د. السيد إبراهيم أحمد - قراءة في ديوان "فوق ختم العودة" للشاعر عادل نافع..



يخلق العنوان التقديمي السابق على عنوان الديوان ـ محل القراءة ـ إشكالية عند المتلقي توجب عليه أن يعاين الفارق بين الزجل وشعر العامية، وغالبًا ما لا يرى البعض هذا الفارق في كونهما إبداع بالعامية المجافية للفصحى، إلا أن البناء الفني وشكله للزجل هو الذي يحدد هويته باعتباره نظمًا شعريا غرضيًا يُصاغ بالعامية ويلتحم بالواقع ويعالج القضايا السياسية والاجتماعية والنقدية من منظور نقدي لا يقوم على نقل الأحداث كما هي ولكنه يعيد بناءها حسب الرؤية الفنية للزجال، أمَّا قصيدة العامية فتسعى إلى نقل حالة من التوتر الشعري للمتلقي عبر المفردات والتراكيب والصور. [انظر: محمد العزب: تحولات الشعر العامي بين الأصالة والمعاصرة].

كما يرى الشاعر الباحث عبد الستار سليم فن الزجل أنه: (شعر شعبي في شكل القصيدة العربية أي يشاركها الوزن والقافية وتعدد البحور الشعرية، ويختلف شعر العامية عن الزجل في المضمون والشكل والوسائل المستخدمة لصياغة مضمون التجربة؛ فالزجل يتناول غرضًا محددًا متضمنا الحكمة ومعتمدًا إيقاع يحمل العناصر المميزة للشعر العربي القديم كاستخدامه إيقاعًا واحدًا وبحرًا واحدًا ونمطًا واحدًا من القافية.

وهو ما التزم به الشاعر عادل نافع، في ديوانه: "عامية بتغريد زجل.. فوق ختم العودة" الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إقليم القناة وسيناء الثقافي، فرع ثقافة السويس عام 2023م، حيث استطاع أن يلتزم بقواعد القصيدة العامية في شرطها الشعري والجمالي والثقافي على الرغم من إبحارها في الحياة اليومية ومحافظًا، في نفس الوقت، على البناء الزجلي في تظمه الشعري، واعتماده على المفردات اللغوية الرشيقة.

كما تعانق القضية الغرضية لقصائد الديوان ومقطوعاته، في أغلبها، القضايا الحياتية في تنوعاتها بحسب رؤية الشاعر الإبداعية الإنسانية التي تصطبغ بنظرته، وفلسفته، والتي تؤكدها نهاياتها الحاسمة، وتمسكه بالنوعين، لما للشعر العامى من اكتمال عناصر الشعرية، من الصور والعوالم والحالات الشعرية، والإيقاع، والرموز الفنية، والتشكيلات الجمالية، والرؤى الفكرية إلى جوار الوزن والقافية، كما يرى أحمد مجاهد في تعريفه لشعر العامية.

يحاول الشاعر عادل نافع المحافظة على صوته المتفرد، وبوحه المتجدد في دوحة الشعر؛ مستكملا ما بدأه في ديوانيه: "أنا الحَكَّاي" و"عن شطي ليه تبعدي"، وقد سبق لي قراءتهما وتناولهما نقديًا، غير أنه أتى في الأول بحكايات ساخرة على أنغام الزجل، متساوقًا مع أحد أغراض فن الزجل وهي "الحكمة" التي سرت في ديوانه الذي بين أيدينا، حيث رصد الواقع اتكاءً على خبرته الإنسانية وربما أظهر فيها استشرافًا للمستقبل في أسلوب من القصائد التي تعتمد على البناء الحكائي المرسوم ببراعة الحركة الكامنة فيه، كما سيبدو في إيراد مقتطفات منه.

يرسم الإهداء الذي تصدَّر الديوان لوحة من وفاء الابن نحو الأم في مناجاة لا تنتهي بينه وبينها؛ فكل أبياته التي كتبها ويكتبها وسيكتبها مهداة إليها، وهي في ذاتها الحديث الممدود بينهما، فكيف ينتهي بينهما طريق التلقي من الأم "المُعلمة" والابن "التلميذ"، فيقول:

لأغلى حضن علمني معاني العِشرة بالمعروف

لأجمل ضي لملمني في نور العِبرة والآية

في حضنك بس يا أمي لغيت كل معاني الخوف

وحتى لما سبتيني بذورك طارحة جوايا

عشانك بس يا أمي

أنا بهديكي أبياتي كأني معاكي باتكلم

عشانك بس يا أمي

حكيت للحرف حكاياتي وأنا بضحك وبتألم

ولا يكتفي الابن البار بكلمات الإهداء، وإن كانت معبرة، فيرسل لأمه التحيات في ثنايا الديوان في قصيدة "تحياتي" التي لا تخرج في كثير عن بعض موضوعات القصائد الأمومية التي لم يبذل الشاعر فيها جهده من الاختلاف في الموضوع شكلا ومضمونا، فبدت سهلة إلى حد المباشرة.

ولقد لفت انتباه الشاعر أن "الأم" في ذاتها "وطن" مما حدا به أن يجعل قصيدة "تحياتي" متوسطة الموقع الجغرافي في ديوانه بين القصائد التي أتت مفتتحًا جيدًا لحدائق الديوان، وخاصة تلك التي رشرشها بحبه للوطن في أحاسيس صادقة، رسمها بيد فنان يجيد سبك المعنى في ألفاظ خلت من المباشرة، وأتت جلية بالصور الندية التي صاغت معاني عشق الوطن المشتركة بين المصريين في لوحات غلَّقت ألوانها فهم الشاعر لكل ما يحيط ببلده من قضايا أشار إليها.

تُعانق الحكمة الوطنية عبر قصائد الديوان؛ فقد تخترق بعض كلمات ومعانٍ عن الوطنية قصيدة موضوعها الحكمة، تمامًا مثلما قد تسكن بعض كلمات حكيمة بروج الوطنية، دون افتعال أو قصد من لغو أو حشو أو سهو؛ فسيلاحظ القارئ أن قصائد الديوان الوطنية ومقطوعاته أتت من صدر شاعر يدري ما معنى الوطن والوطنية دون افتعال أو مزايدة أو متاجرة أو ضجيجٍ ممجوج مطروق الكلمات والمعاني، ولعل من سيقرأ هذا النوع من القصائد والمقطوعات سيتكشف له ما قلتُ دون عناء، وهذه القصائد والمقطوعات تحمل عناوين: "محدش لينا هيقسِّم"، "أنا ابن النيل"، "حروفها تلاتة"، "كلمة وطن"، "شريان حياة"، "هاتي التاريخ واشهدي".

يغطي شعر الحكمة معظم صفحات الديوان سواء الذي جاء على شكل قصيدة أو مقطوعة أنتجها الشاعر بنفس صافية صادقة تتردد نبرات خبرته ومعاناته والوصول إلى بر النجاة في كلماتها، غير أن أهم ما يميز قصائد الديوان أن الوطنية لم تكن زاعقة، كما لم تكن الحكمة مصطنعة، وأتت القصائد تحمل في داخلها جمالياتها، من حيث التشكيل والتصوير، والمرتكز الفكري والثقافي للقضايا المثارة في باطن تراكيبها، في بساطة غاية في التعقيد؛ فأما البساطة فأتت من تشكيل الكلمات في سلاسة، وأتى التعقيد في المعنى الملغز والمفاجئ والصادم للقارئ الذي سيتوقف ليعاود ثانية القراءة ثم التفكير وإيجاد أكثر من تفسير، والبحث عن دليلٍ يجعل من الشاعر مثقف مفكر يعني ويقصد ما يقول، أم أن ما قاله ليس إلا فذلكة شاعر يُزين القصيدة؟

والغالب أن للشاعر محددات وطنية استقاها من قضايا الساعة، ومنها تقسيم الوطن بحسب تصور الفكر الكولونيالي الاستعماري الجديد، وهو يرفض الأمر جملة وتفصيلا:

صباح الدمع

لما الدمع يتبسم

صباح الورد

لما بعطره يتنسم

صباح مشرق بإشعاعك

على خد القمر يرسم

تصبح شمس أحلامك

على عيونك

تغنيلك مواويلك

وتحكيلك وتتبسم

وأنا أكتب الغنوة بإحساسي

وأجيب اللحن وأقسم

يا مصر يا دنيتي وناسي

محدش لينا ها يقسِّم

محدش ليكي ها يقسِّم .. [محدش ليكي ها يقسِّم .. ص7].

وكما يرفض تقسيم مصر أرضًا وشعبًا، يرى أن ماضيها في حضاراتها السابقة يجعلها مزهوة، وفخورة ومعتدة على حاضر أبنائها في الحاضر دون تحديد زمن البدء والنهاية:

تملي ماضيها يتمنظر

على حاضر بليد فاني.. [حروفها تلاتة .. ص13].

وهو المصري الصادق في وطنيته، حين عدَّدَ أنواع الدموع في قصيدته: [السر في عينيها]، يصرخ في وجه أدعياء الوطنية، وهواة البكاء على حال الوطن:

أفدي الوطن بالروح

مش بس بالإدماع .. [ص28].

يستدعي الشاعر خطاب الذات في بعض قصائده، حيث تعني الذات عند الأدباء والشعراء والنقاد ـ عموما ـ التعبير عن نزعات النفس الإنسانية بأسلوب تظهر من خلاله العلاقة المباشرة بين النص والذات المنشئة، من جهة إحالته على الشاعر المنشئ له، بتعبيره ـ عادة ـ عن ضمير المتكلم مباشرة، كما يقول دكتور صالح زيادة عن الشاعر والذات المستمدة.

ويتجلى هذا الخطاب في قصائد: "اسمح للحاضر يتعلم"، "فوق ختم العودة"، "الغربة جوه الذات"، ويستدعي الشاعر أسلوب الالتفات الضميري في قصيدة "اسمح للحاضر"؛ إذ عدل من خطاب ذاته بضمير المتكلم إلى خطاب الغير وصولا إلى فصل القول في الحكمة أو النصيحة وهو عين ما فعله مع مقطوعة "الغربة جوه الذات"، وقصيدة "فوق ختم العودة" غير أن الالتفات الضميري انتقل إلى خطاب "الدنيا" وهو يتمثلها امرأة مراوغة مخادعة لكنه يقظ ضد اغراءاتها.

يلجأ الشاعر عادل نافع إلى البنية التكرارية كظاهرة جمالية لتأسيس بعض قصائده؛ فالتكرار زيادة على كونه يؤدي وظائف دلالية معينة، فأنَّه يؤدي كذلك إلى تحقيق التَّماسك النصّي، وذلك عن طريق امتداد عنصر ما من بداية النص حتى آخره، باعتبار التكرار شكل من أشكال التَّماسك المعجمي، في الألفاظ والتراكيب والمعاني لتحقيق البلاغة في التعبير ولتأكيد الكلام والجمال في الأداء اللغوي، ويتمثل في تكرار لفظ أو عدد من الألفاظ في بداية كل جملة من جمل النص قصد التأكيد، وهذا التكرار في ظاهر النص يصنع ترابطا بين أجزاء النص بشكل واضح.[انظر: صبحي إبراهيم الفقي علم اللغة النصّي بين النظرية والتطبيق، وانظر: محمود سليمان ياقوت، علم الجمال اللغوي],

وقد استخدمه الشاعر في قصيدة: "كلمة وطن" في سؤال تكراري من بداية القصيدة لمنتهاها مع تعدد الإجابات، مثلما استخدمه في بداية قصيدة "آذان الفجر" وثناياها، ومختتم قصيدة "ناس نادرة":

وألف خسارة ع القسوة

يا ألف خسارة ع القسوة.. [ص61].

وقد أفرط نافع في استخدام التكرار في نهاية أغلب قصائد الديوان، ويبدو أنه خلط بين كونه يكتب القصيدة للقارئ في ديوان ليس مطلوبًا منه الإلحاح على ذهنيته في التلقي، وبين كونه شاعر يلقي قصيدة في منتدى بطريقة مسرحية قد تستدعي أو لا تستدعي أيضا التزام أو تكلف مثل هذا النهج الذي لا يزيد في بلاغة أو جماليات السبك النصي لمضمون قصيدته.

تبلغ ذروة الإبداع حدها عند عادل نافع في اقتران النقد الاجتماعي بجماليات القصيدة العامية، وإبراز مدى ثقافته المجتمعية التي تتجلى في مراقبته للواقع البشري المعيش، منتقلا من قضية تبدو محلية إلى مدار الإنسان أيًا ما كانت جغرافيته وجنسه ولونه ومعتقده في تعامله مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ فمن خلال قصيدة "تملي تقيس على حالك"، يرصد مرض اجتماعي صار مسيطرا وحاكما وقاضيا وناقضا وناقدا بغير علم أو فهم أو مقياس معياره الصدق والحق.

بينما يتناول في مقطوعة "نسيم الفجر" على قلة كلماتها ما تعج به صفحات المجلات العلمية الأكاديمية والمتخصصة في رصد عيوب ومساوئ وسائل التواصل الاجتماعي، وإن لم يصرِّح بها، تاركًا للقارئ المصري والعربي مساحة من التفكير المقارن وارتباطه بوقت الفجر في عصرين، دون أن ينهي أبياته لا بحكمة أو نصيحة، بل وضع الجميع من الجنسين في قفص الاتهام، وكأنه يعري المجتمع ويكشفه أمام نفسه تاركا لهم الحكم على أنفسهم، يقول:

زمان الفجر كان ياخد على خاطره

عشان ذكر القلوب لله يادوب مسموع

ودلوقتي نسيم الفجر متشبع على آخره

بناس سهرانه للصبحية

بتتكلم في 100 موضوع.. [ص71].

مازال الشاعر عادل نافع يخوض غمار موجات بحر الشعر المتدفق المتجدد، بعقل يفتح بواباته للتعامل مع جديد الأحوال بجديد الأقوال، كشاعر يعرف للشعر قدره؛ فيتعامل معه بقدر كبير من الجدية، والالتزام، والانتقال من ديوان إلى ديوان بثوب قشيب عنده ما يضيفه لدوحة الإبداع، وما يضيفه لذاته الشاعرة من مجد ومكانة، مع إصرار منه على الاحتفاظ بفرادة موقعه على خريطة السرد الشعري مهما تعددت الأصوات من حوله، وهو ما يعد مكسبًا لدولة القصيد، وأملاً لقارئه في انتظار المزيد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى