لم يكتب لي القدر أن أتقابل مع إلياس خوري وجها لوجه ، مع أننا اتفقنا في آخر حديث هاتفي بيننا ، وكان قبل مرضه ، وتحديدا بعد أن كتبت سلسلة مقالات حول رواية " رجل يشبهني " ، اتفقنا أن نلتقي واقترحنا أمكنة لذلك . أنا اقترحت بيروت وهو اقترح عمان أولا ثم ، لشدة تفاؤله بتحرير القدس، تمنى أن يكون اللقاء في القدس، ليرش المسجد الأقصى بماء الورد.
وفجأة شاع خبر مرضه، وفجأة انقطع التواصل بيننا، فهو في المشفى ولا يقوى على الردود على كثيرين.
في العام ٢٠٠٠ كتبت أول مقال لي عن رواياته، وتحديدا عن روايتيه "مملكة الغرباء" و"باب الشمس" مختارا صورة اليهود فيهما، ثم عندما صدرت رواية "يالو" في ٢٠٠٣ خصصتها بمقالة عن اللعب الروائي فيها، وهو أسلوب أثير لديه سينعكس في معظم أعماله منذ "مملكة الغرباء" وسيتوطد فيما تلاها من روايات ليبلغ ذروته في ثلاثية "أولاد الغيتو".
سأكتب ، بعد كتابتي عن اليهود في روايتيه واللعب الروائي في ""يالو " ، عن " كأنها نائمة " وعن " سينالكول " التي ترددت في بداية الأمر في اقتنائها .
يوم صدرت " سينالكول " ، وهي ، من وجهة نظري، أجمل ما كتب ، كنت أزور عمان ، وكلما زرتها عرجت على مكتبة فتحي البس " دار الشروق " . عرض علي أبو أحمد وسعدي البس نسخة من الرواية ولم آخذها . قلت لهم إنني قرأت أكثر أعمال إلياس ويجب أن أقرأ لغيره . وبعد عودتي ندمت .
كان شعوري بالندم لعدم اقتناء النسخة الأصلية من الرواية الصادرة عن دار الآداب يعود إلى أنني قرأت في مجلة "الكرمل" الجزء الخاص من الرواية الذي نشر إلى جانب جزء خاص من رواية لإبراهيم نصرالله.
ما إن انتهيت من قراءة الجزء المقتبس من سينالكول حتى ترددت على مكتبات نابلس أبحث عن الرواية كاملة ، وتمكنت من الحصول على نسخة مصورة منها .
سوف أقرأ الرواية بشغف وأكتب عنها مقالا نشرته في جريدة الأيام الفلسطينية عنوانه " إشكالية المؤلف والراوي والشخصية " ، وفيما بعد سوف أقترح الرواية على طالبتي نوال الستيتي لتكتب فيها رسالة ماجستير ، كما اقترحت من قبل على طالبتي أمل أبو حنيش Amal Abu Hanesh أن تكتب رسالة ماجستير عن رواية " باب الشمس " ، وقد تواصلت الطالبتان مع إلياس قبل أن أتواصل معه شخصيا .
عندما صدر الجزء الأول من ثلاثية " أولاد الغيتو " وهو " إسمي آدم " شرعت في كتابة سلسلة مقالات عنه نشرتها في زاويتي " دفاتر الأيام " ، ولما وصل عدد المقالات ال سبعة عشر مقالا هاتفني إلياس .
كان اليوم يوم جمعة ، وبدأ تعارفنا عبر الهاتف . يومها تحدثنا مدة ساعتين ، وكان يظنني من الأرض المحتلة ١٩٤٨ .
أحب إلياس كما قال لي أن يتعرف على هذا الناقد الذي كتب عنه سبعة عشر مقالا دون أن يكل أو يمل . أراد أن يعرف سر شغفي بالرواية وربما أراد أن يتغابى كما كان إميل حبيبي يتغابى معي كلما حدثني ، فتظاهر بتجاهل العارف . أما سبب ذهاب تفكيره إلى أنني من فلسطينيي ١٩٤٨ فيعود إلى ما كتبته عن صلة روايته بالأدب الإسرائيلي الذي وظفه في روايته كما لم يوظفه كاتب فلسطيني من قبل ، حتى إميل حبيبي نفسه أشهر من دحض الرواية الصهيونية في أعماله ، بل وحتى غسان كنفاني الذي كتب في ١٩٦٦ كتابه الشهير " في الأدب الصهيوني " .
***
2- إلياس والأدب الإسرائيلي
يعد إلياس خوري من أدباء عرب قليلين التفتوا إلى الأدب الإسرائيلي الذي التفت إليه بعض دارسين عرب ، بعد التفات كنفاني وبسيسو له ، وهنا أخص أساتذة بعض الجامعات المصرية مثل إبراهيم البحراوي وعبد الوهاب وهب الله ورشاد الشامي ، ومثل الفلسطينيين صلاح حزين ووليد أبو بكر ومحمد الأسعد ، ولست متأكدا بالضبط إن كان الأساتذة المصريون قرأوا هذا الأدب بالعبرية كما قرأه فلسطينيو ١٩٤٨ . لقد قرأ كنفاني وبسيسو وخوري وحزين والأسعد وأبو بكر الأدب بالإنجليزية ، وفيم ركز كنفاني على الأدب الصهيوني المكتوب في الغرب باللغة الإنجليزية أساسا ، اهتم أكثر الباقين بالأدب الإسرائيلي المكتوب بالعبرية المترجم إلى الإنجليزية ، ومن هنا نجد الفرق في عناوين الدراسات . استخدم كنفاني دال " الصهيوني " فيم استخدم الآخرون وأولهم بسيسو دال " الإسرائيلي " وتكرر هذا الدال في كتابات إلياس وأولها روايته " مملكة الغرباء " ، إذ كان يميز بين إسرائيلي يميني وإسرائيلي يساري وقد التقى ، وهو في نيويورك ، بإسرائيليين ، وحادثهم ، ولم يمانع ذات مرة من إجراء حوار مع صحيفة إسرائيلية ( هآرتس ) ؛ حوار جلب له المتاعب ، وما زال يعير به ( جريدة " البناء " اللبنانية ).
عندما قرأت أمس يسارية فلسطينية نشطة ما كتبته تحت عنوان " في وداع إلياس خوري " أعلمتني أن زميلة لها ، وهما تناقشان بعض رواياته في ملتقى ثقافي ، استغربت من مناقشة أعماله .
" لقد همست في أذني : إنه مطبع " .
وهذا ما سمعته مرة من الروائية ليلى الأطرش التي التقيتها في معرض الكتاب في رام الله يوم كرمها الفلسطينيون لفوز روايتها " ترانيم الغواية " بجائزة القدس .
على هامش المعرض التقيت بليلى التي اندهشت من كتابتي سبعة وثلاثين مقالا في جريدة الأيام الفلسطينية عن " أولاد الغيتو : إسمي آدم " ، إذ رددت إشاعة اتهامه بالتطبيع ، ولما طلبت منها دليلا ذكرت قصة اجرائه حوارا مع صحيفة إسرائيلية وأتت على ترجمة أعماله إلى العبرية ، واليوم صباحا أرسلت إلي الزميلة الفلسطينية اليسارية النشطة مقالا لما أقرأه بعد عنوانه " إلياس خوري : الفتى المدلل لإسرائيل "( صحيفة البناء ). كأنما ألم بإلياس ما ألم بمحمود درويش وإميل حبيبي أيضا ، والطريف أن الشاعر المتهم بتطرفه أحمد حسين ، وهو شقيق الشاعر راشد حسين ، له في إلياس رأي يجدر أن يقرأه المهتمون بهذا الجانب . وشخصيا أرى أن الأمر بولغ فيه مبالغة كبيرة ، فما قدمه إلياس ، لخدمة القضية الفلسطينية ، لم يقدم مثله أي مثقف عربي ، ولا أبالغ إذا قلت أيضا لم يقدمه كثيرون من مثقفينا وأدبائنا .
وإذا كان كنفاني عرفنا بالأدب الصهيوني وأدباء المقاومة الفلسطينية في الأرض المحتلة في ١٩٤٨ ، وإذا كان بسيسو قدم لنا نماذج من الرواية الإسرائيلية ، وكلاهما تناص معها في بعض أعماله تناصا خفيا لا يعرفه إلا الدارس القاريء ، فإن تناص خوري تناص علني ظاهر ، وهو ما جعلني أخص روايته " أولاد الغيتو : إسمي آدم " بعدة مقالات شكلت فصلا من الكتاب عنوانه " إلياس خوري والأدب الإسرائيلي " . لقد قدم لنا نماذج من هذا الأدب وقدم لنا أيضا رأيه فيه ، وكذلك تابع مهمة كنفاني في إضاءة أدب المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج من خلال نماذجه البارزة : غسان كنفاني وراشد حسين ومحمود درويش وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا . إنك وأنت تقرأ " باب الشمس " وثلاثية " أولاد الغيتو " تقرأ أدب هؤلاء .
إنني شخصيا أعترف بأن كتابات الأسماء الواردة أثرت ما كتبته من دراسات وعادت علي بفضل لا يقل عن الفضل الذي أزجاه هؤلاء لخدمة الإنسان العربي حين كتبوا تحت شعار " اعرف عدوك " .
في العام ١٩٩٣ كتبت دراسة صدرت في كتيب عنوانه " الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني " ، وقد أثرت ثلاثية " أولاد الغيتو " ثقافتي في هذا الجانب وأكثر ، ومن خلال الثلاثية مثلا عدت إلى رواية الروائية الايرلندية ( ايثيل مانين ) " الطريق إلى بئر سبع " ، وهي رواية تناص معها خوري ، وما كتبته عن علاقة التناص بين الروايتين دفع قراء عديدين للبحث عنها وقراءة سفر الخروج الفلسطيني من اللد في العام ١٩٤٨ . كان هذا بفضل إلياس الذي ما إن أنهيت مقالاتي السبعة والثلاثين عن روايته حتى اتصل بي ثانية .
١٩ / ٩ / ٢٠٢٤
***
3- كتاب "أسئلة الرواية العربية: أولاد الغيتو، إسمي آدم ، إلياس خوري نموذجا"
مرة فكرت في أن أصدر كتابا عنوانه " أدباء عرب رافضون " أنشر فيه ما كتبته عن محمد الماغوط وأحمد مطر ومظفر النواب وعبد الرحمن منيف وممدوح عدوان وإلياس خوري وأحلام مستغانمي ، ولكنني لم أحقق ما فكرت فيه ، وظلت أكثر كتاباتي تركز على الأدب الفلسطيني ، بالإضافة إلى الشاعر العراقي مظفر النواب والروائي عبد الرحمن منيف اللذين قرأتهما منذ سبعينيات القرن العشرين .
في اتصاله الثاني سألني إلياس عما سأفعله بهذه المقالات . هل سأتركها على حالها في الصحيفة ، فتموت ولا ينتفع بها قاريء أو دارس ؟
وأجبته بأنها تحتاج إلى إعادة ترتيب وتنسيق حتى تكون مناسبة للصدور معا في كتاب ، بالإضافة إلى ما كنت كتبته عن روايات سابقة له ، باستثناء ما كتبته تحت عنوان صورة اليهود في روايتي " مملكة الغرباء " و " باب الشمس " ، فقد نشرت في كتاب " جدل الذات والآخر : اليهود في الرواية العربية " ( ٢٠١٢ ) .
سألني إلياس :
- أين تفكر في نشر الكتاب ؟
فأجبت :
- صدر لي كتاب في دمشق وثان في القاهرة ، ولدي رغبة في أن يصدر هذه المرة في بيروت ، بخاصة أنك كاتب من لبنان .
واقترح علي أن أعيد تنسيق ما كتبت وإرساله معا لينظر فيه ، وقد راق له التنسيق ورأى فيه كتابا يليق نشره في دار الآداب ، وهذا ما تحقق .
هل أنصفت الروائي فيما كتبته ؟
هناك كتب عربية قليلة أنجزت حول عمل روائي واحد لكاتب ، أنجزها نقاد عرب مرموقون مثل جورج طرابيشي فيما كتبه عن إحدى روايات حنا مينة ، ومثل كتاب سعيد يقطين في دراسته رواية جمال الغيطاني " الزيني بركات " ، وكانت لافتة حقا . طبعا درست بعض روايات نجيب محفوظ ورواية إميل حبيبي " المتشائل " في كتب خاصة بها . وغالبا ما يشرح الناقد العمل الأدبي من جوانبه كلها ؛ موضوعا وشكلا .
هل اعترض إلياس على بعض ما ورد في الكتاب ؟
ربما كان أهم ما دار في الحوار بيننا هو إشكالية تصنيف ما كتب ؟ وهذه الإشكالية شغلت تفكيره في الرواية نفسها من ألف الرواية حتى يائها ، وستشغله أيضا في الجزئين الثاني " نجمة البحر " والثالث " رجل يشبهني " ، وكان يتمنى لو أقرأ الأجزاء الثلاثة معا وأخصها بدراسة ، وعندما أعلمني في آخر اتصال به أنه يكتب رواية جديدة اقترحت عليه بعض اقتراحات بخصوص كتاباته كلها طالبا منه أن يتخفف منها ، وهذا ما سأكتب عنه لاحقا .
غالبا ما سئلت من قراء عديدين عن تصنيفي للرواية . هل هي رواية ؟ والسؤال هذا قبل أن يلح على القراء ألح على إلياس نفسه .
في العام ٢٠١٩ قررت أكاديمية القاسمي في باقة الغربية عقد مؤتمر عن العبر نصية وتداخل النصوص ، فانتهزتها مناسبة للكتابة عن " إشكالية التجنيس في الرواية العربية : إلياس خوري نموذجا " وكتبت عن الجزئين الأول والثاني .
هل ما كتبه إلياس في ثلاثيته يدرج تحت جنس الرواية ؟
ومع أن طالبتي جامعة النجاح الوطنية اللتين أشرفت على رسالتيهما كتبتا رسالتين جيدتين وطلبت منهما أن ترسلاها إليه عله ينشرهما ، كعادة كتاب كثيرين يقدمون بشغف على نشر ما يكتب عنهم ويحتفلون به ويقيمون ضجة و " رجة " و " هيزعة " إلا أن إلياس لم يفعل ذلك . لقد اكتفى بقراءة الرسالتين واحتفظ بهما .
هل دار في الاتصال الثاني بيننا جدل حول كتابته عن اللد التي لم يرها ؟
لقد أخذ الجدل بيني وبينه حول هذه الإشكالية في الاتصالات اللاحقة يتواصل ، وتواصل أحيانا فيما كتبه من مقالات لجريدة القدس العربي حيث كتب غير مقال ذكر طروحاتي فيه وناقش ما ذهبت إليه .
٢٠ / ٩ / ٢٠٢٤
***
4- روائي التاريخ الفلسطيني
وأنا أكتب عن الجزء الأول من ثلاثية "أولاد الغيتو" لفت الصديق أكرم هنية رئيس تحرير جريدة الأيام الفلسطينية التي أنشر فيها مقالاتي نظري إلى أمرين؛ الأول حجم المقال والثاني أن طبيعة الزاوية لا تحتمل سلسلة مقالات في موضوع واحد في جانب واحد هو الجانب الأدبي، ومعه الحق في ذلك.
لم يكن رئيس التحرير هو من اعترض على سلسلة المقالات وحسب، واعتراضه لجانب فني صحفي ، وإنما أبدى بعض الكتاب والقراء امتعاضهم فقالوا "دوشتنا ب إلياس خوري صاحبك". ومع ذلك فقد كان علي أن أواصل الكتابة.
رواية "أولاد الغيتو: إسمي آدم" رواية غنية ثرية بالمعلومات. رواية تستثير لدى الناقد الأدبي المصطلحات النقدية التي يمتلكها والكتب التي قرأها، وهي بقدر ما تثري قارئها تغني كتابة من يكتب عنها وتخرج لديه مخزون قراءاته، فيكتب نصا نقديا ثريا يوازي النص الروائي. كأنما ينطبق عليها هنا المثل "رافق المسعد تسعد". ومن قبل فعلت الشيء نفسه فيما كتبته عن حضور مظفر النواب في فلسطين وتحليل قصيدته "بحار البحارين" ١٩٩٩، وفيما كتبته أيضا عن جدارية محمود درويش "أرض القصيدة: جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره" ٢٠٠٠.
عندما صدر الجزء الثاني من الرواية وعنوانه "أولاد الغيتو: نجمة البحر" كان كتابي عن الجزء الأول صدر، وكانت ملاحظات رئيس تحرير الجريدة في ذهني. هل سأكرر التجربة؟
"إن كان حبيبك عسل لا تلحسه كله" يقول مثلنا الشعبي، ولذا اكتفيت بكتابة مقالين للجريدة عنه- أي الجزء الثاني، ولكن ذلك لم يفرغ كل ما استثاره لدي، وهنا لجأت إلى الكتابة التي صارت لدي نهجا، وهي تفكيك النص الروائي بالكتابة عنه في الفيسبوك. الكتابة اليومية الأشبه بطريقة الباحث القديم، وهي تفريغ الملاحظات على جزازات وتدوين ملاحظات عليها، لأعود إلى ترتيبها.
عندما كتب إلياس "باب الشمس" أورد في صفحتها الأخيرة قائمة بأسماء الأشخاص الذين ساعدوه في إنجازه، بالحصول على المعلومات أو الاصطحاب إلى مخيمات اللاجئين في بيروت. كان هو البيروتي يذهب إلى المخيمات الفلسطينية، صحبة بعض معارفه، ويزور العائلات هناك ويصغي إليها ويتناول الطعام معها، فعرف الفلسطينيين عن قرب، وعرف مدنهم وقراهم وعاداتهم وتقاليدهم وأصغى إلى لهجاتهم. طبعا لم يكتف بذلك، فقد قرأ أيضا ما كتبوه وما كتبه عنهم الإسرائيليون، وهكذا كتب روايته التي عدها المرحوم الشاعر أحمد دحبور رواية القضية الفلسطينية الأعم والأشمل.
هكذا كتب إلياس عن أم حسين كما كتب غسان كنفاني عن أم سعد. كلاهما لم يقم في المخيم ولكن كليهما عرف سكانه عن قرب. كانت أم سعد تخدم في بيت الراوي / غسان، فيم ذهب إلياس إلى بيت أم حسين وتناول الطعام معها ومع عائلتها، وحين كتب عن مجزرة شاتيلا وصبرا كتب كما كتب الفرنسي (جان جينيه). كتب عن مكان زاره والتقى بسكانه. هل أفاد إلياس من تجربة (جينيه) الذي عرف الفلسطينيين في الأردن في قواعدهم وفي مخيماتهم هناك وعرفهم أيضا في لبنان، وحين كتب عن شاتيلا كتب كتابة الكاتب المعايش المجرب المشاهد؟. هل أفاد إلياس منه وتتبع خطاه؟ ولكن إلياس في الجزئين الثاني والثالث كتب عن حيفا ويافا وجنين ونابلس والخليل و... وهذا ما كان موضع جدل بيني وبينه، وهو ما سأكتب عنه في الحلقة الخامسة التي سأتناول فيها المثل الذي أورده في الجزء الثاني وهو "أشطر من ضومط على العجم".
السبت ٢١ / ٩ / ٢٠٢٤
***
5- جدل حول مثل "أشطر من ضومط على العجم"
في ٢٦ / ٧ / ٢٠١٩ كتبت عن ضومط اللبناني في رواية إلياس "نجمة البحر" ما لم يرق له.
تأتي الرواية على قصة حب آدم مع ابنة معلمه اليهودي الذي عده مثل شقيقه الأصغر، وفي أثناء حوار آدم ورفقة تنعته بأنه عربي ويكذب وتورد مثلا سمعته من أبيها هو "أشطر من ضومط على العجم". لم يكن آدم سمع من قبل بالمثل فتتهمه بالكذب، إذ ما من أحد في حيفا إلا سمع به، فقد شاع على ألسنة الناس. ولضومط حكايته مع البهائيين، إذ رفض بيعهم قطعة الأرض الخاصة به إلا بالسعر الذي حدده. (صفحة ١٢٩ وما تلاها).
أردت شخصيا أن أتأكد من صدق ما ورد على لسان رفقة عن أبيها "إن قصة ضومط صارت على كل شفة ولسان، وصار الرجل مضرب مثل"، فسألت أهل حيفا، ممن بقوا فيها، إن كانوا سمعوا بالمثل الذي رددته الشابة اليهودية ابنة الخامسة عشرة من عمرها، فما عرفه أحد من الذين سألتهم ومنهم من كان طاعنا في السن مثل والد المحامي فؤاد نقارة، بل ومنهم مؤرخ المدينة الدكتور جوني منصور. في تلك الفترة التقيت بالقاص الفلسطيني توفيق فياض الذي أنفق شبابه في حيفا حتى ١٩٧٤ وسألته إن كان سمع بالمثل وعرف قصته، فصصح الاسم ضومط إلى ضامط، وقد صغت الحوار بيننا في مقال نشرته في جريدة الأيام الفلسطينية في ٢٦ / ٧ / ٢٠١٩ (توفيق فياض آخر أدباء المقاومة في فلسطين).
أثار ما كتبته عن المثل إلياس ما دفعه لكتابة مقال تحت عنوان "ضومط الحقيقي وضومط المتخيل" نشره في القدس العربي في ٣٠ / ٧ / ٢٠١٩ أتى فيه على المصدر الذي اعتمد عليه وهو ليلى شهيد، فقد سمعه منها، ودافع إلياس عن كتابته رافضا ما وجهته إليه من نقد، وهو الكتابة عن حيفا التي لم يرها ولو زيارة.
غالبا ما سببت لي الكتابة عن أعمال كتبها أصحابها عن أماكن لم يقيموا فيها ولم يزوروها وجع رأس ، إذ لم يحتملوا النقد الذي وجهته لرواياتهم؛ من الكاتب حسن حميد إلى الكاتب إبراهيم نصرالله إلى إلياس نفسه، وغالبا ما أفسدت الود بيننا، ولكن إلياس اكتفى بالعتب، فلم تنقطع العلاقة بيننا وبقينا على تواصل وطلب مني ما كتبته عن الثلاثية، فقد أرادت مترجمته إلى البرتغالية في سان باولو، وهي صفا جبران Safa Jubran، قراءة ما كتب عن الثلاثية.
عندما كتب إلياس الجزء الثالث من "أولاد الغيتو" وهو "رجل يشبهني" خص مدينة نابلس بفصول منها وترك مواطنيها يتكلمون أحيانا باللهجة النابلسية، فاختلطت اللهجات على ألسنتهم ونطقوا أحيانا بلهجة بعيدة عن لهجتهم التي تمنحهم هوية خاصة بهم، وفي اتصال بيني وبينه، وفيما كتبته عن هذا الجانب قلت له:
- كنت اتمنى لو أنك عرضت روايتك على غير قاريء فيما يخص اللهجات. لهجة أهل نابلس على نابلسي، ولهجة أهل حيفا على حيفاوي، ولهجة أهل الخليل على خليلي.
ولم يكن المثل "أشطر من ضومط على العجم" هو الخلاف الوحيد في تقييمي للرواية وإصدار قليل من الأحكام حولها لم ترق له. حقا إن أكثر ما كتبته أبهره، ولكن أقله كاد يفسد بعض ود بيننا، إلا أن حبل الوصل لم ينقطع حتى مرضه.
في الحلقة السادسة سوف أكتب عن كتابته عن نابلس.
٢٢ / ٩ / ٢٠٢٤
***
6- الكتابة عن نابلس
"يسرى لم تتكلم، وأنا حين أكتب اليوم، أرى نابلس وأحواشها وقبابها وقد تلونت بشعاع يخرج من عينيها. لا أدري الآن كيف رأيت تفاصيل ملحمة جبل النار. هل رأيتها أم هناك من رآها وأملى علي ما أكتب؟" (رجل يشبهني ٢٣٦).
في الكتابة عن "رجل يشبهني" كتبت مقالا عنوانه "على خطا إميل حبيبي"، وكان موضع نقاش بيني وبين إلياس دفعني لأن أكتب مقالا عنوانه "جدل الروائي والناقد".
في مقالي الأول اتكأت على ما قاله حبيبي عن رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (١٩٦٩). أراد أن يتأكد من دقة معلومات الرواية فتتبع خطى شخصيتها الرئيسة سعيد. س وزوجته صفية، فاكتشف خطأ. بدلا من أن توصله الطريق إلى الميناء أوصلته إلى الجبل.
وصف إلياس نابلس وأتى على بعض أحداث جرت في ٢٠٠٢ في أماكن محددة ذكرها معتمدا على وصف شابة نابلسية، واكتشفت بعد التدقيق عدم الدقة. وقد كتبت عن هذا.
لم تكن الأخطاء في حسب المكان وحسب، فلقد دققت في لهجة الشخصيات النابلسية في الرواية. أنطق إلياس شخوصه النابلسية بلهجة لم تكن نابلسية دائما. أحيانا بدت لبنانية.
ما لفت نظري أكثر هو ما كتبه عن الكنافة النابلسية وتناولها بالخبز. كتب إلياس عن طريقة اللبنانيين في أكلها بالكعك اللبناني، لا أكلها أحيانا بالخبز على عادة أهل الريف غالبا وبعض النابلسيين واللاجئين أحيانا. لقد كانت كتابته عن الكنافة حافزا لي لأكتب حلقة خاصة تحت عنوان "الكنافة النابلسية في الرواية العربية"، وقد تحدثنا؛ إلياس وأنا في الموضوع في اتصال هاتفي.
لم يكتب إلياس ما يتردد في نابلس والريف عن كنافة الصباح وكنافة المساء. وغالبا ما يتندر أهل المدينة وأهل الريف في هذا. كنافة الصباح غير متقنة لأن الريفيين يأكلونها حين يزورون المدينة صباحا، وكنافة المساء متقنة لأنها تصنع خصيصا لأهل المدينة، فلا غش ولا تعجل ولا قطر زيادة.
ما من مواطن نابلسي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات لم يسمع بكنافة الفتفوت.
كان محل الفتفوت، وهو أقرب إلى الشخصية الفولكلورية، يقع في السوق الشرقي، وأكثر زبائنه ريفيون كأنما تصنع الكنافة لهم، وكان غالبا يكرر عبارته الشهيرة:
- إلكن إلكن . كلوها سخنة أبل (قبل) ما تبرد. اليوم بكرا إلكن إلكن.
سرت العبارة على الألسن وما زال قسم منا يرددها ويسحبها على أطعمة أخرى غير الكنافة. إلكن إلكن. ويبدو أن الفتاة التي قصت على آدم / إلياس الأحداث لم تسمع بالفتفوت ومحله.
هل هذا هو الجدل كله الذي دار بيني وبينه؟
لعلني أختتم هذه التداعيات في الكتابة القادمة!
٢٣ / ٩ / ٢٠٢٤
***
7- يغتالني النقاد أحيانا
سر إلياس أكثر ما كتبته عن رواياته ولكنه استاء من أقله ، فانطبق عليه قول الشاعر أبو البقاء الرندي ، في الدهر ، معكوسا :
" هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان "
وفي الاتصال الأخير بيننا ، قبل مرضه ، سألته عن مشاريعه القادمة ، فأخبرني أنه يكتب رواية جديدة ، وهنا سألته إن كان صدره يتسع لبعض ملاحظات أزجيها له ليأخذ بها في أثناء إنجازه الرواية الجديدة ، فأجاب : هات .
عندما كتبت عن الجزء الثالث من " أولاد الغيتو " تساءلت إن كان جزءا ثالثا أم رابعا أم خامسا أم سادسا أم سابعا ، فإلياس منذ " مملكة الغرباء " يحضر في رواياته وتشعر - أو هذا هو ما شعرت به شخصيا - أنه يكتب عملا متواصلا ، وكان دليلي أن الجزء الثالث يدخل في علاقة تناص واضحة مع رواية " باب الشمس " .
أكثر مما سبق يلحظ القاريء الناقد أن هناك أكثر من خيط مشترك بين شخوص رواياته يعود إلى شخصية إلياس نفسه . إن جميع شخصياته ورواته مغرمة بالشعر القديم فتجدها تردد الشعر على لسانها ، وإن اختلف مستواها وبيئتها ، وهي مولعة باللعب الروائي وتسحرها اللغة غالبا ، وتهتم بقضية المحو ، وبالكاد تخلو رواية من إعجاب بمحمود درويش أو تأثر خفي بشعره ، عدا التنظيرات النقدية الأدبية والميل إلى أسلوب التكرار المتأثر به من قراءاته ل " ألف ليلة وليلة " .
لقد اقترحت عليه أن يتخفف من التنظير النقدي والكتابة عن اللعب الروائي والاحتفال بالشعر القديم وأسلوب التكرار ، وأن يراعي أنه يكتب رواية لقراء متعددين مختلفين ثقافة أكثرهم عادية وهم يلهثون وراء الحدث ، وجاء المرض اللعين . زاره كحمى المتنبي وأكثر ، ففتك به دون أن يتمكن من إكمال روايته ، وفي آخر مقالاته ( ١٣ / ٨ / ٢٠٢٤ ) كتب مقالا عنوانه " اغتيال الاستعارة " اتكأ فيه على قصيدة محمود درويش الواردة في أثر الفراشة " اغتيال " التي ينهيها بقوله :
" يغتالني النقاد أحيانا
وأنجو من قراءتهم ،
وأشكرهم على سوء التفاهم
ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة " .
وهي قصيدة كتبت عنها ، في حياة محمود درويش ، دراسة تعد الأجمل فيما كتبته عنه .
هل كان إلياس في مقالته يخاطبني كما خاطبني محمود درويش في غير قصيدة ؟
لست أدري !
عندما قرأت مقالين له كتبهما في أيار ٢٠٢٤ وحزيران ٢٠٢٤ تحت عنوان " خندقجي والرواية الأسيرة " و " مدينة تكرر نفسها " توقفت أمامهما مطولا وأبديت رأيي فيهما . هل هناك من أوصل له اجتهادي فيهما فكتب عن النقاد الذين يغتالونه ، أم أن صدى ما كتبته عن كتابته عن مكان لم يره ولم يزره ظل عالقا في ذهنه ؟
عندما أنجزت سلسلة مقالات عن الجزء الثالث " رجل يشبهني " طلب إلياس مني أن أرسلها له مع ما كتبته عن الجزء الثاني " نجمة البحر " وهي بحوزته كاملة ، فهل ستقوم دار الآداب في بيروت بطباعتها معا احتفالا بالراحل ؟
وثمة كتابة تبقى في النفس . عندما بحثت عن المراسلات في الماسنجر بيننا تعذر تحميل رسائله لي ، وهكذا كتبت من الذاكرة دون توثيق .
إلياس خوري وداعا .
٢٤ / ٩ / ٢٠٢٤
***
=============
1- في وداع إلياس خوري
2- إلياس والأدب الإسرائيلي
3- كتاب "أسئلة الرواية العربية: أولاد الغيتو، إسمي آدم ، إلياس خوري نموذجا"
4- روائي التاريخ الفلسطيني
5- جدل حول مثل "أشطر من ضومط على العجم"
6- الكتابة عن نابلس
7- يغتالني النقاد أحيانا
.
وفجأة شاع خبر مرضه، وفجأة انقطع التواصل بيننا، فهو في المشفى ولا يقوى على الردود على كثيرين.
في العام ٢٠٠٠ كتبت أول مقال لي عن رواياته، وتحديدا عن روايتيه "مملكة الغرباء" و"باب الشمس" مختارا صورة اليهود فيهما، ثم عندما صدرت رواية "يالو" في ٢٠٠٣ خصصتها بمقالة عن اللعب الروائي فيها، وهو أسلوب أثير لديه سينعكس في معظم أعماله منذ "مملكة الغرباء" وسيتوطد فيما تلاها من روايات ليبلغ ذروته في ثلاثية "أولاد الغيتو".
سأكتب ، بعد كتابتي عن اليهود في روايتيه واللعب الروائي في ""يالو " ، عن " كأنها نائمة " وعن " سينالكول " التي ترددت في بداية الأمر في اقتنائها .
يوم صدرت " سينالكول " ، وهي ، من وجهة نظري، أجمل ما كتب ، كنت أزور عمان ، وكلما زرتها عرجت على مكتبة فتحي البس " دار الشروق " . عرض علي أبو أحمد وسعدي البس نسخة من الرواية ولم آخذها . قلت لهم إنني قرأت أكثر أعمال إلياس ويجب أن أقرأ لغيره . وبعد عودتي ندمت .
كان شعوري بالندم لعدم اقتناء النسخة الأصلية من الرواية الصادرة عن دار الآداب يعود إلى أنني قرأت في مجلة "الكرمل" الجزء الخاص من الرواية الذي نشر إلى جانب جزء خاص من رواية لإبراهيم نصرالله.
ما إن انتهيت من قراءة الجزء المقتبس من سينالكول حتى ترددت على مكتبات نابلس أبحث عن الرواية كاملة ، وتمكنت من الحصول على نسخة مصورة منها .
سوف أقرأ الرواية بشغف وأكتب عنها مقالا نشرته في جريدة الأيام الفلسطينية عنوانه " إشكالية المؤلف والراوي والشخصية " ، وفيما بعد سوف أقترح الرواية على طالبتي نوال الستيتي لتكتب فيها رسالة ماجستير ، كما اقترحت من قبل على طالبتي أمل أبو حنيش Amal Abu Hanesh أن تكتب رسالة ماجستير عن رواية " باب الشمس " ، وقد تواصلت الطالبتان مع إلياس قبل أن أتواصل معه شخصيا .
عندما صدر الجزء الأول من ثلاثية " أولاد الغيتو " وهو " إسمي آدم " شرعت في كتابة سلسلة مقالات عنه نشرتها في زاويتي " دفاتر الأيام " ، ولما وصل عدد المقالات ال سبعة عشر مقالا هاتفني إلياس .
كان اليوم يوم جمعة ، وبدأ تعارفنا عبر الهاتف . يومها تحدثنا مدة ساعتين ، وكان يظنني من الأرض المحتلة ١٩٤٨ .
أحب إلياس كما قال لي أن يتعرف على هذا الناقد الذي كتب عنه سبعة عشر مقالا دون أن يكل أو يمل . أراد أن يعرف سر شغفي بالرواية وربما أراد أن يتغابى كما كان إميل حبيبي يتغابى معي كلما حدثني ، فتظاهر بتجاهل العارف . أما سبب ذهاب تفكيره إلى أنني من فلسطينيي ١٩٤٨ فيعود إلى ما كتبته عن صلة روايته بالأدب الإسرائيلي الذي وظفه في روايته كما لم يوظفه كاتب فلسطيني من قبل ، حتى إميل حبيبي نفسه أشهر من دحض الرواية الصهيونية في أعماله ، بل وحتى غسان كنفاني الذي كتب في ١٩٦٦ كتابه الشهير " في الأدب الصهيوني " .
***
2- إلياس والأدب الإسرائيلي
يعد إلياس خوري من أدباء عرب قليلين التفتوا إلى الأدب الإسرائيلي الذي التفت إليه بعض دارسين عرب ، بعد التفات كنفاني وبسيسو له ، وهنا أخص أساتذة بعض الجامعات المصرية مثل إبراهيم البحراوي وعبد الوهاب وهب الله ورشاد الشامي ، ومثل الفلسطينيين صلاح حزين ووليد أبو بكر ومحمد الأسعد ، ولست متأكدا بالضبط إن كان الأساتذة المصريون قرأوا هذا الأدب بالعبرية كما قرأه فلسطينيو ١٩٤٨ . لقد قرأ كنفاني وبسيسو وخوري وحزين والأسعد وأبو بكر الأدب بالإنجليزية ، وفيم ركز كنفاني على الأدب الصهيوني المكتوب في الغرب باللغة الإنجليزية أساسا ، اهتم أكثر الباقين بالأدب الإسرائيلي المكتوب بالعبرية المترجم إلى الإنجليزية ، ومن هنا نجد الفرق في عناوين الدراسات . استخدم كنفاني دال " الصهيوني " فيم استخدم الآخرون وأولهم بسيسو دال " الإسرائيلي " وتكرر هذا الدال في كتابات إلياس وأولها روايته " مملكة الغرباء " ، إذ كان يميز بين إسرائيلي يميني وإسرائيلي يساري وقد التقى ، وهو في نيويورك ، بإسرائيليين ، وحادثهم ، ولم يمانع ذات مرة من إجراء حوار مع صحيفة إسرائيلية ( هآرتس ) ؛ حوار جلب له المتاعب ، وما زال يعير به ( جريدة " البناء " اللبنانية ).
عندما قرأت أمس يسارية فلسطينية نشطة ما كتبته تحت عنوان " في وداع إلياس خوري " أعلمتني أن زميلة لها ، وهما تناقشان بعض رواياته في ملتقى ثقافي ، استغربت من مناقشة أعماله .
" لقد همست في أذني : إنه مطبع " .
وهذا ما سمعته مرة من الروائية ليلى الأطرش التي التقيتها في معرض الكتاب في رام الله يوم كرمها الفلسطينيون لفوز روايتها " ترانيم الغواية " بجائزة القدس .
على هامش المعرض التقيت بليلى التي اندهشت من كتابتي سبعة وثلاثين مقالا في جريدة الأيام الفلسطينية عن " أولاد الغيتو : إسمي آدم " ، إذ رددت إشاعة اتهامه بالتطبيع ، ولما طلبت منها دليلا ذكرت قصة اجرائه حوارا مع صحيفة إسرائيلية وأتت على ترجمة أعماله إلى العبرية ، واليوم صباحا أرسلت إلي الزميلة الفلسطينية اليسارية النشطة مقالا لما أقرأه بعد عنوانه " إلياس خوري : الفتى المدلل لإسرائيل "( صحيفة البناء ). كأنما ألم بإلياس ما ألم بمحمود درويش وإميل حبيبي أيضا ، والطريف أن الشاعر المتهم بتطرفه أحمد حسين ، وهو شقيق الشاعر راشد حسين ، له في إلياس رأي يجدر أن يقرأه المهتمون بهذا الجانب . وشخصيا أرى أن الأمر بولغ فيه مبالغة كبيرة ، فما قدمه إلياس ، لخدمة القضية الفلسطينية ، لم يقدم مثله أي مثقف عربي ، ولا أبالغ إذا قلت أيضا لم يقدمه كثيرون من مثقفينا وأدبائنا .
وإذا كان كنفاني عرفنا بالأدب الصهيوني وأدباء المقاومة الفلسطينية في الأرض المحتلة في ١٩٤٨ ، وإذا كان بسيسو قدم لنا نماذج من الرواية الإسرائيلية ، وكلاهما تناص معها في بعض أعماله تناصا خفيا لا يعرفه إلا الدارس القاريء ، فإن تناص خوري تناص علني ظاهر ، وهو ما جعلني أخص روايته " أولاد الغيتو : إسمي آدم " بعدة مقالات شكلت فصلا من الكتاب عنوانه " إلياس خوري والأدب الإسرائيلي " . لقد قدم لنا نماذج من هذا الأدب وقدم لنا أيضا رأيه فيه ، وكذلك تابع مهمة كنفاني في إضاءة أدب المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج من خلال نماذجه البارزة : غسان كنفاني وراشد حسين ومحمود درويش وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا . إنك وأنت تقرأ " باب الشمس " وثلاثية " أولاد الغيتو " تقرأ أدب هؤلاء .
إنني شخصيا أعترف بأن كتابات الأسماء الواردة أثرت ما كتبته من دراسات وعادت علي بفضل لا يقل عن الفضل الذي أزجاه هؤلاء لخدمة الإنسان العربي حين كتبوا تحت شعار " اعرف عدوك " .
في العام ١٩٩٣ كتبت دراسة صدرت في كتيب عنوانه " الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني " ، وقد أثرت ثلاثية " أولاد الغيتو " ثقافتي في هذا الجانب وأكثر ، ومن خلال الثلاثية مثلا عدت إلى رواية الروائية الايرلندية ( ايثيل مانين ) " الطريق إلى بئر سبع " ، وهي رواية تناص معها خوري ، وما كتبته عن علاقة التناص بين الروايتين دفع قراء عديدين للبحث عنها وقراءة سفر الخروج الفلسطيني من اللد في العام ١٩٤٨ . كان هذا بفضل إلياس الذي ما إن أنهيت مقالاتي السبعة والثلاثين عن روايته حتى اتصل بي ثانية .
١٩ / ٩ / ٢٠٢٤
***
3- كتاب "أسئلة الرواية العربية: أولاد الغيتو، إسمي آدم ، إلياس خوري نموذجا"
مرة فكرت في أن أصدر كتابا عنوانه " أدباء عرب رافضون " أنشر فيه ما كتبته عن محمد الماغوط وأحمد مطر ومظفر النواب وعبد الرحمن منيف وممدوح عدوان وإلياس خوري وأحلام مستغانمي ، ولكنني لم أحقق ما فكرت فيه ، وظلت أكثر كتاباتي تركز على الأدب الفلسطيني ، بالإضافة إلى الشاعر العراقي مظفر النواب والروائي عبد الرحمن منيف اللذين قرأتهما منذ سبعينيات القرن العشرين .
في اتصاله الثاني سألني إلياس عما سأفعله بهذه المقالات . هل سأتركها على حالها في الصحيفة ، فتموت ولا ينتفع بها قاريء أو دارس ؟
وأجبته بأنها تحتاج إلى إعادة ترتيب وتنسيق حتى تكون مناسبة للصدور معا في كتاب ، بالإضافة إلى ما كنت كتبته عن روايات سابقة له ، باستثناء ما كتبته تحت عنوان صورة اليهود في روايتي " مملكة الغرباء " و " باب الشمس " ، فقد نشرت في كتاب " جدل الذات والآخر : اليهود في الرواية العربية " ( ٢٠١٢ ) .
سألني إلياس :
- أين تفكر في نشر الكتاب ؟
فأجبت :
- صدر لي كتاب في دمشق وثان في القاهرة ، ولدي رغبة في أن يصدر هذه المرة في بيروت ، بخاصة أنك كاتب من لبنان .
واقترح علي أن أعيد تنسيق ما كتبت وإرساله معا لينظر فيه ، وقد راق له التنسيق ورأى فيه كتابا يليق نشره في دار الآداب ، وهذا ما تحقق .
هل أنصفت الروائي فيما كتبته ؟
هناك كتب عربية قليلة أنجزت حول عمل روائي واحد لكاتب ، أنجزها نقاد عرب مرموقون مثل جورج طرابيشي فيما كتبه عن إحدى روايات حنا مينة ، ومثل كتاب سعيد يقطين في دراسته رواية جمال الغيطاني " الزيني بركات " ، وكانت لافتة حقا . طبعا درست بعض روايات نجيب محفوظ ورواية إميل حبيبي " المتشائل " في كتب خاصة بها . وغالبا ما يشرح الناقد العمل الأدبي من جوانبه كلها ؛ موضوعا وشكلا .
هل اعترض إلياس على بعض ما ورد في الكتاب ؟
ربما كان أهم ما دار في الحوار بيننا هو إشكالية تصنيف ما كتب ؟ وهذه الإشكالية شغلت تفكيره في الرواية نفسها من ألف الرواية حتى يائها ، وستشغله أيضا في الجزئين الثاني " نجمة البحر " والثالث " رجل يشبهني " ، وكان يتمنى لو أقرأ الأجزاء الثلاثة معا وأخصها بدراسة ، وعندما أعلمني في آخر اتصال به أنه يكتب رواية جديدة اقترحت عليه بعض اقتراحات بخصوص كتاباته كلها طالبا منه أن يتخفف منها ، وهذا ما سأكتب عنه لاحقا .
غالبا ما سئلت من قراء عديدين عن تصنيفي للرواية . هل هي رواية ؟ والسؤال هذا قبل أن يلح على القراء ألح على إلياس نفسه .
في العام ٢٠١٩ قررت أكاديمية القاسمي في باقة الغربية عقد مؤتمر عن العبر نصية وتداخل النصوص ، فانتهزتها مناسبة للكتابة عن " إشكالية التجنيس في الرواية العربية : إلياس خوري نموذجا " وكتبت عن الجزئين الأول والثاني .
هل ما كتبه إلياس في ثلاثيته يدرج تحت جنس الرواية ؟
ومع أن طالبتي جامعة النجاح الوطنية اللتين أشرفت على رسالتيهما كتبتا رسالتين جيدتين وطلبت منهما أن ترسلاها إليه عله ينشرهما ، كعادة كتاب كثيرين يقدمون بشغف على نشر ما يكتب عنهم ويحتفلون به ويقيمون ضجة و " رجة " و " هيزعة " إلا أن إلياس لم يفعل ذلك . لقد اكتفى بقراءة الرسالتين واحتفظ بهما .
هل دار في الاتصال الثاني بيننا جدل حول كتابته عن اللد التي لم يرها ؟
لقد أخذ الجدل بيني وبينه حول هذه الإشكالية في الاتصالات اللاحقة يتواصل ، وتواصل أحيانا فيما كتبه من مقالات لجريدة القدس العربي حيث كتب غير مقال ذكر طروحاتي فيه وناقش ما ذهبت إليه .
٢٠ / ٩ / ٢٠٢٤
***
4- روائي التاريخ الفلسطيني
وأنا أكتب عن الجزء الأول من ثلاثية "أولاد الغيتو" لفت الصديق أكرم هنية رئيس تحرير جريدة الأيام الفلسطينية التي أنشر فيها مقالاتي نظري إلى أمرين؛ الأول حجم المقال والثاني أن طبيعة الزاوية لا تحتمل سلسلة مقالات في موضوع واحد في جانب واحد هو الجانب الأدبي، ومعه الحق في ذلك.
لم يكن رئيس التحرير هو من اعترض على سلسلة المقالات وحسب، واعتراضه لجانب فني صحفي ، وإنما أبدى بعض الكتاب والقراء امتعاضهم فقالوا "دوشتنا ب إلياس خوري صاحبك". ومع ذلك فقد كان علي أن أواصل الكتابة.
رواية "أولاد الغيتو: إسمي آدم" رواية غنية ثرية بالمعلومات. رواية تستثير لدى الناقد الأدبي المصطلحات النقدية التي يمتلكها والكتب التي قرأها، وهي بقدر ما تثري قارئها تغني كتابة من يكتب عنها وتخرج لديه مخزون قراءاته، فيكتب نصا نقديا ثريا يوازي النص الروائي. كأنما ينطبق عليها هنا المثل "رافق المسعد تسعد". ومن قبل فعلت الشيء نفسه فيما كتبته عن حضور مظفر النواب في فلسطين وتحليل قصيدته "بحار البحارين" ١٩٩٩، وفيما كتبته أيضا عن جدارية محمود درويش "أرض القصيدة: جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره" ٢٠٠٠.
عندما صدر الجزء الثاني من الرواية وعنوانه "أولاد الغيتو: نجمة البحر" كان كتابي عن الجزء الأول صدر، وكانت ملاحظات رئيس تحرير الجريدة في ذهني. هل سأكرر التجربة؟
"إن كان حبيبك عسل لا تلحسه كله" يقول مثلنا الشعبي، ولذا اكتفيت بكتابة مقالين للجريدة عنه- أي الجزء الثاني، ولكن ذلك لم يفرغ كل ما استثاره لدي، وهنا لجأت إلى الكتابة التي صارت لدي نهجا، وهي تفكيك النص الروائي بالكتابة عنه في الفيسبوك. الكتابة اليومية الأشبه بطريقة الباحث القديم، وهي تفريغ الملاحظات على جزازات وتدوين ملاحظات عليها، لأعود إلى ترتيبها.
عندما كتب إلياس "باب الشمس" أورد في صفحتها الأخيرة قائمة بأسماء الأشخاص الذين ساعدوه في إنجازه، بالحصول على المعلومات أو الاصطحاب إلى مخيمات اللاجئين في بيروت. كان هو البيروتي يذهب إلى المخيمات الفلسطينية، صحبة بعض معارفه، ويزور العائلات هناك ويصغي إليها ويتناول الطعام معها، فعرف الفلسطينيين عن قرب، وعرف مدنهم وقراهم وعاداتهم وتقاليدهم وأصغى إلى لهجاتهم. طبعا لم يكتف بذلك، فقد قرأ أيضا ما كتبوه وما كتبه عنهم الإسرائيليون، وهكذا كتب روايته التي عدها المرحوم الشاعر أحمد دحبور رواية القضية الفلسطينية الأعم والأشمل.
هكذا كتب إلياس عن أم حسين كما كتب غسان كنفاني عن أم سعد. كلاهما لم يقم في المخيم ولكن كليهما عرف سكانه عن قرب. كانت أم سعد تخدم في بيت الراوي / غسان، فيم ذهب إلياس إلى بيت أم حسين وتناول الطعام معها ومع عائلتها، وحين كتب عن مجزرة شاتيلا وصبرا كتب كما كتب الفرنسي (جان جينيه). كتب عن مكان زاره والتقى بسكانه. هل أفاد إلياس من تجربة (جينيه) الذي عرف الفلسطينيين في الأردن في قواعدهم وفي مخيماتهم هناك وعرفهم أيضا في لبنان، وحين كتب عن شاتيلا كتب كتابة الكاتب المعايش المجرب المشاهد؟. هل أفاد إلياس منه وتتبع خطاه؟ ولكن إلياس في الجزئين الثاني والثالث كتب عن حيفا ويافا وجنين ونابلس والخليل و... وهذا ما كان موضع جدل بيني وبينه، وهو ما سأكتب عنه في الحلقة الخامسة التي سأتناول فيها المثل الذي أورده في الجزء الثاني وهو "أشطر من ضومط على العجم".
السبت ٢١ / ٩ / ٢٠٢٤
***
5- جدل حول مثل "أشطر من ضومط على العجم"
في ٢٦ / ٧ / ٢٠١٩ كتبت عن ضومط اللبناني في رواية إلياس "نجمة البحر" ما لم يرق له.
تأتي الرواية على قصة حب آدم مع ابنة معلمه اليهودي الذي عده مثل شقيقه الأصغر، وفي أثناء حوار آدم ورفقة تنعته بأنه عربي ويكذب وتورد مثلا سمعته من أبيها هو "أشطر من ضومط على العجم". لم يكن آدم سمع من قبل بالمثل فتتهمه بالكذب، إذ ما من أحد في حيفا إلا سمع به، فقد شاع على ألسنة الناس. ولضومط حكايته مع البهائيين، إذ رفض بيعهم قطعة الأرض الخاصة به إلا بالسعر الذي حدده. (صفحة ١٢٩ وما تلاها).
أردت شخصيا أن أتأكد من صدق ما ورد على لسان رفقة عن أبيها "إن قصة ضومط صارت على كل شفة ولسان، وصار الرجل مضرب مثل"، فسألت أهل حيفا، ممن بقوا فيها، إن كانوا سمعوا بالمثل الذي رددته الشابة اليهودية ابنة الخامسة عشرة من عمرها، فما عرفه أحد من الذين سألتهم ومنهم من كان طاعنا في السن مثل والد المحامي فؤاد نقارة، بل ومنهم مؤرخ المدينة الدكتور جوني منصور. في تلك الفترة التقيت بالقاص الفلسطيني توفيق فياض الذي أنفق شبابه في حيفا حتى ١٩٧٤ وسألته إن كان سمع بالمثل وعرف قصته، فصصح الاسم ضومط إلى ضامط، وقد صغت الحوار بيننا في مقال نشرته في جريدة الأيام الفلسطينية في ٢٦ / ٧ / ٢٠١٩ (توفيق فياض آخر أدباء المقاومة في فلسطين).
أثار ما كتبته عن المثل إلياس ما دفعه لكتابة مقال تحت عنوان "ضومط الحقيقي وضومط المتخيل" نشره في القدس العربي في ٣٠ / ٧ / ٢٠١٩ أتى فيه على المصدر الذي اعتمد عليه وهو ليلى شهيد، فقد سمعه منها، ودافع إلياس عن كتابته رافضا ما وجهته إليه من نقد، وهو الكتابة عن حيفا التي لم يرها ولو زيارة.
غالبا ما سببت لي الكتابة عن أعمال كتبها أصحابها عن أماكن لم يقيموا فيها ولم يزوروها وجع رأس ، إذ لم يحتملوا النقد الذي وجهته لرواياتهم؛ من الكاتب حسن حميد إلى الكاتب إبراهيم نصرالله إلى إلياس نفسه، وغالبا ما أفسدت الود بيننا، ولكن إلياس اكتفى بالعتب، فلم تنقطع العلاقة بيننا وبقينا على تواصل وطلب مني ما كتبته عن الثلاثية، فقد أرادت مترجمته إلى البرتغالية في سان باولو، وهي صفا جبران Safa Jubran، قراءة ما كتب عن الثلاثية.
عندما كتب إلياس الجزء الثالث من "أولاد الغيتو" وهو "رجل يشبهني" خص مدينة نابلس بفصول منها وترك مواطنيها يتكلمون أحيانا باللهجة النابلسية، فاختلطت اللهجات على ألسنتهم ونطقوا أحيانا بلهجة بعيدة عن لهجتهم التي تمنحهم هوية خاصة بهم، وفي اتصال بيني وبينه، وفيما كتبته عن هذا الجانب قلت له:
- كنت اتمنى لو أنك عرضت روايتك على غير قاريء فيما يخص اللهجات. لهجة أهل نابلس على نابلسي، ولهجة أهل حيفا على حيفاوي، ولهجة أهل الخليل على خليلي.
ولم يكن المثل "أشطر من ضومط على العجم" هو الخلاف الوحيد في تقييمي للرواية وإصدار قليل من الأحكام حولها لم ترق له. حقا إن أكثر ما كتبته أبهره، ولكن أقله كاد يفسد بعض ود بيننا، إلا أن حبل الوصل لم ينقطع حتى مرضه.
في الحلقة السادسة سوف أكتب عن كتابته عن نابلس.
٢٢ / ٩ / ٢٠٢٤
***
6- الكتابة عن نابلس
"يسرى لم تتكلم، وأنا حين أكتب اليوم، أرى نابلس وأحواشها وقبابها وقد تلونت بشعاع يخرج من عينيها. لا أدري الآن كيف رأيت تفاصيل ملحمة جبل النار. هل رأيتها أم هناك من رآها وأملى علي ما أكتب؟" (رجل يشبهني ٢٣٦).
في الكتابة عن "رجل يشبهني" كتبت مقالا عنوانه "على خطا إميل حبيبي"، وكان موضع نقاش بيني وبين إلياس دفعني لأن أكتب مقالا عنوانه "جدل الروائي والناقد".
في مقالي الأول اتكأت على ما قاله حبيبي عن رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (١٩٦٩). أراد أن يتأكد من دقة معلومات الرواية فتتبع خطى شخصيتها الرئيسة سعيد. س وزوجته صفية، فاكتشف خطأ. بدلا من أن توصله الطريق إلى الميناء أوصلته إلى الجبل.
وصف إلياس نابلس وأتى على بعض أحداث جرت في ٢٠٠٢ في أماكن محددة ذكرها معتمدا على وصف شابة نابلسية، واكتشفت بعد التدقيق عدم الدقة. وقد كتبت عن هذا.
لم تكن الأخطاء في حسب المكان وحسب، فلقد دققت في لهجة الشخصيات النابلسية في الرواية. أنطق إلياس شخوصه النابلسية بلهجة لم تكن نابلسية دائما. أحيانا بدت لبنانية.
ما لفت نظري أكثر هو ما كتبه عن الكنافة النابلسية وتناولها بالخبز. كتب إلياس عن طريقة اللبنانيين في أكلها بالكعك اللبناني، لا أكلها أحيانا بالخبز على عادة أهل الريف غالبا وبعض النابلسيين واللاجئين أحيانا. لقد كانت كتابته عن الكنافة حافزا لي لأكتب حلقة خاصة تحت عنوان "الكنافة النابلسية في الرواية العربية"، وقد تحدثنا؛ إلياس وأنا في الموضوع في اتصال هاتفي.
لم يكتب إلياس ما يتردد في نابلس والريف عن كنافة الصباح وكنافة المساء. وغالبا ما يتندر أهل المدينة وأهل الريف في هذا. كنافة الصباح غير متقنة لأن الريفيين يأكلونها حين يزورون المدينة صباحا، وكنافة المساء متقنة لأنها تصنع خصيصا لأهل المدينة، فلا غش ولا تعجل ولا قطر زيادة.
ما من مواطن نابلسي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات لم يسمع بكنافة الفتفوت.
كان محل الفتفوت، وهو أقرب إلى الشخصية الفولكلورية، يقع في السوق الشرقي، وأكثر زبائنه ريفيون كأنما تصنع الكنافة لهم، وكان غالبا يكرر عبارته الشهيرة:
- إلكن إلكن . كلوها سخنة أبل (قبل) ما تبرد. اليوم بكرا إلكن إلكن.
سرت العبارة على الألسن وما زال قسم منا يرددها ويسحبها على أطعمة أخرى غير الكنافة. إلكن إلكن. ويبدو أن الفتاة التي قصت على آدم / إلياس الأحداث لم تسمع بالفتفوت ومحله.
هل هذا هو الجدل كله الذي دار بيني وبينه؟
لعلني أختتم هذه التداعيات في الكتابة القادمة!
٢٣ / ٩ / ٢٠٢٤
***
7- يغتالني النقاد أحيانا
سر إلياس أكثر ما كتبته عن رواياته ولكنه استاء من أقله ، فانطبق عليه قول الشاعر أبو البقاء الرندي ، في الدهر ، معكوسا :
" هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان "
وفي الاتصال الأخير بيننا ، قبل مرضه ، سألته عن مشاريعه القادمة ، فأخبرني أنه يكتب رواية جديدة ، وهنا سألته إن كان صدره يتسع لبعض ملاحظات أزجيها له ليأخذ بها في أثناء إنجازه الرواية الجديدة ، فأجاب : هات .
عندما كتبت عن الجزء الثالث من " أولاد الغيتو " تساءلت إن كان جزءا ثالثا أم رابعا أم خامسا أم سادسا أم سابعا ، فإلياس منذ " مملكة الغرباء " يحضر في رواياته وتشعر - أو هذا هو ما شعرت به شخصيا - أنه يكتب عملا متواصلا ، وكان دليلي أن الجزء الثالث يدخل في علاقة تناص واضحة مع رواية " باب الشمس " .
أكثر مما سبق يلحظ القاريء الناقد أن هناك أكثر من خيط مشترك بين شخوص رواياته يعود إلى شخصية إلياس نفسه . إن جميع شخصياته ورواته مغرمة بالشعر القديم فتجدها تردد الشعر على لسانها ، وإن اختلف مستواها وبيئتها ، وهي مولعة باللعب الروائي وتسحرها اللغة غالبا ، وتهتم بقضية المحو ، وبالكاد تخلو رواية من إعجاب بمحمود درويش أو تأثر خفي بشعره ، عدا التنظيرات النقدية الأدبية والميل إلى أسلوب التكرار المتأثر به من قراءاته ل " ألف ليلة وليلة " .
لقد اقترحت عليه أن يتخفف من التنظير النقدي والكتابة عن اللعب الروائي والاحتفال بالشعر القديم وأسلوب التكرار ، وأن يراعي أنه يكتب رواية لقراء متعددين مختلفين ثقافة أكثرهم عادية وهم يلهثون وراء الحدث ، وجاء المرض اللعين . زاره كحمى المتنبي وأكثر ، ففتك به دون أن يتمكن من إكمال روايته ، وفي آخر مقالاته ( ١٣ / ٨ / ٢٠٢٤ ) كتب مقالا عنوانه " اغتيال الاستعارة " اتكأ فيه على قصيدة محمود درويش الواردة في أثر الفراشة " اغتيال " التي ينهيها بقوله :
" يغتالني النقاد أحيانا
وأنجو من قراءتهم ،
وأشكرهم على سوء التفاهم
ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة " .
وهي قصيدة كتبت عنها ، في حياة محمود درويش ، دراسة تعد الأجمل فيما كتبته عنه .
هل كان إلياس في مقالته يخاطبني كما خاطبني محمود درويش في غير قصيدة ؟
لست أدري !
عندما قرأت مقالين له كتبهما في أيار ٢٠٢٤ وحزيران ٢٠٢٤ تحت عنوان " خندقجي والرواية الأسيرة " و " مدينة تكرر نفسها " توقفت أمامهما مطولا وأبديت رأيي فيهما . هل هناك من أوصل له اجتهادي فيهما فكتب عن النقاد الذين يغتالونه ، أم أن صدى ما كتبته عن كتابته عن مكان لم يره ولم يزره ظل عالقا في ذهنه ؟
عندما أنجزت سلسلة مقالات عن الجزء الثالث " رجل يشبهني " طلب إلياس مني أن أرسلها له مع ما كتبته عن الجزء الثاني " نجمة البحر " وهي بحوزته كاملة ، فهل ستقوم دار الآداب في بيروت بطباعتها معا احتفالا بالراحل ؟
وثمة كتابة تبقى في النفس . عندما بحثت عن المراسلات في الماسنجر بيننا تعذر تحميل رسائله لي ، وهكذا كتبت من الذاكرة دون توثيق .
إلياس خوري وداعا .
٢٤ / ٩ / ٢٠٢٤
***
=============
1- في وداع إلياس خوري
2- إلياس والأدب الإسرائيلي
3- كتاب "أسئلة الرواية العربية: أولاد الغيتو، إسمي آدم ، إلياس خوري نموذجا"
4- روائي التاريخ الفلسطيني
5- جدل حول مثل "أشطر من ضومط على العجم"
6- الكتابة عن نابلس
7- يغتالني النقاد أحيانا
.