مقتطف ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(9)

ج(9)


دخل "باز" لاهثا بعد طلب إذن الدخول،وقال وهو يسترجع هدوء أنفاسه التي تسارعت بسبب الركض :

ـــ سيّدي خليفة... رسول من سيّدتي "سعدى" يرغب في لقائكم .

ـــ ليس من عادة ابنتي سعدى إرسال رسول في أيّام الشتاء المثلجة ! أدخله حتّى أرى ما خطبه ؟

أبلغه رسول سعدى بأنّها تستعجل قدومه حتّى يفصل في أمر الأسرى الثلاث من بني هلال . و كان خليفة يماطل في حسم مصير الأسرى لحاجة في نفسه ،لكنّه رغم ذلك أرسل مع الرسول ردّا يرضيها، وهو إذ يفعل ذلك رغما عن عقله الذي يطاوع قلبه المحبّ لوحيدته وقرّة عينه سعدى ... طلب أن تمهله وقتا حتّى تمرّ تلك الأيام العاصفة المثلجة .

خيَّم صمت في مجلس الشيخ خليفة ، ريثما ذهب الأثر الذي تركه قدوم رسول سعدى ، ثم قال مخاطبا باز بلهجة من تذكَّر أمرا هامّا:

ـــ إذهب و استعجل في طلب عنق حمام ، أريدها أن تحضر لتشاركني عشائي .

لم يتوان باز في إخبار عنق حمام ، ولم يعد إلى دار خليفة إلاّ وهي ترافقه. دخلا على الشيخ خليفة ،فانبسطت أساريره لما بدا وجها اجتمع فيه كلّ المراد ، جلست على بساط حريري قبالة الموقد والمبخرة تقابله بطلب منه . وأمر غلامه باز بالإسراع في إعداد طبق شواء الضأن الذي تمّ ذبحه وسلخه وشيّه على جمر حطب السنديان ... سدَّد نحوها بصره، ثم سألها بلهجة المستغرب:

ـــ ماالّذي أخرجك صباحا من منزلك في هذا الجوّ المثلج …؟

فقطَّبت معلنة عن مدى فهمها لتلميحاته بحراستها المشدّدة ،فهي في النهاية لا تعدو أن تكون أسيرة لديهم . أطرقت برأسها لتُخفي وجهها عن عينيه، فقد كانت تشعر في تلك اللّحظة بأنّها تتدهور ، فخليفة رجل نبيه ولا يضيره أن يرسل في تقفّي أخبار الوافدين ويعاقبها على فعلتها ، تلكّأت وقالت برجاء حازم:

ـــ هلاّ عدلت عن شكّك بي يا سيّدي ؟ لعلَّ عندي أسبابا.



تملَّكه شعور غريب ،فهو يشعر أمامها بضعف لم يشعره حتّى أمام كبار الملوك والحكام ،إذ كيف له أن يمرّر لها جرأتها في الحديث معه بلهجة الآمرة وهي الأسيرة لديه ؟! لكنّه أقنع نفسه بأنّه يملك زمام الأمور ، ولا بأس إن أبدت عنق حمام القوّة والعزة والثّقة بالنفس ، فليس بتلك الخصال غريبة عن امرأة من بني هلال . فتبسّم وأشار لها بالشروع في الأكل،فأكلت بدافع الجوع والأمان الذي أشاعه في نفسها ففتح شهيتها ،و أكل بنهم لما أحدثه ـــ وجودها إلى جواره ـــ من نشوة و إقبال على الحياة .

تناولا شاي أعشاب بعد العشاء ،ثمّ شرعت في الحكي ، وكان خليفة ينتظر بشغف كيف سيكون مصير قمرة و أمّها رفقة شاهين... فقالت :

.... باتوا ليلتهم في باحة السوق ،وفي فجر اليوم الموالي أبكر شاهين الإستيقاظ ، وراح يجول السوق ، ويتأمّل وجوه الناس لعلّه يعثر على شخص يعرفه فيدلّه على طريق سيّده "نجم الدين" و إخوته . كان يوما ربيعيا لطيفا طاوعه على التجوال والبحث ، لكنّ الحظّ عاند و أبى أن يعثر شاهين على ضالته ، سار نحو بئر موجودة وسط باحة السوق ،كان الناس يجتمعون حولها للسقاية ، اقترب لملء قربته فشدّ انتباهه شيخ طاعن ينتظر دوره للسقاية ،رقّ له قلبه و أشفق على حاله ،تقدّم نحوه وحيّاه تحيّة وقورة ، ثمّ همّ بأخذ قربته منه ليستسقي له عنه ،انفطر قلبه لمّا مدّ يده نحوه لاستلام القربة واكتشف أنّه ضرير ،حمل القربتين وقال باستياء محاولا استعطاف الناس لحال الشيخ الضرير :

ـــ أليس فيكم من المروءة ؟ كيف تستسقون لأنفسكم وتتجاهلون هذا الشيخ الفاضل الضرير ؟!

انزاح الناس من حول البئر ،فملأ شاهين قربة الشيخ ، ومنعته شمائله من استغلال الظرف فلم يملأ قربته وفضّل أن ينتظر دوره . دنا من الشيخ وسلّمه القربة ، فما كان منه إلاّ أن شكرّه وامتنّ له شديد الامتنان ، وراح يدعو له بالستر والعافية ، حمل شاهين القربة المملوءة و أخذ بيد الشيخ وسارا نحو بيته، ولمّا وصلا علّق شاهين القربة على غصن ممتدّ لشجرة تين كانت تتوسّط حوش بيته ،جلسا معا تحت فيئها و جعل الشيخ يغمغم :

ـــ ليتك بقربي يا " نجم الدين " . ففي غيابك أشعر بالضياع .

سمع منه شاهين كلمة "نجم الدين" فساوره شك أن يكون هو ذاته ابن سيّده فهبّ من مكانه وقال سائلا :

ـــ سمعتك تذكر نجم الدين يا أبي ! هل هو ابنك ؟

حرّك الشيخ رأسه متحسرا وقال وهو يعاني مرارة الفقد و وطأة الكبر والمرض:

ـــ أخذ الموت الغادر كلّ أولادي وزوجتي بعد الوباء اللّعين الذي تفشّى في قريتنا و أبقى علي كي أشهد موتي البطيء كلّ يوم .

ـــ من الذي يقوم بخدمتك يا أبي وأنت بحالك هاته ؟

ـــ إثر الفاجعة التي ألمّت بالقرية وبي ، عوضني الله بشاب كان يمرّ بقافلته مع إخوة له ،وكان الله رحيما بي إذ سبّب الأسباب كي يعثر نجم الدين بي في نفس المكان الذي عثرت علي فيه ، أشفق لحالي وسقى لي ، وألحّ علي كي يعرف منّي قصتي ، فلمّا أخبرته ،كان كريما معي لدرجة أنّني نذرت ما تبقى من حياتي شكرا لله ودعاء له بالستر والعافية وسعة الرزق جراء سخائه

معي ،فلم يتركني يوما إلاّ و مأكلي ومشربي ولباسي يصلني من طرفه ،فرغم أنّه مضى رفقة قافلته لكنّ سخاءه بقي يصلني ، كلّ يوم أجد أمام عتبة بيتي ما يكفيني ويزيد ، فأتصدّق منه بدوري .

إندهش شاهين من وقع ماسمع وهمس قائلا :

ـــ والله أن تلك الخصال من بني زايد ،وإنّي أرى حتّى أكاد أجزم أنّ الشاب هو نجم الدين الزايدي .

ركّز شاهين اهتمامه بالشيخ مرّة أخرى ، وهمَّ بأن يسأله بعد أن قارب يقينه من قطع شكّه :

ـــ قلت شاب رفقة إخوته واسمه نجم الدين ! من أيّ قبيلة هو ؟ إحك لي يا أبي عنه وعن إخوته .

.... أمسكت عنق حمام عن الكلام فجأة وتثاءبت ووجّهت نحو الشيخ خليفة نظرات متثاقلة وقالت :

ـــ الحديث حلى يا سادة ،لكن العنين طلبوا النعاس ، والرّاس طلب الوسادة .

تبسّم الشيخ خليفة من حلو كلامها ،وأمر باز أن يرافقها نحو مخدعها .

.... يتبع


بقلم : ليلى تبّاني -قسنطينة - الجزائر.




1727185655815.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى