د. محمد عبدالفتاح عمار - أهل الكتاب والسنة وموقفهم التوفيقيّ بين العقل والنقل

كان منهج السلف واضحًا في التوفيق بين العقل والنقل وهو منهج أوْلَى بالاتباع ( )، وكان السلف والصحابة على أن الرسول (صلوات الله عليه) لم يأتِ سواء بقرآن أنزِل عليه أو سنة تلقاها من ربه وعبَّر عنها بلفظه وعبارته أو حتى سنته الفعلية أو التقريرية والتي بُنيت على إقراره لفعل الغير من الصحابة كما تشير كتب أصول الفقه، أن شيئًا من ذلك لا يمكن أن يتناقض مع العقل البشري الصحيح فالنقل الصريح لا يمكن أن يخالف العقل الصحيح، والصحابة كانوا يقبلون الوحي وما أتى به الرسول ويعقلونه بعقولهم فإن اختلط عليهم أمر راجعوا الرسول فيه ليرفع عنه التناقض أو يزيل مالحق بالعقول من غشاوة، دون معارضة للنص بحجة أن العقل لا يستسيغه ولا يقبله أو أنه غير مقبول ولا يتفق مع منطق أو فلسفة كما فعل أصحاب المدرسة العقليّة من المعتزلة وخلفائهم في عصرنا الحديث أصحاب المناهج الغربية.
فعلى سبيل المثال لمّا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، فاستفسرت السيدة حفص من الرسول عن قول الله (عز وجل) «وإن منكم إلا واردها» (سورة مريم: الآية 71) فأجابها الرسول بأن الله تعالى قال (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًّا) (سورة مريم: الآية 72)، فورود المؤمنين المتقين يردونها لينجوا من عذابها لا ليُعذَّبوا مثل المشركين الكافرين.
ولمّا نزل قول الله (عز وجل) {الذين آمنوا ولم يُلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (سورة الأنعام: 82) تعجب الصحابة وقالوا للرسول «وأينا يا رسول الله لم يُلبس إيمانه بظلم؟ »، فقال (صلى الله عليه وسلم): «ذلك الشرك، ألم تسمع قول العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: الآية 13)».
والمستفاد أنه يجب لرفع التناقض بين النصوص أن يُنظَر إليها إجمالاً، لا الحكم عليها مجزأة.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ذلك دليل على أن الصحابة لم يناقشوا ما جاء به القرآن النص القطعي ولم يعرضوه على عقولهم.
أما مسألة مناقشة صفات الله فلَمْ تَكُنْ مطروحة مطلقًا كما فعل المعتزلة تحت تأثير الفلسفة اليونانية وهي أمور -من وجهة نظري- لا تفيد في بناء العقيدة ولا تقدم في مسيرة الدين، بل قد تؤخر بزعزعة اليقين، فهي تورث الجدل الذي لا صلة له بالعمل والذي عُرف عن الصحابة كراهة الكلام فيه ويقول الإمام ابن تيمية (رحمة الله عليه): «جعل القرآن إمامًا يؤتم به في أصول الدين وفروعه وهو دين الإسلام وهو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين فلَمْ يَكُنْ هؤلاء يقبلون من أحد أن يعارض القرآن بمعقول أو رأي يقدمه على القرآن... ولهذا كان الأئمة الأربعة وغيرهم يرجعون في التوحيد والصفات إلى القرآن والسنة لا إلى رأي أحد ولا معقوله ولا قياسه» ( ).
وقد أحسن الإمام مالك القول حينما قال قولته الشهيرة «أو كلما جاءنا رجل أجدل من الآخر تركنا ما نزل به جبريل على محمد (صلى الله عليه وسلم)؟!»، ورُوِي عن الإمام الشافعي قوله «آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله».
وقال الإمام أحمد (رحمة الله عليه): «لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا في كتاب الله (عز وجل) أو حديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أو عن أصحابه أوعن التابعين فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود» ( ).
ومن لحقهم من الأئمة ساروا على النهج ذاته فابن القيم (رحمه الله) يقول: «إن العقل والسمع حجة الله على خلقه ولا يمكن أن تتعارض حجج الله تعالى فإن الله تعالى أقام الحجة على الخلق بما ركَّب فيهم من العقل وبما أنزل إليهم من السمع، والعقل الصريح لا يتعارض في نفسه وكذلك العقل مع السمع فحجج الله وبيّناته لا تتناقض ولا تتعارض ولكن تتوافق وتتعاضد ولا يوجد سمع صحيح عارضه معقول مقبول عند جميع العقلاء أو أكثرهم ولا تجده ما دام الحق حقًا والباطل باطلاًبل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع ويشهد ببطلانه» ( ).
إن البيِّن أن التعارض الذي ظهر مع دخول الفلسفة اليونانية لَمْ يَكُنْ أبدًا متعلقًا بأصل العقيدة والتوحيد ولكن شيئًا فشيئًا انتقل من الفلسفة اليونانية والأفكار التي تكلم عنها أصحاب الديانات غير السماوية، بل والبعض من أهل الديانات السماوية، مثل التجسيم والتوحد والصفات، وللأسف سايرهم أهل الكلام من المسلمين في تلك القضايا ربما من باب حسن النية والرغبة في إقناعهم بدين الإسلام.
ويقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله {ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (سورة الحديد: 25) إن المراد بالميزان هو العدل، كما قال مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة لا الآراء السقيمة ( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) كله حق يُصدق بعضه بعضًا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وإنما يظن تعارضها: من صدق بباطل من المنقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئًا ظنه من العقليّات وهو من الجهليات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات إن كان ذلك معارضًا لمنقول صحيح وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولاً عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويكون كذبًا عليه، أو ما يظنه لفظًا دالاً على شيء ولا يكون دالاً عليه».
والعقل كالبَصَر، والنقل كالنُّور؛ لا يَنتفِعُ المُبْصِرُ بعينِهِ في ظلامٍ دامِس، ولا يَنتفِعُ العاقلُ بعقلِهِ بلا وحْي، وبِقَدْرِ النورِ تَهْتَدِي العَيْن، وبقدرِ الوحيِ يَهتَدِي العَقْل، وبكمالِ العقلِ والنقلِ تَكتمِلُ الهداية والبصيرة؛ كما تَكتمِلُ الرؤية حِينَ الظَّهِيرَة، فالمؤمنون أبصر الناس بالحقائق الشرعية لجمعهم بين النقل الصحيح والعقل الصريح. قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كانَ ميتًا فَأَحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذَلِكَ زُيِّنَ للكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾[سورة الأنعام: 122]، وقال سبحانه: ﴿أَفَمَنْ كانَ على بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ واتَّبَعُوا أهواءَهُمْ﴾ (سورة محمد: 19).( )
وقد ألف ابن تيمية كتابًا كاملاً ورائعًا بعنوان «درء التعارض بين العقل والنقل» مستعرضًا جميع ما يتعلق بفكر المتكلمين محاولاً التدليل على أنه لا تعارض بين العقل والنقل، والكتاب يقع في أحد عشر جزءًا ( ).
ويقول أيضًا مما يجب أن يُعرف أن أدلة الحق لا تتناقض... فالأدلة المقتضية للعلم لا يجوز أن تتناقض سواء كان الدليلان سمعيين أو عقليين أو كان أحدهما سمعيًّا والآخر عقليًّا، ولكن التناقض قد يكون فيما يظنه بعض الناس دليلاً وليس بدليل، كمن يسمع خبرًا فيظنه صحيحًا، ولا يكون كذلك، أو يفهم منه ما لا يدل عليه أو تقوم عنده شبهة يظنها دليلاً عقليًّا وتكون باطلة ألبس عليه فيها الحق بالباطل فيكذب بما أخبر الله به ورسوله.( )
ويقول ابن تيمية: لَمْ يَكُنْ في سلف الأمة... من ينكر المعقولات الصحيحة أصلاً ولا يدفعونها بل يحتجون بالمعقولات الصريحة كما أرشد إليها القرآن ودل عليها فعامة المطالب الإلهية قد دل القرآن عليها بالأدلة العقليّة والبراهين اليقينية( ).
ويقول ابن تيمية أيضًا إن الرسل لا يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته( )، وأرجع الإمام ابن تيمية التعارض إلى أحد أمرين:
الأول: «أن تحصل المعارضة بين العقل والنقل نتيجة فساد النقل كأن يكون مكذوبًا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما كان كذلك لن يتفق مع العقل الصريح ومثال ذلك الحديث المكذوب حديث عرق الخيل الذي كذبه الناس على حماد بن سلمة حيث اتهم بوضعه محمد بن شجاع الثلجي وضعه ورمى به أهل الحديث ليقال عنهم إنهم يروون مثل هذا ونص الحديث الموضوع (قيل يا رسول الله مم ربنا قال من ماء مرور لا من أرض ولا من سماء خلق خيلاً فأجراها فعرقت فخلق نفسه من هذا العرق.....).
ومنها «نزول الله تعالى عشية عرفة إلى الموقف على جمل أورق يصافح الركبان والمشاة»، فمن له أدنى عقل لا يمكن أن يقبل مثل هذا الحديث( ).
والثاني: أن يكون النقل صحيحًا لكن يكون وجه دلالته ضعيفًا وذلك نتيجة لغلط المستدل في الاستدلال به ويظهر ذلك التعارض نتيجة لقصور الفهم ومثال ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة (رضي الله عنهما) عن النبي أنه قال «إن الله (عز وجل) يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعُدني، قال يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقِني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي».
فيقول الإمام ابن تيمية فإنه لا يجوز لعاقل أن يقول إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل أو سمع على من يظن أنه قد دل على جواز المرض والجوع على الله الخالق (سبحانه وتعالى) ومن قال هذا فقد كذب على الحديث فإن الحديث قد فسره المتكلم به وبيَّن مراده بيانًا زالت به كل شبهة وبيَّن فيه أن العبد هو الذي جاع وأكل ومرض وعاده العواد وأن الله (سبحانه وتعالى) لم يأكل ولم يُعَدْ ولم يَجُعْ ولم يُطعَم ولم يعطش ولم يُسْقَ ( ).
ويعلق البعض على ذلك بقوله وعلى ضوء هذا؛ فإن الاعوجاج الحاصل في نظر بعض المستدلين عند تعرضهم للأدلة الشرعية إنما هو نابع منهم هم لا من الأدلة الشرعية أو العقليّة، فالمنقول إذا صح والعقل إذا استقام فلا يقع التعارض أبدًا إنما يقع التعارض إذا ضعف المنقول أو اعوج الفهم ولذلك بعثت الرسل لبيان أمرين:
الأول: هو الخبر.
الثاني: بيان العلوم العقليّة التي بها يتم إيمان الناس علمًا وعملاً وضربت الأمثال فلوكان التعارض يمكن أن يقع في الأدلة الشرعية الصحيحة والأدلة العقليّة الصريحة ما جمعت بينهم الرسل في خطاب الناس ودعوتهم، وكان السلف في خطابهم للناس والمستدل بالأدلة العقليّة أقدر من طوائف المتكلمين الذين يتهمون السلف بعدم معرفتهم بالأقيسة العقليّة لانشغالهم بالجهاد أو غيرهمن أمور قد أبعدوا النجعة وأخطأوا التصور.( )
ومن جانب آخر نجد أن الغزالي ينتقد المعتزلة الذين أعلوا من شأن العقل وجعلوه وصيًّا على النقل، وبذلك مالوا إلى الإفراط في تمجيد العقل، فبرأيه لا توجد معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول إذ يقول: «إن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد، وإتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر. وإن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط. بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وأنّى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر، أو لا يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر (صلى الله عليه وسلم)، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر، وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر؟ أَوَلا يعلم أن العقل قاصر وأنمجاله ضيق منحصر؟ هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والإيذاء. ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء. فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغني إذا استغنى بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمُعرِض عن العقل مكتفيًا بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضًا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور، والملاحظ بالعين العور لأحدهما على الخصوص متدلٍ بحبل غرور».
ويقول أيضًا «نور العقل كرامة لا يخص الله بها إلا الآحاد من أوليائه، والغالب على الخلق القصور، فَهُمْ لقصورهم لا يدركون براهينالعقول كما لا تدرك نور الشمس أبصار الخفافيش. فهؤلاء تضر بهم العلوم».
بينما يلاحظ البعض( ) أن الغزالي في كتاب «إحياء علوم الدين» يؤكد على الوسطية والأخذ بكلا الجانبين، ويذهب إلى أن العلوم العقليّة غير كافية في سلامة القلب، وأن القلب محتاج إلى العلوم العقليّة. هذا فضلاً عن أن مفهوم القلب لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل. وبهذا الصدد يقول الغزالي «فلا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن العقل. فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعًا بين الأصلين، وظن من يظن أن العلوم العقليّة منافية للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه. بل هذا القائل ربما تناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض في الدين فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقضًا في الدين».
أما في كتابه «تهافت الفلاسفة» فنجده يتهم الفلاسفة العقلانيين أو العقليّين بأنهم لم يوفوا بمالديهم من العلوم العقليّة في علومهم الإلهية. ويرى أن سبب ذلك يعود إلى أن «ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق ومقدماته لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية».
ومع ذلك من العلماء من يرى أن الغزالي كان ممجدًا للعقل على حساب النص أمّا بالنسبة للعقل عند الغزالي؛ فيقول فمن الخير -لمن يريد تحديد موقف هذا المفكِّر من إحدى المشكلات التي شغلت أهل النظر من المسلمين في مختلف عصورهم- أن يتخذ الحذر منهجًا في استنباط رأيه في مشكلة ما من تلك المشكلات ( ).
غير أن الغالبية ترى، ونحن معهم، أن الغزالي من أنصار عدم التعارض بين العقل والنقل كما يرى أن العقل والنقل لا يتعارضان تعارضًا حقيقيًّا من الناحية النظرية -لأن كليهما نور من عند الله، فلا ينقض أحدهما الآخر- أو العملية، فلم يثبت أن اصطدمت حقيقة دينية بحقيقة عقلية، بل يرى أن أحدهما يؤيد الآخر ويصدقه( ).
يقول الإمام الغزالي إن الشرع عقل من الخارج والعقل شرع من الداخل وهما متعضدان، ولكون الشرع عقلاًمن خارج سلب الله اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن نحو قوله {صم بكم عمي فهم لا يعقلون}، ولكون العقل شرعًا من داخل قال تعالى في صفة العقل {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} فسمى العقل دينًا ولكونهما متحدين قال «نور على نور» أيْ نور العقل ونور الشرع. إن العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لن يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لَمْ يَكُنْ بِناء ولن يثبت بناء ما لَمْ يَكُنْ أس أيضًا، فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع ولن يغني البصر ما لَمْ يَكُنْ شعاع من الخارج ولن يغني شعاع ما لَمْ يَكُنْ البصر. وأيضًا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لَمْ يَكُنْ زيت لَمْ يَكُنْ سراج وما لَمْ يَكُنْ سراج لم يضئ زيت ( ).
وفي موضع ثانٍ يقول الغزالي إننا نحكم بالنص عند وجوده وبالاجتهاد عند عدمه. وبرأيه أيضًا أن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع غير المتناهية ولذا لا بد من الاجتهاد في إرجاع الوقائع الخاصة أو الجزئية إلى النصوص العامة ( ).
والإمام الغزالي تكلم عن عزل العقل لنفسه بعد إدراك وجود الخالق والنبوة يعزل العقل نفسه ويخضع المسلم للتسليم ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَة إذا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَة مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (سورة الأحزاب: آية 36) بعد الإيمان لا بد أن تسلم ﴿فلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حرجًا مِّمّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْليمًا﴾ (سورة النساء: آية 65)، ﴿إِنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ (سورة النور: آية 51)( ).
أما ابن الرشد فإن الأصول العامة التي ارتكز عليها في نظرته إلى العقل تقوم على اتفاق العقل والإيمان كما تقوم على مبدأ السببية، إذ رفض ابن رشد تعطيل الأسباب، فالسببية هي أساس العلم الذي هو في الحقيقة علم بالأسباب التي تكمن وراء ظاهرة معينة وبمقدار جهلنا بالأسباب نجهل الحقيقة، وإذا ما قدرنا رفع الأسباب رفع العقل.
ومن هذا المنطلق يرى ابن رشد أن العلم بوجود الله كعلة أولى واجب عقلاً وهو سابق على التعرف على ماهيته وصفاته، فالعقل الطبيعي قادر على التعرف على علل الموجودات الطبيعية ويؤدي بنا إلى الإيمان بالله. ويؤكد ابن رشد أن كل ما عجز عنه العقل بيّنه الله تعالى بواسطة الوحي.
وبالجملة، فالأمور التي لا يكتفي العقل بنفسه في معرفتها تتلخص كما يرى ابن رشد في معرفة الله والسعادة والشقاء الإنساني في هذه الدنيا وفي الحياة الأخرى أيضًا ووسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء. إن هذه الفضائل الخلقية والنظرية لا تُعرف كلها أو بعضها إلا بوحي، ولهذا اختلف ابن رشد مع أرسطو في تصور الذات الإلهية فهو يرى الله على صلة مع العالم عبر الوحي. ويؤمن بأنه حي خالق فاعل يُحدث الأحداث باستمرار ويهب الوجود والحياة للموجودات، في حين يتصوره أرسطو كجوهر أول وعقل محض مُكتفٍ بذاته ولا علاقة له مع الكون، وفي كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة» يرفض ابن رشد الدليل السببي لأرسطو ودليل الجواز لابن سينا ولبعض المتكلمين ويؤثر دليل الاختراع والعناية لاتفاقهما مع مدارك الناس كافة وارتكازهما على النصوص القرآنية ( ).
وهكذا يمكن القول إن ابن رشد الذي هو واحد من أعظم فلاسفة المسلمين، بل العالم، لا ينكر التوافق بين الدليل العقليّ والدليل النقلي وأنهما يكملان بعضهما البعض.
وقال الإمام العز بن عبدالسلام: ».. فلا يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبدًا» ( ).
وعلماء السلف من الذين تبنوا موافقة المعقول للمنقول أو العقل للنقل لَمْ يَكُنْ ذلك خبط عشواء أو تسليمًا دون ضوابط خاصة فيما يتعلق بنصوص السنة النبوية وإنّما كان وفقًا لضوابط محكمة وأخصها أن يكون النقل صحيحًا وثابتًا ثبوتًا قطعيًّا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والعقل صريحًا سالمًا خاليًا من الشبهات مصدقًا للرسول (صلى الله عليه وسلم) في كل ما يخبر به منقادًا لوحي الله وشرعه فمتى كان العقل كذلك والنقل صحيحًا فلا يمكن أن نتصور المعارضة بينهما لأن الرسل (عليهم السلام) لا يخبرون بمُحالات العقول ( ).
أما الإمام الشاطبي فيقول في حديث طويل ( ) إن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، ويذكر خمسة أسباب يمكن إيجازها في الآتي:
الأول: انها لو نافتها لَمْ تَكُنْ أدلة على حكم شرعي ولا غيره، وبيان ذلك أن الأدلة إنَّما نصبت لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها ولو نافتها لم تتلقاها ولن تعمل بمقتضاها سواء الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية.
الثاني: أنها لو نافتها لكان التكليف بها تكليفًا بما لا يطاق وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره بل يتصور خلافه ويصدقه.
الثالث: أن مورد التكليف هو العقل وذلك ثابت بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسًا وعُدَّ فاقده كالبهيمة المهملة.
الرابع: أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به لأنهم كانوا في غاية الحرص على ماجاء به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى كانوا يفترون عليه وعليها وكانوا يقولون ساحر ومجنون ويكذبونه وكان الأولى أن يقولوا إن هذا لا يُعقل أو هو مخالف للعقول فإن لَمْ يَكُنْ من ذلك شيء فإنهم عرفوا جريانه على مقتضى العقول إلا أنّهم أبوا اتباعه لأمور أخرى.
الخامس: أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها طائعة أو كارهة ولا كلام في عناد معاند.
ولدى الإمام الشاطبي( )أن الأدلة الشرعية ضربان، أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض والثاني يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة لأصول الأدلة وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعًا إلا إذا استند إلى المنقول، أما الضرب الأول فالكتاب والسنة وأما الثاني فالقياس والاستدلال، ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أيّ وجه قيل به ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صِرف لا نظر فيه لأحد، ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري...
والخلاصة أن الإمام الشاطبي لا يرفع من قيمة العقل على النقل أو النقل على العقل بل يقدم صورة لاحتياج كل منهما لضبط الآخر والوصول إلى الدليل القطعي في مسائل الشرع وهذا دليل على التوافق بينهما دون إعلاء أحدهما على الآخر أو النظر إلى أحدهما على أنه متعارض مع الآخر. ورأي الإمام الشاطبي السابق يُعَدُّ من وجهة نظرنا بِناءً محكمًا ومشيدًا على أصول وضوابط مقنعة لحاجة الشرع إلى العقل وحاجة العقل إلى الشرع وأنهما يكملان بعضهما من حيث كونهما أدلة في طريق واحد يوصل إلى غاية وهي الوصول إلى الحكم الشرعي.
وهكذا يمكن القول إن علماء المسلمين يرون أن العلاقة بين النص والعقل ليست علاقة تعارض بقدر ما هي علاقة تعاون من حيث كون العقل هو أداة الاجتهاد من النص القرآني أو الحديث القطعي فهو ليس أداة حكم على النص بقدر ما هو أداة توضيح واستخراج لعلة النص وتطبيقها على غيرها من الأحكام والمتماثلات.
ويقول البعض كل ماحكم به العقل حكم به الشرع فالعقل رسول في الباطن والشرع عقل في الظاهر، فإن أدرك العقل أن العدل حَسَن والظلم قبيح حكم الشرع بأن العدل محبوب لله والظلم مكروه له ( ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى