مقتطف ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج (5)

ج (5)


حلّ اللّيل الدّامس، وقطعت الثلوج المتساقطة الممرّ المؤدّي إلى بيت الحكّاءة "عنق حمام" ولم يعد بإمكان الشيخ خليفة التنقّل، إلاّ لتفقّد المواشي في الزريبة والخيل التي يبيت غلمانه قريبا منها لتفقّدها، وتلبية طلباته. ألحّت عليه لهفته لاستكمال الحكاية، فأرسل غلامه في طلبها... حمل الغلام مشعلا بيده، ينير به ظلمة ليلة دهماء من أطول ليالي الشتاء سلك الغلام طريقا ضيّقة تؤدّي إلى بيت عنق حمام، كان قد ازاح ثلوجها المتراكمة، دقّ بابها مرارا، فلم يتلقّ ردّا، فما كان منه إلاّ أن عاد إلى سيّده وقد تجمّدت قدماه وأطراف أصابعه من تلبّس الثلوج بطبقة من الصقيع.

رمقه الشيخ خليفة بنظرة تعجّب وقال:

ـــ أراك عدت سريعا بدون عنق حمام!

ـــ دققت بابها مرارا ولم ترد.

تعجّب الشيخ خليفة و همس لنفسه:

ـــ عجب! أين ستذهب في هاته العاصفة المثلجة وهي لا تعرف غيري منذ قدوم قافلتها المرتحلة نحو الوادي؟

ارتدى الشيخ خليفة برنس الصوف واستلم المشعل من الغلام، وقصد بيتها يتبيّن أمر غيابها. بلغ عتبة بابها فتحسّس المكان... بدا البيت مهجورا تحيّر الشيخ خليفة، ودفع الباب برجله بقوّة، انكسر قُفْلُ الباب فانفتح أمامه وانبعث دخان ورائحة خانقة، ذُعِرَ خليفة وهرول نحو مخدعها، فإذا بها ملقاة على الأرض بالقرب من فراشها لا تحرّك ساكنا، أسرع نحوها. ثبّت المشعل على حافّة صندوق حديدي، ثمّ قلّبها بين يديه وراح يضع يده عند رقبتها يجسّ نبضها، استرجع نفسه الذي كتمه من شدّة خوفه من أن يجدها قد فارقت الحياة بسبب الدّخان الخانق الذي تعرّضت له، قال مغمغما:

ـــ الحمد لله قلبها ينبض، مازالت على قيد الحياة.

حملها بين ذراعيه وأخرجها في الهواء وحثّ بها الخطى نحو داره، مدّدها على فراشه الوثير، وراح يخلع غطاء رأسها وثوبها الصوفي الخارجي، نادى غلامه كي يحضر له بصلا، ضغط على حبّة البصل فتصاعدت رائحتها النفّاذة قرّبها من أنفها فاستجابت وحرّكت رمشيها... رفعها عن الوسادة وصار يسقيها ماء حتّى استفاقت من إغماءتها، استفرغت كلّ الماء الذي شربته، ثمّ استلقت مرّة أخرى، أصابها وهن بسبب ما تعرّضت له من اختناق، فلم تقو على الجلوس.

أمر خليفة غلامه بجلب حليب ماعز طازج، غاب الغلام عن الحجرة قليلًا، وعاد بوعاء مليء بالحليب، ناوله إياه، ثمّ كلّفه بتحضير حساء من البقول من أجلها... تحسّنت حالتها بعد تناول الحساء، وتورّدت وجنتاها، كان الشيخ خليفة يحنو عليها ويسعى إلى راحتها، ما جعلها تطمئن له وتنام في فراشه دون توجّس.

جلس الشيخ خليفة بالقرب منها يراقب حالتها ويقلّب الجمر ويغذّيه بالحطب كلّما هفا، أما هي فنامت شطرا من اللّيل الطويل السدول واستيقظت فجأة فوجدته ساهرا يجلس عن كثب من قدميها، فزعت وهمّت بالنهوض من فراش سيّدها، لكنّه منعها وأرغمها على البقاء في فراشه.

طأطأت رأسها خجلا وقالت:

ـــ ياللخزي كيف أنام في فراش سيّدي خليفة ويبقى هو ساهرا يقوم بخدمتي؟

ـــ أنت اليوم سيّدتي وفراشي من نصيبك. كدت تفارقين الحياة، دخلت فوجدتك تتنفسين بصعوبة، والدم يكاد يتجمّد في جسمك. كيف تغامرين بنفسك وتغلقين الباب والمنافذ قبل زوال الدخان الخانق؟

تورّدت أكثر وأشاحت بوجهها حياء من كرم الشيخ خليفة معها، وقالت:

ـــ لا أعرف كيف أردّ جميلك وكرمك معي سيّدي؟

رمقها بنظرة ودودة متأمّلا محاسنها وقال مازحا:

ـــ لو ترغبين بردّ كرمي، عليك بسرد باقي الحكاية، فإنّي توّاق لسماعها.

اعتدلت عنق حمام واستندت على وسادة مريحة وقالت:

ـــ طلبك أمر مطاع سيّدي، وبكلّ سرور سأروي لك ما حدث مع قمرة وأمّها.

تربَّع في جلسته مستعرضا دفء الكانون الّذي يتسرّب في لطف بين جدران الحجرة، ودفء حضورها الذي يتسرب نحو قلبه ولا يقوى على مقاوته، ونظر مصغيا إليها بشغف كبير. جعلت عنق حمام تحكي فقالت:

مرت أيّام الحداد حزنت فيها زينب وابنتها قمرة على فراق الشيخ أحمد، وما أن انقضت أشهر العدّة، حتّى جاءتها الفتاة الفاتنة جمالا وبهاء وقد بلغت من سنّ الإزهار عتبته وقالت:

ـــ أرى أنّ الظرف صار ملحّا للبحث عن إخوتي.

سرحت زينب هنيهة تفكّر في كلام ابنتها، ثمّ نظرت إليها وقالت بنبرة حازمة:

ـــ لا يمكن أن نرحل اثنتينا دون مرافق يساعدنا، نحن نجهل الطرق والمسالك، ولا ندري ما سنلقى في سفرنا.

ـــ أعدك يا أمّي أنّني سأعثر على إخوتي، وأسترجع أملاكنا التي سلبها عمّي منّا ظلما وجورا.

ـــ أفكّر في "شاهين" حارس مرابط الخيل، هو الشخص الوحيد الذي يمكنه مساعدتنا.

ـــ لكنّه من غلمان عمّي، والمؤكّد أنّه سيطلعه على ما نحن مقبلتان عليه.

ـــ شاهين شابّ يتيم الأبوين تربّى عندنا، وهو لا يرى في والدك إلاّ أبا ويعتبرني أمّا له، كما أنّني أكنّ له الودّ كولد من أولادي، ولا أشكّ في إخلاصه.

اتّفقت زينب على خطّة ذكيّة تفلت بها رفقة ابنتها، جمعت الأغراض التي تلزمهما وضعتها في جرب، ثمّ أحدثت ثقبا في ثمرة يقطين متوسّطة الحجم، دسّت بها حليّها الذهبي وأغلقت الثقب بإحكام حيث لا يظهر، تحسّبا لغدر الطريق... في صباح اليوم التالي استيقظت باكرا، أعدّت عصيدة من دقيق القمح والسمن والعسل، وأرسلت قمرة في طلب شاهين للحضور إلى الدار.

تسلّلت قمرة بخفّة، وأسرعت الخطى نحو مربط الخيل، وما إن لمحها شاهين مقبلة حتّى انبسطت أساريره، فلم يصدّق عينيه، وتشتّت تركيزه.

إنّها تقبل عليه كحورية... الفتاة البيضاء ذات الجدائل السوداء الحريرية، والقدّ الأهيف المياس والوجه الملائكي الآسر... إنّه وجل حائر كيف سيستقبلها؟!...

تثاقلت الكلمات على لسان عنق حمام، تثاءبت وتوقّفت عن الكلام، واستسلمت لنوم قسري، قام الشيخ خليفة وغطّاها بلحاف من الصوف وغادر إلى الحجرة المقابلة.



.....يتبع


ليلى تبّاني - قسنطينة - الجزائر.



1726256929751.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى