أ. د. ثناء محمود قاسم - العزف على أوتار الوجع... قراءة في قصة (صعود إلى أسفل الدرج) لمرفت البربري

يمكنني – بعد قراءتي نص "صعود إلى أسفل الدرج " لمرفت البربري – القول إنه لا يستطيع أن يعبر عن المرأة إلا المرأة نفسها ، مهما ادعى الرجل فهمها ومعرفة تفاصيلها ومكنوناتها . إنها المخلوق الذي قدّر الله أن يحمل البشر ويحتضنهم تسعة أشهر حتى إذا ما استووا في تكوينهم واكتملوا خرجوا منه إلى الدنيا . إنها المرأة ، وعاء العواطف والمشاعر والأحاسيس والحب والإنسانية . عالمها واسع ودقيق ، لا يزال داخلها الكثير والكثير مما لا يعرفه إلا هي . إذا ما أرادت الإفصاح عن شيء تحتاج إلى إنصات واستيعاب واحتضان ، وحين لا يفهمها الرجل تشعر بخيبة وانكسار ولا تستقيم حياتها ، رغم أنه من رحمها هي وُهبت له الحياة.
إن هذا النص النسوي النسائي بدرجة ظاهرة استطاعت الكاتبة من خلاله التعبير عن حالة خاصة بالمرأة حين يُلقى بها في واقع غير مأهول بمشاعر تليق بطبيعتها الأنثوية . حين تجد نفسها في بيت رجل بينه وبينها مسافات تضطرها إلى التحليق في عالم آخر غير عالمه الرتيب . تعيش معه جسدًا بلا روح .
يمكننا استجلاء هذه الخلاصة من النص فيما يأتي : " سَمِعتْه يدعوها لتحضر فنجان الشاي الذي كانت تعده بأمره ...دخل عليها حجرتها ذات يوم فوجدها رافعة ذراعيها في الهواء كأنها تراقص أحدًا ، ناداها فلم تجبه ، أخذ يحدثها ويدور في كل اتجاه يمكن أن تراه فيه دون جدوى ، كأن على عينيها غشاوة تمنعها من النظر إليه ، أو كأن عينيها في مكان قصي عن عالمه ، ترى مالا يراه ، امتدت يده إليها بعدما يئس من لفت انتباهها ، أطبق يديه على كتفيها وهز جسدها النحيل بشدة ، كمن أفاق من غيبوبة نظرت إليه بدهشة كأنها كانت في حلم جميل أفاقت منه فلم تجد شيئًا ، أخذت تدور حول نفسها باحثة عن شيء ما أو عن شخص ما ، لم يكن يفهم نظراتها المفجوعة بالفقد ، احتضنت وجهها بكفيها كأنها تجمع فيهما دموعًا تحمل مشاهد ذلك الحلم ..." .
عرضت الكاتبة في قصتها النتائج أو النهايات دون الالتفات إلى المقدمات والتفاصيل التي أفضت إليها ؛ لأنها معنية بالتركيز على تصوير حالة المرأة وتقديم محتواها النفسي في هذه المرحلة ، وتجسيد وقع التجربة المريرة عليها أكثر من سرد تفاصيل ربما تكون معروفة . فنجدها تتجاوز الحديث عن طبيعة العلاقة بينها وبين الزوج ، وتفاصيل التعامل والتعايش ، وصفات الزوج وسماته الشخصية , تلك الأمور التي توضح أسباب تعاستها ومعاناتها معه، مما يشي بنوع من التجاهل لتلك التفاصيل ولذاك الرجل أيضًا . لكنها لم تتجاهل أن تلقي إلينا بشيء من أثر هذه العلاقة عليها ، وأن تكشف عن نظرتها ومشاعرها تجاهه . وفي هذا كشف غير مباشر لطبيعة الزوج والعلاقة بينهما. فاكتفت في بيان ذلك بوضع مقارنة بين حالة الانسجام والاستمتاع التي تكون عليها حين تتراقص على أنغام الموسيقى شاردة في عالمها الخاص كأنها نغمة من نغماتها وبين حالتها حين تواجه واقعها اليومي مع الزوج : " تفيق من سكرة حلمها على صوت زوجها الذي خرج لتوه من الحمام بعدما أنهى أغنيته التي تبغض نغماتها ، وتشمئز من كلماتها التي تفوح بعفن مخبره ، يرددها بعد كل مرة يذبح فيها روحها ، ويروح ليغسل جسده من آثار جريمته ، سمعته يدعوها لتحضر فنجان الشاي الذي كانت تعده بأمره . أفرغت الماء الساخن بالكوب ، وأغلقت الموقد بعد أن انطفأت شعلته إثر سقوط قطرات الماء المغلي عليها ، التي تساقطت معها دمعاتها مثل شلال يأخذ في انسيابه الهادر كل الصور التي تراءت أمامها ، ويعصف صوت خريره بموسيقاها الأثيرة التي لطالما اصطنعتها أذناها . انطلقت إليه ، لتبدأ من جديد سخافات الواقع " .
إن قصة الحرمان العاطفي وفقد التعامل الإنساني المتوازن مع طبيعة المرأة قصة ليست جديدة ، فقد تم طرحها ومعالجتها في صور فنية وأدبية كثيرة ، لكن الجديد هو الشكل أو القالب الذي استخدمته الكاتبة في تقديم هذا المضمون . وهذا في رأيي محاولة امرأة لا تيأس من توصيل مشاعرها ودخائلها بإعادة الخطاب الأنثوي من جديد في قالب جديد .
أفرغت الكاتبة مضمونها النسوي في قالب اتسق مع طبيعة هذا المضمون ، حيث استخدمت تكنيك المزج بين ألوان الفنون ؛ فمازجت الأدب بالفن ، وتركت الموسيقى تعبر عن معاناة البطلة ، تتوغل في عالمها كاشفة عن أدق التفاصيل ، فظهر هذا فيما يلي :
- الأجواء المحيطة .
- البناء الفني .
- اللغة .
أولًا الأجواء المحيطة
أشبعت الكاتبة قصتها بالموسيقى ، فهي العالم السحري الذي يداعب الوجدان والخيال ويجمل الواقع ، فنراها بذلك تهييء الأجواء لتقدم رسالتها المستعصية على الوصول ، وفرض صرختها عسى أن يرق لها أحد .
فنرى البطلة دائمًا تعيش حالة من التماهي مع الموسيقى " تستمع لموسيقى عزفها القدر ذات حب ، تتماهى مع نغمات الدو ، ترق روحها وتطير مع الري ، تشتد وتقوى همتها مع المي ، تهفو روحها مع الفا ، وتأخذ بلب روحها الصول إلى سحابات الحب ، تحنو مع اللا ، تفرم أحزانها السي " .
هنا تسمعنا الكاتبة السلم الموسيقى ، حين تركت البطلة تتراقص كالطير الذبيح . وكأننا نطير معها على أنغام ( دو – ري – مي – فا - صول – لا – سي ) . وملأت بها أرجاء القصة ؛ فقد افتتحت قصتها على عزف البيانو ، حتى عندما توقف العزف انتقلت إليه بخيالها تتراقص على نغماته ، وظلت الموسيقى حاضرة في المشهد إلى نهاية القصة .
ثانيًا : البناء الفني
لقد هيمنت الموسيقى على مفاصل القصة ، واستطاعت الكاتبة توظيفها في عرض المضمون ، وحولت الموسيقى إلى لغة أدبية وأداة ناقلة للتسلسل الدرامي فيها:
** في مفتتح القصة اتخذت من الموسيقى معادلًا موضوعيًا لحياتها ومعاناتها ، فأصابع البيانو البيضاء والسوداء " تشبه أقلام القدر التي كتبت قصة حبهما ، وترى نفسها وتر الكمان الحزين الأسير بين أنامله ، والزمن هو المايسترو الذي يلوح بعصاه مشيرًا للقدر في حركاته المحسوبة وهزاته المتتالية ، ترتفع نغمات الأصابع البيضاء ويتحرر الوتر من أسره ، تُخلق نغمة ناعمة ذات لقاء كان بينهما ، أو تصرخ نغمات الأصابع السوداء ، وتزداد القبضة على الوتر ، يبكي بشجيّ اللحن لقاء باغته الغياب ذات فرحة ، تارة تضحك النغمات ، وتارات يبكي الكمان وينزف وجعًا ... " .
فأما الأصابع البيضاء فهي تخلق نغمة ناعمة تجسيدًا للقاء كان بينهما ، وأما الأصابع السوداء فهي تبكي بشجيّ اللحن معربة عن غياب وفراق . وهنا يمكننا الظن بأن العازف الجالس على البيانو ربما هو حبيبها الذي فرق بينهما القدر. وربما كان مجرد خيال استحضرت به صورة الحبيب القابع في أحلام العذارى فحسب .
** في وسط القصة نجد التماهي مع الموسيقى ، والتحليق في عالم آخر يفصلها عن واقعها المرير " تخبره بما تسمعه من موسيقى ، تسأله إن كان يسمعها هو الآخر، تكرر سماعها لهذه الألحان ، بل وازداد الأمر سوءًا عندما أصبحت ترقص مع تلك الموسيقى ... تدور عيناها فيما حولها ، فلا ترى ولا تسمع غيرها ، في رقصاتها تلك كانت لا تراه أمامها ولا تسمعه حين يحدثها " .
الموسيقى هنا ليست واقعًا في معاناة هذا النوع العاطفي من النساء ، إنما هنا هي مجرد وسيلة تعبيرية ولغة بديلة تنقل مدى اتساع الهوة بين هذه المرأة وزوجها ، فكل منهما في عالم منفصل ، لا يستطيع أحدهما الولوج إلى عالم الآخر، ومن ثم تكون خلاصة المضمون أنه حالة من عدم الاندماج والانسجام .
هذه الحالة جعلت زوجها ينعتها بالمجنونة ، ويراها تحتاج إلى مراجعة طبيب نفسي ، وشخص الطبيب حالتها بأنها (فصام عقلي) يخرجها من شخصيتها الحقيقية في الواقع إلى شخصية أخرى وعالم آخر افتراضي متخيل . فهل هذا التشخيص صحيح ؟
للكاتبة رأي آخر مخالف ، فهي ترى أن البطلة تعيش شخصيتها الطبيعية الحقيقية المتوازنة في الخيال أو بتغييب الزوج من المشهد ، لكنها في حياتها مع الزوج تعيش كأنها شخصية أخرى لا تحبها ولا تريد أن تكونها . وأن على العكس ، الزوج هو الذي يعد إنسانًا غير طبيعي ، هو المريض لا هي ، فهو لا يرى زوجته ، ولا يشعر بها ، وهو خليق بأن لا تراه أيضًا .
** لذلك في نهاية القصة ومع لحظة التنوير نجد البطلة حين ناولها زوجها قرص الدواء المهدئ الذي أوصى به الطبيب ، تأخذه ثم تلقي به في كوبه هو ، ثم تقوم لتختار قطعة موسيقية ، وتمد يدها إلى الهواء وتعانق الطيف وتتماهى مع الموسيقى ورقصتها .
ثالثًا اللغة
اختزلت الكاتبة في الألفاظ والتراكيب - ببراعة - الكثير من الوصف والسرد الذي لا يلائم خصائص القصة القصيرة ، حيث يضيق المقام عن الحكي والإفصاح .
فجاءت اللغة مكثفة موحية محملة بالكثير مما أمسكت عنه الكاتبة ، فنجدها في وصف طبيعة الزوج وطبيعة العلاقة بينهما تكتفي بما يأتي :
1- زوجها الذي خرج لتوه من الحمام بعدما أنهى أغنيته التي تبغض نغماتها ، وتشمئز من كلماتها التي تفوح بعفن مخبره ، يرددها بعد كل مرة يذبح فيها روحها ، ويروح ليغسل جسده من آثار جريمته ، سمعته يدعوها لتحضر فنجان الشاي الذي كانت تعده بأمره .
2- تسأله إن كان يسمعها هو الآخر .
3- كانت لا تراه أمامها ولا تسمعه حين يحدثها .
4-كأن على عينيها غشاوة تمنعها من النظر إليه ، أو كأن عينيها في مكان قصيّ عن عالمه ، ترى ما لا يراه .
5-امتدت يده إليها بعدما يئس من لفت انتباهها ، أطبق يديه على كتفها وهز جسدها النحيل بشدة .
6- لم يكن يفهم نظراتها المفجوعة بالفقد .
7- تارة تضحك النغمات ، وتارات يبكي الكمان وينزف وجعًا .
أما عنوان القصة فقد أضاف بعدًا فيه يأس وتوجس ، فكيف يصعد الإنسان إلى أسفل؟! إنها معاناة بطلة القصة وكل امرأة في قصتها الواقعية ، التي لا يشعر بها أحد وهي تصعد وتصعد ، لكن إلى أسفل .

دكتورة / ثناء محمود قاسم
أستاذ البلاغة والنقد الأدبي الحديث
كلية دار العلوم – جامعة الفيوم

1728677557882.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى