة الفقير ونصرة الضعيف و نجدة المستغيث، والسخاء للسائل.
مرت أيّام الحداد حزنت فيها زينب وابنتها قمرة على فراق الشيخ أحمد، وما أن انقضت شهور العدّة، حتّى جاءتها الفتاة الفاتنة جمالا وبهاء وقد بلغت من سنّ الإزهار عتبته وقالت:
شعرت عنق حمام ببرد يسري في جسدها، فانقطعت عن الحكي، و راحت تضع جذوع الحطب المبلّلة في المجمر، لعلّها تجفّ وتشتعل فتدفىء ليلة سيّدها خليفة، لكنّه ورغم برودة تلك اللّيلة واستمرار تساقط الثلوج بكثافة، لم يشعر ببرد، فدفء الحكي وحضور عنق حمام كان يغمره فينسيه برودة المكان. تسعّر الجمر فقلّبته بسيخ حديدي، واستأذنت الشيخ خليفة بالمغادرة إلى مخدعها، واعدة إياه باستكمال الحكاية في اللّيلة الموالية...
......يتبع
بقلم : ليلى تبّاني ـــ قسنطينة ــ الجزائر