عبدالرحيم جيران - القصة القصيرة ومأزق التجريب... ضرورة جمالية مكونة للادب

يستعمل مفهوم التجريب، في الأغلب- كما اتفق، وبعجالة غير مبالية بالمزالق التي تحف به، ومن دون أن يمحص على نحو دقيق بما يليق بالرصانة المعرفية التي يقتضيها، إذ يستفاد من توظيفه عند الكثير من النقاد والمبدعين أنه مغامرة في الكتابة تتخطى الأوفاق الجمالية السائدة بغاية الفهم عن أفق آخر أكثر جدة، لكن لم يطرح في صددها سؤال ما إذا كانت محسوبة أم لا، أو ما إذا كانت تعي الإشكالات التي تحف بنا. وأقصد من وراء هذا التقييد تأطير مفهوم التجريب ضمن اقتضاءاته العلمية، بما يتطلبه الأمر أولا من وعي بضبط الحاجة إليه نظريا وإجرائيا في ضوء تكون الأدب بوصفه ممارسة تخييلية، والسياقات التي تم فيها، وثانيا ضبط إشكاليته في علاقته بالإجناس الأدبية، وثالثا علاقته بالموضوع الجمالي.
مما ينبغي عدم تلافيه أو غض الطرف عنه، أن التجريب يعد خاصية ملازمة للأدب، فبه يتحدد جزء من مفهومه الواسع. ويقصد به هنا النسج على غير منوال سابق، أو نموذج قار يفرض مقوماته على نحو مسبق على الكتابة، ولا يتعلق الأمر في هذا الصدد بمسألة التقليد، وإنما بالإيجاد. لم تجد هذه الممارسة النوعية في الكتابة التخييلية الاسم الذي يليق بها إلا في القرن التاسع عشر على يد مدام دوستايل. أما تكوّن الأدب فترجع إرهاصاته إلى بداية القرن السادس عشر، أو قبله بقليل. وقد احتاج إلى زمن مديد من التطور حتى ترسخت معالمه على نحو صار معه مفهوما يشير إلى واقع تخييلي محدد، وكان تأسيسه الإشكالي قائما على تحمل الكاتب مسؤوليته في تحديد الشكل الذي يرتضيه للإشارة إلى نوع الكتابة التي ينتهجها، ومن ضمن ذلك أن تكون هذه المسؤولية تامة وفق المغايرة والأسلوب الشخصي، مع القطع مع الاستناد إلى معيارية نموذجية تشتغل في هيئة وصفة ينبغي اتباعها من أجل جلب الاعتراف. ومن ثمة تعد هذه المواصفات العامة التي تكمن خلف الأدب بمثابة محتوى التجريب نفسه، وإذا كان الأمر كذلك فهو يعد من صلبه، بل شرطا يحدد ماهيته، ولهذا لا يعد فتحا مبينا خاصا بكاتب أو حقبة معينة، ومن ثمة فهو مشكل للهوية الأدبية المؤسسة على الإضافة إليه، وتوسيع مداه بفتحه على كل ما هو رمزي يقع خارج حقله. فما يجعل الأدب أدبا قيامه على التجريب الذي يحدده، ويجعله منفتحا على الاغتناء المستمر في الشكل، والأسلوب والموضوع الجمالي. ومن ثمة فهو مغايرة مفتوحة على المجهول، لكن هذا الانفتاح محسوب، ولا بد له من أن يقام على التجديل بين تركة ومستقبل ما. فالتركة تمثل في الميراث الأدبي الذي يتراكم في هيئة تجارب تبدو أنها استكملت أهدافها في علاقتها بالعصر، والمستقبل ماثل في التنبه إلى رؤية متنبئة ذات قدرة على فهم ما يتطلبه الحاضر في علاقته بإمكان مفتوح على مشروع ما يلبي تطلعا فنيا وجماليا في علاقته بتطلع أنطولوجي لجماعة ما يضع كل إمكاناته في المستقبل. ولا يمكن حدوث ذلك إلا في ضوء مسافة جمالبة معينة، وهذه المسافة لا يمكن أن تتحقق من دون إدراك حجم الاختلاف عن التركة، ولا يكون ذلك ممكنا إلا باستيعاب تكون هذه الأخيرة، وآفاق الانسداد فيها.
يتمثل الوجه الثاني المتعلق بمسألة التجريب في التجديل بين المتحقق في هيئة تراكم والممكن قياسا إلى الحدس الإجناسي الخاص بجنس أدبي معين. فغالبا ما نظر إلى التجريب بوصفه يحدث خارج هذا الحدس بخرق ضوابط الجنس الأدبي أو التعين خارج معاييره. لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، وتدعو الحاجة إلى إعادة النظر في ما ترسخ في الذهن في هذا الصدد. والمقصود بهذا الأمر أن الأدب يعد ممارسة تحدث وفق مراعاة الحدس الإجتاسي، أو وفق عدم مراعاته أيضا. ولا بد أن تنتج تبعات نظرية وإجرائية في حالة ما إذا عددناه حادثا وفق أحد الأمرين المذكورين. ففي الحالة الأولى لا يحدث التجريب- من حيث هو مغامرة في التجديد الشكلي والأسلوبي- إلا على نحو تنويعي على مسار تراكمي. ونعني بذلك أن الكتابة- في هذه الحالة- تتجه إلى إظهار إمكانات الجنس الأدبي غير المحينة من جهة، وإلى فعل ذلك- من جهة أخرى- قياسا إلى توافر حدس إجناسي يوجه فعل الكتابة، ويجعلها منتمية إلى تراثٍ من الإنتاج التخييلي قابل لأن يعاد تشكيله وفق إمكانات يفرضها زمن فعل الكتابة. ولن يكون التجريب في القصة القصيرة- بحسب هذا المنحى- إلا بحثا في إمكاناتها التي لم تحن بعد، بما يعنيه ذلك من استناد إلى حدس إجناسي مؤسس وفق تجربتي القراءة والكتابة. ويكاد هذا الحدس أن يكون زمنيا بالدرجة الأولى، وله صلة بالإدراك. فالقصة القصيرة تستوعب حدسيا انطلاقا من كونها تستغرق نفسها في لحظة زمنية مقلصة، لها هيئة شرخ يحدث في الزمن من حيث هو سيولة ظرفية تقبل القبض عليها في وحدة محددة. الأمر لا صلة له هنا بقصر الصفحات أو طولها، وإنما بوحدة الانطباع الزمني الذي يؤسس إدراك متاحها الجمالي، وإدراك تطلباتها على مستوى السرد بما يعنيه ذلك من كثافة. هذا فضلا عن وحدة الموقع الذي ينقل من خلاله الحدث، فهي لا تسمح بتعدد المواقع، ولا بتعدد السراد لأن ذلك يخل بوحدة الانطباع. كما أنها تتميز بقلب مفاجئ في صيرورة متسمة بالاعتياد، وهذا القلب يتخذ هيئة انفجاء لا يبرر في الغالب. هذه الملامح البنيوية تؤسس الحدس الإجناسي الخاص بالقصة القصيرة، وتشكل خطا هوياتيا في تعرف فعل القص فيها. ومن ثمة لا بد لكل تجريب من أن يحدث وفق استثمار إمكانات جديدة غير مطروقة في الشكل والأسلوب والموضوع الجمالي، وينبغي تفكر هذه الإمكانات بوصفها كامنة في الحدس الإجناسي ذاته، لكنها لا تحين إلا وفق تعالقها مع تطلبات العصر.
وينبغي النظر- في الحالة الثانية المتعلقة بعدم مراعاة الحدس الإجناسي، من دون نفي استضماره على مستوى فعل النفي ذاته- إلى التجريب بوصفه اختبارا للممكنات الكتابة برمتها من دون الارتكان إلى حدس إجناسي ما. وأمر من هذا القبيل يفضي بالإبداع إلى أن يصير توجها حرا يبحث عن مفتقد مستمر، من دون خريطة محددة. هنا تستحيل التسمية، وكذلك الحدود، وتصير كل الممكنات الإجناسية قابلة للتجاور، وكذلك الأساليب المختلفة من راق وسوقي وعادي. يصبح الحديث- إذن- عن التجريب في القصة القصيرة متعذرا في هذا النوع من ممارسة الكتابة، لأن الاختيار يقام فيه على نسف مفهوم الجنس الأدبي بما يستند إليه من حدس. فلا يمكن تدمير التصنيف الأدبي وتعيين فعل التدمير داخله. وترتيبا على ذلك يكون من المستحب نعت هذا النوع من الكتابة بالنص لا بأي شيء آخر، وتعليل ذلك مرده إلى أن تجربة معينة في الكتابة في الغرب (جماعة تيل كيل)- الذي نحب تقليده في كل شيء- قد أقامت أسسها الجمالية على هذا الأساس، بما يعنيه ذلك من رفض للنسب، والأبوة، والحدود، والتواصل، والمعنى. وإذا كان الأمر كذلك فكثير من النصوص التي تحمل تسمية القصة القصيرة في متننا السردي العربي المعاصر لا تنتمي إلى هذا الفن الأدبي، على الإطلاق، بل إلى الكتابة التي ترد تحت مفهوم النص، وهي كتابة تجذّر خاصية انتمائها في عدم الانتماء إلى أي إطار إجناسي. ونحن هنا لسنا في صدد إطلاق حكم قيمة، ولكن في صدد توصيف الأشياء حتى لا نضل الطريق، أو نرغم ما لا يقبل الانتماء إلى الخانات على الانتماء إليها. وغالبا ما يقود الإيغال في المجازفة غير المحسوبة إلى نتائج عكسية، فينقلب الجميل إلى ضده، وينتزع من ذاته على نحو مشوه.
لا ينحصر التجريب- كما في المغامرة المحسوبة باستنادها إلى وعي ما في الكتابة- في استهدافه الشكل والأسلوب واللغة فحسب، وإنما يتعدى ذلك أيضا إلى الموضوع الجمالي. ومن الواضح أن ما ترسخ لدينا في الممارسة الإبداعية- والنقد كذلك- أن التجريب مرده إلى الشكل وحده، أو الأسلوب واللغة. لكن الأمر ليس كذلك، فللموضوع الجمالي في القصة القصيرة- كما في أي فن لغوي آخر- أهمية بالغة في تثوير الكتابة. فكما للحدس الإجناسي- على مستوى فعل الكتابة- أهمية في إظهار ممكنات الجنس الأدبي، فكذلك الأمر بالنسبة إلى الموضوع الجمالي. وحتى نكون على بينة من المفاهيم التي نستعملها لا مناص من توضيح ما نقصده بالموضوع الجمالي. فهو أي موضوع يختاره الكاتب، لكنه موضوع ممرر من خلال رؤية معينة وفق اقتضاءات جنس أدبي معين. فالرؤية تتعلق بزاوية المعالجة المستندة إلى وعي جمالي معين، وتوجه فني ما، وخلفية معرفية معينة، ومتحكمات محددة. والمقصود بتحديد الرؤية من خلال هذه العناصر أن يصير الموضوع مثلا ممررا من وجهة نظر أيديولوجية محددة، إما ثورية أو تمردية، أو محافظة، أو عدمية…ألخ ، ومن خلال توجه فني، قد يكون رومانسيا أو واقعيا، أو مستقبليا أو طليعيا…الخ، ومن خلال الاستناد إلى سؤال تجريدي يجسم بوساطة المعادل الحكائي (الحبكة أو صيرورة حدثية)، كأن تستهدف القصة تمثيل الحدود بين الوهمي والواقعي، هذا إلى جانب ضرورة تمرير الموضوع من خلال متحكمات من قبيل السخرية، أو الندم، أو الحنين، أو التشاؤم أو التفاؤل…الخ. كما أن الموضوع الجمالي لا يبنى إلا في ضوء ما يفرضه الجنس الأدبي من شروط وإمكانات، وسعة في بسطه. فلا يمكن أن يعالج الموضوع بالطريقة نفسها في كل من الرواية والقصة القصيرة. فهذه الأخيرة تمرره من خلال الكثافة التي تتميز بها كلٌّ من لغتها، وحيزها الزمني المضغوط. إذن إذا كان الموضوع الجمالي حاسما في بناء القصة القصيرة، وكذلك في أي جنس فني لغوي آخر، فلا شك أن التجريب يطوله أيضا بالبحث عن توليفات جديدة بين عناصره التي ذكرناها سابقا. كما يمثل أيضا في تفجير ممكنات كل عنصر، والذهاب به نحو آفاق لم تكن متكهنة على الإطلاق، أو تطعيمه بما هو موجود في غيره من تنويعاته المختلفة، كأن يفتح الواقعي على ممكن المستقبلي، والعكس وارد جدا.
لا يمكن الحديث عن التجريب في القصة القصيرة من دون الحديث عن الأسلوب الشخصي الذي يميز كاتبا من غيره في معالجته الفنية للقصة. وهنا لا بد من فتح قوس أساس ألا وهو عدم تلاؤم القصة مع تمثيل الأسلوب الجماعي، هذا التمثيل تختص به الرواية وحدها. ولذلك تعد القصة مجالا خصبا للبرهنة على مهارات فردية في الأداء الأسلوبي. ومن ثمة فهي تجنح في الغالب إلى التكثيف اللغوي، الذي يقربها من الاستعمال الشعري للغة. كما أنها تسمح بالتلاعب الذي يطال بناء الجملة السردية، وتنامي السرد بوساطة اللجوء إلى التكرار الإضافي، بحيث يكرر عنصر ما طيلة السرد، لكن هذا التكرار يضيف حين وروده خاصيات جديدة إلى العنصر المكرر كما هو الحال في قصص فوكنر. وتقطيع النص بوقف سيولته غرافيا، وتضمين هذا التقطيع مقاطع تبدو وكأنها تنزل منزلة استخلاص حكمي. في هذا الإطار التجريبي للأسلوب الشخصي يرد التنويع الأسلوبي، وذلك بفتحه على ممكنات الأجناس الأدبية الأخرى، وبخاصة الشعر؛ إذ قد يعمد القاص إلى تضمين قصته بمقاطع شعرية ينحتها هو، أو يستعيرها من غيره. كما يمكن للقصة القصيرة أن تنفتح في بنائها أسلوبيا على ممكنات الشفهي في بعديه: 1- اللغوي من حيث هو ممارسة تواصلية في الحياة، أو 2- البنائي من حيث استمداد بناء القصة من بناءات الحكاية الشعبية. لكن هذا الانفتاح الأسلوبي على أساليب إجناسية غير سردية لا يتم إلا من خلال ممكنات القصة القصيرة، وإلا تحولت هذه الأخيرة إلى كتابة تتأطر في خانة غير خانتها الإجناسية. فإذا ما استعير بناء القصة القصيرة من الحكائي الشفهي، فلا بد من جعله ممررا من اقتضاءاتها هي، وتدميره بوساطة فعلها الخاص، إما بوساطة المحاكاة الساخرة، أو بفعل تحويل في بنية علاقة الجهد بوسائل التحقيق، أو تدمير كل الشخصية.
لا يكفي في التجريب رفع معول الهدم حتى يصير الكاتب طليعيا، بل لا بد له من تصور معرفي، يبرر فعله هذا. والمقصود بهذا القول أن الكثير من كتاب القصة القصيرة يرفعون شعار هدم الحبكة ليدللوا على أنهم يكتبون للمستقبل، لا لقراء استهلكتهم العادة والاطمئنان إلى مقروء منهك بالتقاليد. لكن فعلا من هذا القبيل لا يعد رصينا إذا غض الطرف عن ضرورة تبريره جماليا. ولا تعد حجة «أنا أكتب وعليك أنت أن تتحمل جريرة تبرير ما أفعل» مقبولة على الإطلاق. فتدمير الحبكة له أسسه المعرفية المرتبطة بحقبة التوه في أوروبا بعد ضمور السرديات الكبرى المفسرة للعالم، وله صلة بوصول العقلانية إلى مأزق فادح في تدبير التاريخ الحديث. أما نحن في المنطقة العربية فنعيش توها آخر من صنف مختلف، إنه توه التردد بين تبني منطق العصر والتحصن بالماضي الميت. ولهذا فكل تدمير للحبكة ينبغي أن يستند عندنا إلى موضعته في أفق مغاير يمثل في تمثيل مواز للحبكة يتخذ من الصيرورة الحدثية مجالا للتساؤل، ومعنى ذلك أن ينقلب السرد على نفسه، ويسائل فعله، من حيث هو بناء، ومن حيث هو قائم يين ضفتي المعقول (المسرود من حيث هو حبكة تقدم لنا ما نفهم به الواقع)، والمعاناة من تمثيله سرديا، والتي يمكن إظهارها بواسطة تمثيل الحدود بين الواقعي والوهمي، والغاية من ذلك أننا لا نعيش التوه إلا بوصفه ازدواجا في الشخصية العربية، وهذا الازدواج لا يظّهر إلا بواسطة مزيد من الشك في الحبكة التي يسردها القاص.
نستنتج مما سبق ذكره أن التجريب ضرورة جمالية مكونة للأدب، ويعد خاصية ملازمة له، لكن ممارسته هي رهن بتاريخية الكتابة، ورهن بالعصر وإشكالاته، واقتضاءاته الفكرية. ولا يمكن للتجريب أن يكون مبررا من خلال فعل فوضوي غير مبرر، ولا يعي حدوده، وغاياته، فأمر من هذا القبيل يخلف أثرا سلبيا، وينحو بالكتابة صوب الإسفاف، ويجعلها غير مقنعة البتة. فلا يكفي في القصة القصيرة، أو غيرها من الأجناس الأدبية، إدعاء التحرر من التقاليد، أو التحرر من ضيق ما هو مستهلك لكي تتحقق طليعية الكتابة، وجذريتها، بل لا بد من ربط أي جهد طليعي بتصورات جمالية مبنية تستند إلى وعي قادر على تبرير نفسه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى