مقتطف ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(11)

كان يقف عند نافذة حجرته يراقب تساقط الثلوج المستمرة ،ندف قطن تتطاير بغزارة من سديم أبيض ، إنّه يعدّ الساعات المتعاقبة علّها تتسارع كي يحلّ المساء ،لتحضر عنق حمام إلى مجلسه فتدفىء أرجاءه و روحه التي يدبّ إليها البرد غير متوانٍ ... علا صوت صهيل الخيل في الإصطبل، فتطايَر إلى حجرته الصامتة كالصدى... استغرب صهيلها وخرج يستطلع السبب وهو يزيح الثلوج المتراكمة من طريقه وينفض برنسه ممّا تراكم عليه من ندف محاولا تفادي البلل. كان ـــ رغم انشغاله بصهيل الخيل ـــ يسترق النظر إلى شبّاك بيتها لعلّ صورة وجهها الملائكي تظهر فتسعد قلبه .

من عادة باز ألّا يغادر الدار إلاّ بإذنه ، ولم يكن يعلم سبب غيابه... ظهر فجأة وهو يغادر الاصطبل ،وينتهب الخطى نحو الدار ولم ينتبه من خروج سيّده خليفة حتّى ناداه مستفسرا عن غيابه المفاجىء :

ـــ ما الذي خرج بك مبكّرا في هذا الجوّ المثلج ؟

ـــ كنت منذ الفجر أسمع حركة غير عادية في الإصطبل ، ولمّا علا صهيل الخيل ، خرجت أستطلع الأمر ، لم أجد شيئا يدعو إلى هياج الجياد سوى شخير السائس الذي تعوّدوه .

ـــ عجب...! لم الصهيل إذن ؟ ليس من عادة الخيل الصهيل إلاّ لسبب .

ـــ أقترح تغيير الحذوات سيّدي .

ـــ لا أراه سببا . لك أن تسعى إلى تغيير حذوات الجياد متى ما حلّ الربيع .



تجاهل خليفة الأمر متظاهرا ،و سار نحو الدار حذرا من انزلاق قدميه على مسلك رُصّت الثلوج فوقه فشكّلت طبقة قاسية عزّزها الجليد ... كانت عنق حمام تسترق النظر من نافذة بيتها القريب من داره ،ما أحبَّ هذا المسلك الذي يمشي خليفة عبره ،فيترك عبيرا يتغلغل إلى قلبها ،فرغم أنّ أمل لقائه قائم وقريب وهي التي تسهر اللّيالي سامرة بقربه! لكنّ قلقا يساورها ويشوّش مستقرّها ... أتراه العدوّ الذي سقطت في قبضته أسيرة ؟ أم المنقذ الذي انتشلها منه إليه؟! أم تراه الحبيب الغافل عن القلب الذي امتنّ لمن حنا عليه فأحبّه من وراء حجاب؟ جلدتها ملامات الضمير فايقظت فيها عتابا غير مبرّر ،فراحت تسائل نفسها :

ـــ الشيخ خليفة رجل تعودت على مسامرته طوال الليل ، لا أنتهي منه إلا لأبدأ من جديد ، بل لا انتهي من الحكي إلاّ لأطيل الحكاية حتّى لا تنتهي . و لقد تعوّد بدوره على القرب مني. أتراه تعلّق بالحكي أم بالحكّاءة ؟! لكنّني رغم ذلك أسيرة لديه ... مهلا عنق حمام الرجل يعاملك كأميرة ! لا بأس سأترك الأمور تسير وفق ما سطّرته الأقدار ،آه ... فكثرة التفكير والتأويل تُرهقني.

حلّ المساء فدلفت حجرته باسمة مستنيرة كعادتها ،ولم تجده إلاّ منتظرا ملهوفا ،وهي لا تعلم إن كان ما يشدّه هو شوقه إليها أم للحكاية . حيّته فأشار لها بالجلوس ،لكنّها تفاجأت بما أعدّ لها من متّكأ وثير ونمارق من حرير و حنوّ وفير ، جلست على كثب منه خجلة حذرة من أن تكون قد اخترقت حدود هيبة سيّدها ، لكنّه عزّز ثقتها بابتسامة أوحت لها بودّه وبثّت فيها الأمان ،اللّيلة وعلى ضوء السراج القريب كانت معالم وجهه أقرب و أوضح إذ تبيَّنَت على وجنتيه وناصيته حمرة شديدة لم تكن لتطالعها وهي بعيدة عنه ولم تهنأ في جلستها إلاّ و هي تسأله في إشفاق :

ـــ أأنت بخير سيّدي ؟

طمأنها محاولا إخفاء علامات الحمّى التي بدأت تنهك جسده وقال يتمثّل القوّة لجسد كهل يكابر أمام امرأة في عنفوان صباها :

ـــ بكامل عافيتي وصحّتي ، و أنتظر بشغف كبير ما سيقدم عليه شاهين البطل .

استشعرت مكابرته و ارتابت في أمر عافيته ،لكنّها رغم ذلك لم تكن لحوحة وشرعت في الحكي فقالت :

.... غادر شاهين السوق رفقة زينب وابنتها وكلّهم أمل في العثور على مبتغاهم . ساروا شرقا نحو عرش بني فزّارة ،كانت الفرس " طايقا " تطاوع أميرتها " قمرة" فتشقّ طريقها بسرعة الرياح تاركة طيفا ناريا خلفها، مستغلة صوت خرير المياه و صفير الرياح التي تخلّلت أغصان الأشجار لتقطع طريقها إلى مبتغاه . ركضت الفرستان تسابقان الأدهم نحو ديار الشيخ " علي بن حنّاش الهواري " ، كانوا يسألون عن قرارهم كلّما صادفتهم قافلة عابرة لكنّهم بلغوا المراد بعد مسير ثلاثة أيّام . استقبلهم الشيخ علي واستضافهم عنده في داره و أكرمهم أشدّ إكرام خاصة لمّا علم أنّهم من طرف الشيخ الإمام " قاسم بن صالح العدّي" .

عرف شاهين طريق الإخوة العشرة بمجرّد أن سأل الشيخ علي عنهم ، وما إن لاح له الخيط الأوّل من الفجر ،شدّ الرحال نحوهم يتقدّم المرأتين ويستنفر خنجره تحسّبا لأي خطر مفاجىء ، ساروا شطرا من نهارهم الرّبيعي الطويل ، ولمّا دنوا من المغيب ، استكانوا إلى منخفض معشوشب تكثر فيه أشجار السنديان والكافور ، نصبوا خيمتيهما الصغيرتين بالقرب من نبع صاف ،فانشغلت زينب بتحضير ما يمكن أن يطبخ من زادهم ، أمّا قمرة فراحت تكدّس نبات الديس الذي قطعته بخنجرها ،جعلته مستويا وغطّته بطبقة من بسط حتّى يريحهم في نومهم ... حملت القربة وعادت نحو النبع كي تملأها ،في الوقت الذي انشغل فيه شاهين بعلف الحصان والفرستين أقبل عليهم رجال ملثّمون واستولوا على جيادهم ،أتوا شاهين من دبر فكبّلوه وغطّو عينيه برباط ، و أحاطوا الخيمتين ،اقتربوا من قمرة فاستلّت خنجرها محاولة الذود عن نفسها و أمّها . وتحت وطاة غدرهم وكثرتهم استسلمت ورمت بخنجرها... بدوا على حين غرّة و كأنّهم وحوش مفترسة فى الأدغال . ففى غمار تلك المتاعب التي كابدوا فيها الاتعاب والمخاطر، وصارعوا خلالها الأهوال والمفاجآت ،كان من الطبيعي أن تخور قواهم ويتشوّش تركيزهم ،فلم تطل مدّة مقاومتهم فاستسلموا لما فرضته القلّة أمام الكثرة ... كبّلوهم و أجلسوهم على مقربة من بعضهم ، وكانت جيادهم طليقة بلا رباط ، حينها أيقن شاهين أنّهم وقعوا في شراك غدر و أن لا مفرّ ممّا هم فيه ، أطرق برأسه مخذولا مهموما يفكّر، ثمّ وجّه نظرات خائبة نحو سيّدته زينب وقال بنبرة يائسة :

ـــ أظنّها نهايتنا ... ولن أسامح نفسي مرتين ، مرّة لأنّني قصّرت في حماية ممتلكاتكم بعد وفاة سيّدي أحمد ، ومرّة حين فرّطت في وصيّته و لم أقاتل من أجل حمايتكما .

هوّنت زينب عليه هول المصيبة ، وامتلكت زمام الأحداث وبدت ثابتة هادئة حكيمة كعادتها وقالت :

ـــ لا تبالغ بلوم نفسك ، ولا تنسب التقصير إليك ، إنّما ما حدث هو قضاء وقدر، ولعلّ فرج الله آت !

في تلك الأثناء قاطعتهما قمرة ، الفتاة الحاذقة في الدهاء ، الطالعة من ليل المحن . الأنثى التي تتلون بوجوه وملامح عدّة ،فقد كانت الفتاة الوديعة الصامتة التي لا تظهر دهاء ولا ذكاء ، وهاهي اليوم تثبت أنّها قمرة الزّايدية ابنة أبيها حكيم عرش الزوايد ، قالت تستحضر أمجاد الأدهم جواد أبيها :

ـــ ليس أمامنا سوى الأدهم . هو جواد أبي المدرّب على يديه ، وقد عاش معه مدّة طويلة ولا بدّ أنّه يفهم كل ما نومئ به .

اندهش شاهين من كلامها ، و اهتزّ لوقع ما سمع ولم يصدّق ، أهاته " قمرة" الفتاة الوديعة التي كانت تلعب أمام ناظريه منذ فترة ليست بالبعيدة ؟! ارتسمت علامات الأمل ـــ بعد قنوط ـــ على وجهه وقال :

ـــ سأرسل الأدهم في طلب المساعدة من الشيخ "علي بن حنّاش ".

رمق الجواد الأصيل بنظرة الأسير الذي يستجدي الحرية من جواد حرّ وقال موجّها كلاما نحوه :

ـــ روح يا العود القارح وين علفت الشعير البارح ....

هزّ الأدهم برأسه و نكت الأرض بحافره ، وانطلق نحو عرش " بني فزّارة " أين علف الشعير على يد سائس الخيل ...

كانت عنق حمام تعاند النعاس وتروي الحكاية على مضض ، وذكريات ديار أهلها ترتسم في مخيلتها وراء عينين لا تُفارقان الرأس المتوسّد النمرق الحريري ، تركَّز انتباهها في الشيخ خليفة ،فتلاحظ اهتمامه الشديد بالقصّة فلم تجد من بدّ إلاّ أن ترضي فضوله وتشبع شغفه بالاسترسال في الحكي . لكنّ سلطان النّوم كعادته يحكم فيقضي و إلى القول يفضي :

ـــ الحديث حلا يا سادة ،لكن العنين طلبوا النعاس ، والرّاس طلب الوسادة .

.... يتبع

1727920310413.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى