كانت اليابان إلى عهد قريب محجوبة عن أنظار العالم المتمدين بحجب كثيفة لا يكاد المرء يتبين ما يجري وراءها بين أبناء تلك الأمة العظيمة من عادات وتقاليد، وكان الأدب الياباني بنوع خاص من أغمض مظاهر الحضارة اليابانية أمام الباحث، ويرجع ذلك إلى صعوبة اللغة اليابانية وغرابة أحرفها الهجائية وعدم إقبال الأدباء والعلماء على تعلمها، مع أن الآداب اليابانية غنية في مادتها متنوعة في أبوابها، وتعد بحق بين الآداب العالمية الرائعة.
وليس هناك أمة من الأمم تكون آدابها جزءا هاما من تاريخها مثل أمة اليابان، فأفراد الشعب هناك على اختلاف طبقاتهم يستسيغون الشعر ويطربون لموسيقاه، بل هم شعراء بسليقتهم لا فرق في ذلك بين النساء والرجال؛ فالأمة كلها تشترك في مهرجان الشعر الذي يقيمه الإمبراطور كل عام، فيأخذ كل ياباني في إنشاد أطيب ما جادت به قريحته، ويذكرون أن الإمبراطور (ميدي) وهو جد ميكادو إمبراطور اليابان الحالي كان يشجع هذه المهرجانات الشعرية، فيخصص الجوائز الثمينة للفائزين، وقد ألف هو نحو مائة ألف مقطوعة شعرية.
أما شغف الياباني بباقي فروع الأدب فلا يقل عن شغفه بالشعر، لهذا كانت الآداب اليابانية غنية في مادتها رائعة في أسلوبها إنسانية في معانيها، ولكن تلك الآداب العالية لم تتخط حدود اليابان الجغرافية لصعوبة اللغة التي كتبت بها، ثم زاد من صعوبة تلك اللغة دقة المعاني وعمق الأفكار التي حملها إياها اليابانيون، والتي لا تصدر الا من أبناء الشرق الصميمين في مدنيتهم الشرقية، ويكفي أن نقول أن كلمة (امرأة) لها في اللغة اليابانية ما يزيد على أربعة وعشرين لفظا مرادفا، كل لفظ يستعمل في حالة معينة وظروف خاصة حسب مكانة المرأة المخاطبة الاجتماعية أو الشخصية، أو درجة الاتصال بها. كذلك لفظة (أنت) لها ما يقرب من اثنى عشر مرادفا؛ وهذا التعدد في الألفاظ يدلنا على مقدار الدقة التي يتوخاها الياباني في تعبيراته الاجتماعية والأدبية، وليس هذا في نظرنا دليلا على رقي اللغة أو غناها فقط، إنما يدل كذلك على الشعور الدقيق والحساسية الراقية، والآ العالية هي في لبها وجوهرها إحساس دقيق وشعور متدفق.
وإذا كان فن التصوير الياباني له اثر واضح على الآثار الأوربية فأننا لم نسمع قط أن الآداب الغربية متأثرة بالآداب اليابانية، ولم يمنع هذا أن يكون العكس صحيحا، فالأدب الياباني غاص بالتراجم العديدة لكثير من الآداب الأوربية العالمية، فجميع المؤلفات القيمة من إنجليزية وفرنسية وألمانية وروسية نقلت إلى اللغة اليابانية، وهذا دليل واضح على تعلق هذا الشعب الناهض بالآداب على اختلاف منابتها.
والعصر الذهبي للآداب اليابانية الكلاسيكية هو عصر (هايين) من 784 - 1186 إذ انتعشت فيه الآداب اليابانية وظهرت فيه عدة قصص غرامية وتاريخية، كما أنه لم يخلو من النشرات الأدبية الانتقادية، ولعل أهم ما يلفت النظر في ذلك العصر هو ظهور أديبتين يابانيتين شهيرتين وهما (موراساكي) و (سي) وموراساكي اسم ياباني معناه زهرة البنفسج وصاحبته أديبة في أسلوبها فخامة وحلاوة وفلسفة لينة بينما (سي) ومعناها النور تمتاز بشعورها الفياض وأسلوبها السهل الممتنع وأشهر قصة لموراساكي؛ هي قصتها المسماة غنسي وهي وصف محكم وصورة طبق الأصل وملاحظات دقيقة مدهشة عن الحياة في البلاط الياباني في القرن الحادي عشر. وهي كثيرة الشبه بالحياة في بلاط لويس الرابع عشر، وقد اتخذت لها بطلا سمته (غنسي) وهو عبارة عن دون جوان آخر، أي مخلوق حر بكل معنى الكلمة، يأتي ما يشاء من الأفعال دون النظر إلى ما كان يأتيه يتماشى مع الاعتبارات الدينية أو الإنسانية أو الاجتماعية أو لا يتماشى، إنما كل همه إرضاء شهواته وملاذه، فكانت له عدة مخاطرات غرامية. وهذه القصة تعطيك صورة واضحة للحياة اليابانية الاجتماعية في عهد (موراساكي)، ولا تسل عن العذوبة والروعة التي كتبت بها الحوادث الغرامية التي خاض غمارها (غنسي) وكل ذلك في أدب وحشمة وتورع.
أما الأديبة الأخرى (سي) فكانت معاصرة لموراساكي وتعيش معها في البلاط الياباني، ولقد عرفت بالكبرياء والصلابة في رأيها، وكتاباتها ملآى بالنقد والتجريح، كذلك كانت لها قدرة على وصف الطبيعة وما بها من حيوان وطير وصفا بليغا دقيقا.
ولنذكر هنا قطعة لها قصيرة في وصف فصول السنة الأربعة قالت: (أن الذي يسحرني في الربيع هو الفجر يتهادى في مشيته على قمم الجبال، بينما كل شيء يضيء رويدا رويدا، وقطع السحاب اللازوردية تسبح في الفضاء جماعات جماعات. . . . . . . .)
(أما في الصيف فالذي يسحرني فيه هو الليل. . . يعجبني منه القمر المنير. .! وتسحرني الليلة الليلاء، حيث يطير في جوها الحالك الحباحب المشعة هنا وهناك. . وإذا تساقط المطر في تلك الليلة فأنه يزيد في جمالها وسحرها. . .
والذي يسحرني في الخريف هو المساء عندما ترقد الشمس في مغربها مرسلة سهامها اللينة نحو قمم الجبال العالية، فتسرع الغربان نحو أعشاشها تطير جماعات مثنى وثلاث ورباع! حقا أنه منظر فيه حزن وجمال. . . . وما اجمل المنظر وأبهاه إذا لاح في الأفق البعيد سرب من الطيور البرية الصغيرة!. . بعد ذلك تختفي الشمس وتزأر الرياح وتخرج الهوام والحشرات من مخابئها صائحة مهللة. كل ذلك مما يهيج في النفس ألما لذيذا. . . والذي يسحرني في الشتاء هو سقوط الثلج إذا ما تنفس الصباح، فتكتسي منه الأرض حلة بيضاء ناصعة، وعندما يقر البرد توقد النيران للتدفئة، حتى إذا ما انتصف النهار وخفت وطأة البرد ترى جمرات النار وقد تحولت إلى رماد ابيض، وذلك هو الحزن بعينه. . .!)
وفي القرون الأربعة التي أعقبت عصر (هايين) نجد القصة والشعر الياباني لا ينتقلان من مكانهما بعيدا، الا أننا نجدهما يتأثران كثيرا بالفلسفة البوذية، فينتعش الأدب التاريخي ويولد الأدب المسرحي في اليابان، وأبطاله (كابوكي) و (نو) وفي عام 1642 يظهر في سماء الأدب الياباني (سيكاكو) وهو أستاذ الأدب الواقعي في اليابان، وقد خلف هذا الأديب مؤلفات وافرة وتلاميذ كثيرين وكانت الآداب اليابانية قبل عهده تعد في جملتها آدابا أرستقراطية كتبت لخواص الناس وأهل الثقافة منهم، فأتى سيكاكو وجعل من الأدب الياباني أداة للإفصاح عن مشاعر الإنسانية وعواطفها وهمومها وأحزانها أي تلك النواحي العامة التي قد يشعر بها رجل الطريق قبل أن يشعر بها رب الجاه والسلطان. وهو في وصفه وتحليله لتلك العواطف الإنسانية راعى الدقة التي يلاحظها النباتي في وصفه لزرعه؛ أو عالم الحيوان في دراسته لحشرة من الحشرات. وتظهر هذه المقدرة بأجلى بيان في قصته المسماة (حياة امرأة) وصف فيها سيكاكو كيف تكون حياة المرأة الخليعة المستهترة التي لا يهمها من عيشتها الا إشباع شهواتها وقضاء ملاذها، ولكن حياة الدعارة والمجون نهايتها دائما محزنة مبكية فنرى في نهاية القصة تلك المرأة التي كانت بالأمس زينة المجالس وبهجة الناظرين تهجر العالم بعد أن عضها البؤس بنابه، وتنزوي بين منعطفات الجبال في كوخ حقير من القش والخرق البالية. . .!
ولعل (تيكاماتسو) أشهر كاتب درامي في اليابان، فهو يعد بحق شكسبير الأدب الياباني. ولكنه اقتصر في مؤلفاته على الإشادة بذكر العواطف الإنسانية العالية وتحليلها كالحب والشرف والإخلاص والعفاف، ويعده البعض بين زمرة الشعراء لأن رواياته كتبها كلها نظما، ولكننا لا ننسى أن معظم كتاب اليابان الأقدمين كتبوا آثارهم شعرا لأنهم عشقوا الشعر وطربوا لأنغامه الموسيقية فألهاهم ذلك عن كل شيء آخر. (وتيكاماتسو) هذا خالق الدراما اليابانية التي تصف الحياة اليومية وتتغلغل في أعماقها وتكشف عما بها من محاسن ومعايب، وتعبر عما تختلج به قلوب الآلاف من المظلومين والمساكين.
ظل الحال على هذا المنوال حتى الثورة اليابانية التي شب لظاها عام 1867 والتي يرجع سببها إلى الروح الغربية التي بدأت تتسرب إلى بلاد اليابان الهادئة المطمئنة حوالي ذلك الوقت، فتأثرت الآداب اليابانية كما تأثر الفن الياباني، كذلك لم يسلم من هذا التيار الجديد الحياة الاجتماعية نفسها، فتغير سلوك الفرد ونظام الأسرة، حتى المساكن وأنواع الأطعمة دخل عليها شيء كثير من التعديل والتغيير، وغذى المجتمع الياباني شيء آخر جديد مغاير لليابان إبان عهد هايين أوسيكاكو، وبدأ الشعب الياباني يقف على مسرح الحياة بنفسه بعد أن كان إلى هذا العهد مشاهدا متفرجا لما يقع بين ظهرانيه، اذ بعد أن هدأ تيار الثورة وخمدت الحروب الأهلية حوالي سنة 1880 ظهر في الأفق شعاع جديد لامع يبشر بمستقبل أدبي جديد لم تلبث أن أشرقت في أثره شمس الآداب اليابانية الحديثة وهي موضوع الكلام في مقالنا الثاني إن شاء الله.
مجلة الرسالة/العدد 5/ بتاريخ: 15 - 03 - 1933
وليس هناك أمة من الأمم تكون آدابها جزءا هاما من تاريخها مثل أمة اليابان، فأفراد الشعب هناك على اختلاف طبقاتهم يستسيغون الشعر ويطربون لموسيقاه، بل هم شعراء بسليقتهم لا فرق في ذلك بين النساء والرجال؛ فالأمة كلها تشترك في مهرجان الشعر الذي يقيمه الإمبراطور كل عام، فيأخذ كل ياباني في إنشاد أطيب ما جادت به قريحته، ويذكرون أن الإمبراطور (ميدي) وهو جد ميكادو إمبراطور اليابان الحالي كان يشجع هذه المهرجانات الشعرية، فيخصص الجوائز الثمينة للفائزين، وقد ألف هو نحو مائة ألف مقطوعة شعرية.
أما شغف الياباني بباقي فروع الأدب فلا يقل عن شغفه بالشعر، لهذا كانت الآداب اليابانية غنية في مادتها رائعة في أسلوبها إنسانية في معانيها، ولكن تلك الآداب العالية لم تتخط حدود اليابان الجغرافية لصعوبة اللغة التي كتبت بها، ثم زاد من صعوبة تلك اللغة دقة المعاني وعمق الأفكار التي حملها إياها اليابانيون، والتي لا تصدر الا من أبناء الشرق الصميمين في مدنيتهم الشرقية، ويكفي أن نقول أن كلمة (امرأة) لها في اللغة اليابانية ما يزيد على أربعة وعشرين لفظا مرادفا، كل لفظ يستعمل في حالة معينة وظروف خاصة حسب مكانة المرأة المخاطبة الاجتماعية أو الشخصية، أو درجة الاتصال بها. كذلك لفظة (أنت) لها ما يقرب من اثنى عشر مرادفا؛ وهذا التعدد في الألفاظ يدلنا على مقدار الدقة التي يتوخاها الياباني في تعبيراته الاجتماعية والأدبية، وليس هذا في نظرنا دليلا على رقي اللغة أو غناها فقط، إنما يدل كذلك على الشعور الدقيق والحساسية الراقية، والآ العالية هي في لبها وجوهرها إحساس دقيق وشعور متدفق.
وإذا كان فن التصوير الياباني له اثر واضح على الآثار الأوربية فأننا لم نسمع قط أن الآداب الغربية متأثرة بالآداب اليابانية، ولم يمنع هذا أن يكون العكس صحيحا، فالأدب الياباني غاص بالتراجم العديدة لكثير من الآداب الأوربية العالمية، فجميع المؤلفات القيمة من إنجليزية وفرنسية وألمانية وروسية نقلت إلى اللغة اليابانية، وهذا دليل واضح على تعلق هذا الشعب الناهض بالآداب على اختلاف منابتها.
والعصر الذهبي للآداب اليابانية الكلاسيكية هو عصر (هايين) من 784 - 1186 إذ انتعشت فيه الآداب اليابانية وظهرت فيه عدة قصص غرامية وتاريخية، كما أنه لم يخلو من النشرات الأدبية الانتقادية، ولعل أهم ما يلفت النظر في ذلك العصر هو ظهور أديبتين يابانيتين شهيرتين وهما (موراساكي) و (سي) وموراساكي اسم ياباني معناه زهرة البنفسج وصاحبته أديبة في أسلوبها فخامة وحلاوة وفلسفة لينة بينما (سي) ومعناها النور تمتاز بشعورها الفياض وأسلوبها السهل الممتنع وأشهر قصة لموراساكي؛ هي قصتها المسماة غنسي وهي وصف محكم وصورة طبق الأصل وملاحظات دقيقة مدهشة عن الحياة في البلاط الياباني في القرن الحادي عشر. وهي كثيرة الشبه بالحياة في بلاط لويس الرابع عشر، وقد اتخذت لها بطلا سمته (غنسي) وهو عبارة عن دون جوان آخر، أي مخلوق حر بكل معنى الكلمة، يأتي ما يشاء من الأفعال دون النظر إلى ما كان يأتيه يتماشى مع الاعتبارات الدينية أو الإنسانية أو الاجتماعية أو لا يتماشى، إنما كل همه إرضاء شهواته وملاذه، فكانت له عدة مخاطرات غرامية. وهذه القصة تعطيك صورة واضحة للحياة اليابانية الاجتماعية في عهد (موراساكي)، ولا تسل عن العذوبة والروعة التي كتبت بها الحوادث الغرامية التي خاض غمارها (غنسي) وكل ذلك في أدب وحشمة وتورع.
أما الأديبة الأخرى (سي) فكانت معاصرة لموراساكي وتعيش معها في البلاط الياباني، ولقد عرفت بالكبرياء والصلابة في رأيها، وكتاباتها ملآى بالنقد والتجريح، كذلك كانت لها قدرة على وصف الطبيعة وما بها من حيوان وطير وصفا بليغا دقيقا.
ولنذكر هنا قطعة لها قصيرة في وصف فصول السنة الأربعة قالت: (أن الذي يسحرني في الربيع هو الفجر يتهادى في مشيته على قمم الجبال، بينما كل شيء يضيء رويدا رويدا، وقطع السحاب اللازوردية تسبح في الفضاء جماعات جماعات. . . . . . . .)
(أما في الصيف فالذي يسحرني فيه هو الليل. . . يعجبني منه القمر المنير. .! وتسحرني الليلة الليلاء، حيث يطير في جوها الحالك الحباحب المشعة هنا وهناك. . وإذا تساقط المطر في تلك الليلة فأنه يزيد في جمالها وسحرها. . .
والذي يسحرني في الخريف هو المساء عندما ترقد الشمس في مغربها مرسلة سهامها اللينة نحو قمم الجبال العالية، فتسرع الغربان نحو أعشاشها تطير جماعات مثنى وثلاث ورباع! حقا أنه منظر فيه حزن وجمال. . . . وما اجمل المنظر وأبهاه إذا لاح في الأفق البعيد سرب من الطيور البرية الصغيرة!. . بعد ذلك تختفي الشمس وتزأر الرياح وتخرج الهوام والحشرات من مخابئها صائحة مهللة. كل ذلك مما يهيج في النفس ألما لذيذا. . . والذي يسحرني في الشتاء هو سقوط الثلج إذا ما تنفس الصباح، فتكتسي منه الأرض حلة بيضاء ناصعة، وعندما يقر البرد توقد النيران للتدفئة، حتى إذا ما انتصف النهار وخفت وطأة البرد ترى جمرات النار وقد تحولت إلى رماد ابيض، وذلك هو الحزن بعينه. . .!)
وفي القرون الأربعة التي أعقبت عصر (هايين) نجد القصة والشعر الياباني لا ينتقلان من مكانهما بعيدا، الا أننا نجدهما يتأثران كثيرا بالفلسفة البوذية، فينتعش الأدب التاريخي ويولد الأدب المسرحي في اليابان، وأبطاله (كابوكي) و (نو) وفي عام 1642 يظهر في سماء الأدب الياباني (سيكاكو) وهو أستاذ الأدب الواقعي في اليابان، وقد خلف هذا الأديب مؤلفات وافرة وتلاميذ كثيرين وكانت الآداب اليابانية قبل عهده تعد في جملتها آدابا أرستقراطية كتبت لخواص الناس وأهل الثقافة منهم، فأتى سيكاكو وجعل من الأدب الياباني أداة للإفصاح عن مشاعر الإنسانية وعواطفها وهمومها وأحزانها أي تلك النواحي العامة التي قد يشعر بها رجل الطريق قبل أن يشعر بها رب الجاه والسلطان. وهو في وصفه وتحليله لتلك العواطف الإنسانية راعى الدقة التي يلاحظها النباتي في وصفه لزرعه؛ أو عالم الحيوان في دراسته لحشرة من الحشرات. وتظهر هذه المقدرة بأجلى بيان في قصته المسماة (حياة امرأة) وصف فيها سيكاكو كيف تكون حياة المرأة الخليعة المستهترة التي لا يهمها من عيشتها الا إشباع شهواتها وقضاء ملاذها، ولكن حياة الدعارة والمجون نهايتها دائما محزنة مبكية فنرى في نهاية القصة تلك المرأة التي كانت بالأمس زينة المجالس وبهجة الناظرين تهجر العالم بعد أن عضها البؤس بنابه، وتنزوي بين منعطفات الجبال في كوخ حقير من القش والخرق البالية. . .!
ولعل (تيكاماتسو) أشهر كاتب درامي في اليابان، فهو يعد بحق شكسبير الأدب الياباني. ولكنه اقتصر في مؤلفاته على الإشادة بذكر العواطف الإنسانية العالية وتحليلها كالحب والشرف والإخلاص والعفاف، ويعده البعض بين زمرة الشعراء لأن رواياته كتبها كلها نظما، ولكننا لا ننسى أن معظم كتاب اليابان الأقدمين كتبوا آثارهم شعرا لأنهم عشقوا الشعر وطربوا لأنغامه الموسيقية فألهاهم ذلك عن كل شيء آخر. (وتيكاماتسو) هذا خالق الدراما اليابانية التي تصف الحياة اليومية وتتغلغل في أعماقها وتكشف عما بها من محاسن ومعايب، وتعبر عما تختلج به قلوب الآلاف من المظلومين والمساكين.
ظل الحال على هذا المنوال حتى الثورة اليابانية التي شب لظاها عام 1867 والتي يرجع سببها إلى الروح الغربية التي بدأت تتسرب إلى بلاد اليابان الهادئة المطمئنة حوالي ذلك الوقت، فتأثرت الآداب اليابانية كما تأثر الفن الياباني، كذلك لم يسلم من هذا التيار الجديد الحياة الاجتماعية نفسها، فتغير سلوك الفرد ونظام الأسرة، حتى المساكن وأنواع الأطعمة دخل عليها شيء كثير من التعديل والتغيير، وغذى المجتمع الياباني شيء آخر جديد مغاير لليابان إبان عهد هايين أوسيكاكو، وبدأ الشعب الياباني يقف على مسرح الحياة بنفسه بعد أن كان إلى هذا العهد مشاهدا متفرجا لما يقع بين ظهرانيه، اذ بعد أن هدأ تيار الثورة وخمدت الحروب الأهلية حوالي سنة 1880 ظهر في الأفق شعاع جديد لامع يبشر بمستقبل أدبي جديد لم تلبث أن أشرقت في أثره شمس الآداب اليابانية الحديثة وهي موضوع الكلام في مقالنا الثاني إن شاء الله.
مجلة الرسالة/العدد 5/ بتاريخ: 15 - 03 - 1933