مصطفى فودة - قراءة فى رواية "جبل ناعسة" للكاتب الأستاذ مصطفى نصر

جبل ناعسة هى الرواية الثالثة للكاتب مصطفى نصر وقد صدرت عام 1983 وقد سبقها روايتان هما الصعود فوق جدار أملس والشركاء ومجموعة قصصية بعنوان الإختيار وأعقبها عدة روايات وقصص فالكاتب غزير الإنتاج، ولد الكاتب بمدينة الأسكندرية وقد وفدت أسرته من مراغة بمحافظة بنى سويف وكان يعمل بشركة الورق الأهلية بالأسكندرية، وهو متيم بمدينة الأسكندرية وأحيائها وشورعها وحواريها ونجد ذلك فى كثير من أعماله ومنها رواية جبل ناعسة وهى منطقة تبع حى كرموز وقد أشتهرت بتجارة المخدرات كحى الباطنية بالقاهرة "وناعسة التى سميت الجبل باسمها كانت امرأة عجوز أعرابية تسرح بأغنامها وتسكن كوخًا من الخشب. ص48
اعتمدت الرواية على عدة خطوط سردية متداخلة ومتقاطعة ، فكان الخط السردى الأول هو جابر عبد الواحد وأخيه صبحى وأمهما أنصاف وعدة شخصيات أخرى ثانوية مرتبطة بهم مثل زوجته نبيلة وعمه ومسعود(فسادة) زوج أمه، كان جابر عبد الواحد شخصية درامية مركبة بإمتياز، نشأ طفلًا يتيما فقيرًا بعد موت أبيه صغيرًا وأصرت أمه على تعليمه حتى أصبح أستاذا جامعيا بكلية الآداب وكاتبًا مسرحيا مشهورا، اتسمت حياته بالإنتهازية واستغلال من حوله والصعود اجتماعيًا على أكتافهم ثم التنكر لهم، ويظهر ذلك فى موقفه من الخواجة أنطونيو الذى كان مثقفا موسوعيا وتعلم منه الآداب والفنون ثم تنكر له وتواطأ مع أخيه على قتله فى شقته أثناء تواجده معه والسماح بدخول أخيه مدعيا أنه بائع اللبن ، وفى المحاكمة رفض حيلة محامى أخيه من الإدعاء كذبا بوجود أمه مع أنطونيو أثناء الجريمة، وقد انتهى جابر بإصابته بالقلق والإضطراب والتشوش بعد اشتراكه مع أخيه فى مقتل الخواجة أنطونيو والذى كان يلوح له شبحه فى كل مكان يذهب إليه، وخيط سردى ثانٍ هى الممثلة المسرحية المشهورة بالأسكندرية سامية خضرالتى آوته بشقتها وأدخلته الوسط المسرحى وساعدته ودافعت عنه ضد رئيس القسم بكلية الآداب الذى كان يضطهده، وذلك عن طريق شخصية أمنية شهيرة تعرفها اسمه(اسماعيل بك) سيعقد معه صلة معه فيما بعد، ثم تنكر لها واستغلها واتخذها عشيقة له، ونمت صلته يإسماعيل بك وقدم له عدة تقارير أمنية عن زملائه اليساريين مما مكنه من الظهور الإعلامى والشهرة، هناك خط ثالث بالرواية هو الخواجة أنطونيو كان مثقفًا واسع المعرفة كون ثروة كبيرة من جمع القمامة،علّم جابر الآداب والفنون وأقام علاقة جنسية مع أنصاف فاكتشف ولديها جابر وصبحى تلك العلاقة فقتله صبحى بمساعدة أخيه وقد حكم على صبحى بالمؤبد والذى اعترف أنه وحده من قتل أنطونيو وأبعد أخيه عن الجريمة، وهناك خيط رابع بالرواية هو عبد الراضى صاحب مقهى، تزوج من فتاة صغيرة (شوقية) على زوجته وأم أولاده بدرية ونشأت علاقة بينها وبين صبحى أثناء سجن زوجها فى قضية مخدرات، وقد كانت تلك الخيوط السردية متداخلة ومتقاطعة مع بعضها البعض بالرواية، غير أن براعة الرواية لم تكن فى تلك الحكايات المتوالدة والمتداخلة فقط والتى تشبه طريقة ألف ليلة وليلة، بل فى تلك التقنيات السردية الحديثة البارعة التى وظفها الكاتب فى بناء الرواية مثل تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) التى حفلت بها الرواية، فقد بدأت الرواية بشخصية جابر وهو كاتب مسرحي شهير أثناء عرض لقاء تلفزيونى معه وشاهده أهل منطقته بقهوة عبد الراضى الذى استرجع حياته وأخيه صبحى ، كذلك استرجع جابر حياته الماضية وهو يزور الحى بسيارته ووقوفه أمام البيوت القديمة فى حالة تشوش وقلق واضطراب"يظل يطوف الشوارع، يستعيد ذلك الماضى، ارتعشت يداه على الدركسيون، أبطأ السير. ألات التنبيه تطاره، مهلا مهلا،"أريد أن أبقى هنا . أنزرع داخل الأرض، لا أبرحها أبدأ"ص18 ، كذلك شغلت تقنية الحديث الداخلى (المنولوج) حيزا كبيرا بالرواية حيث عبرت عن أعماق عدة شخصيات اتسمت بالقلق والإضطراب مثل جابر وأمه وراضى وغيرهم ، وعلى سبيل المثال يخاطب جابر ذاته "لكنك أحببت الخواجة العملاق، مازال للآن يطاردك. تراه آتيا وأنت تجامع نبيلة - زوجتك- وأنت جالس فى مقعدك بالكلية تحاضر والطلبة أمامك،تكف فجاة عن القول، تسمع صوت حذائه يزحف فوق الارض، يبتسم لك، يمد لك يده:أصبحت أستاذا الآن أنا الذى جعلتك هكذا "ص23 ، ومن التقنيات الدالة فى الرواية هو المشهدية فقد عبر الكاتب عن أحداث الرواية بطريقة مشهدية حيث أكثر من استخدام الأفعال خاصة الفعل المضارع بجمل قصيرة لاستحضار الحدث أمام القارئ مثل مشهد أم جابر وهى تغادر شقة انطونيو "تدخل أمه حجرة من حجرات الشقة الكثيرة. تغير ملابسها، ترتدى ثوبها القصير، تبدو أكثر جمالًا، تضع الحذاء الضيق العالى فى قدميها، تمسك حقيبتها، تبتسم لهما :تريد شيئا آخر يا أنطونيو"ص22 ، كان مشهد مقتل الخواجة فى شقته من أقوى المشاهد الدرامية التى صورها الكاتب بعين الكاميرا وكأننا نشاهد مشهدا سينمائيًا بارعًا وقد شغل أكثر من صفحة ص 35 وفقرة من ص36 .
لم يلتزم الكاتب بالزمن الخطى الطبيعى أى التسلسل الطبيعى للزمن من ماضى وحاضر ومستقبل بل بدأ بمشهد فى الحاضر ثم أعقبه استرجاع للماضى وهكذا مثل مشهد الحوار مع جابر بالتلفزيون والذى أحدث استرجاعا للماضى ثم العودة للحاضر ، كذلك مشهد زيارة جابر عبد الواحد للحى وقد أصبح كاتبا مشهورا يستعيد نشأته الفقيرة وأحداث حياته الماضية وقد أجرى الكاتب تناصا بين جريمة مقتل الخواجة أنظونيو ورواية الجريمة والعقاب للكاتب الروسى ديستويفسكى حيث وقع قتله أثناء قراءته تلك الرواية وحدث نوع من التشابه بينهما "كان الخواجة يقرأ عن "راسكولينكوف"، يترجم لى الرواية عن الفرنسية "ص35 وفى موضع آخر"ويذكر راسكولينكوف وعالم ديستويفسكى العميق"ص22 .
كان المكان عنصرًا رئيسيا وفعالًا فى أعمال الكاتب وقد سمى بعض أعماله باسم الأسكندرية وبأسماء أحياء وأماكن بها مثل جبل ناعسة ، شارع البير، اسكندرية 67 ، ليالى غربال، ليالى الأسكندرية ، يهود الاسكندرية، غوانى الأسكندرية وغيرها، فلم يكن المكان بالرواية مجرد حيزا للأحداث بل كان عنصرًا فعالًا مع الحدث، فجبل ناعسة مكانًا يسكنه الفقراء والمهمشين وتجارة المخدرات ومأوى للمجرمين والخارجين عن القانون فانعكست تلك البيئة الفاسدة وانتشار الفقر بها على ساكنيها وسلوكهم ومصائرهم وعلى نشوء علاقات فاسدة بينه الرجال والنساء وجُلها خارج الزواج مثل العلاقة بين أنصاف وأنطونيو، ويبن جابر والممثلة سامية خضر، وبين صبحى وشوقية .
وظف الكاتب الوصف الخارجى للشخصية للدلالة على أعماقها الباطنية – وهى سمة أسلوبية لدى الكاتب فى كثير من أعماله - فمثلا وصف عيون أنصاف "أطال(راضى) النظر فى عينيها" ما لونهما يا امرأة ؟ أمازالتا تحيران أهل الجبل؟! "ص15 وجاء وصف جابر" قصيرا دميما"ص16 "، "كنت شيئا واهنا، كاتبا مغمورا قميئا"ص25 للدلاله على شخصيته المشوهة والمعقدة والمضطربة ، كذلك وصف الخواجة بالعملاق دلالة على فتوته وثرائه وثقافته وحزمه مع عماله فى العمل، كذلك وصف نبيلة بعد زواجها من جابر"وجهها الشاحب " ، ".نبيلة الزهرة الناضرة ذبلت الآن "ص37 دلالة على تعاستها بعد زواجها من جابر، كذلك وصف سامية خضر ممثلة المسرح " أكبر منى بسنوات طويلة وجهها ليس جميلا ولكنها مشهورة"ص26 دلالة استغلاله لشهرتها ومكانتها، كذلك استخدم الكاتب بعض أسماء الشخصيات بدلالات ذكية فمثلا الخواجة أنطونيو وربما يشير إلى أنطونيو القائد الرومانى ومصيرهما الموت، كذلك استخدم اسم فسادة وهوكاتب محامى مدمن للأفيون زوج أنصاف دلالة على فساده وخيانته للخواجة فى العمل وقد فقد بصره من أثر ضرب أنطونيو له.
كانت لغة السرد والحوار باللغة العربية الفصحى اليسيرة وبجمل قصيرة عبرت عن سرعة إيقاع السرد وغلب علي السرد استخدام الفعل المضارع والذى يفيد المشهدية واستحضار الحدث، أما الحوار فكان مكثفا وبعبارات قصيرة وسريعة دون إملال مثل الحوار بين جابر وأخيه عند زيارته بالسجن
- لماذا تبتسم ؟
- تذكرت امراتين فى الجبل كانتا تتشاجران من أجلك .
ضحك طويلا وقال : أيام يا أخى. الآن لا أذكر سواك وأمى أنصاف. أود أن أخرج من السجن لأعيش معكما .أخرجتُ له نقودا قال:لا، أمى أنصاف ترسل لى نقودا كل شهر"ص65(هناك تزيد بذكر اسم أمه فهما شقيقان ويكفى كلمة أمى).
استطاع الكاتب التعبير عن منطقة جبل ناعسة وسكانها المهمشين والفقراء وأثر المكان فى سلوكهم وعلاقاتهم وشخصياتهم ومصائرهم التى غلب عليها الضياع والشقاء بلغة سردية وفنية بديعة وبتقنيات سردية حديثة أجاد الكاتب توظيفها وعبرت عن إمتلاكه أدواته السردية والفنية .
May be an image of text














Send


Share

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى