د. خالد شاكر حسين - هل بوسعك أن تطأ نفس النهر مرتين؟ (فيتكنيشتاين) إزاء (هرقليطس)

ديفيد إيغان
ترجمة: د. خالد شاكر حسين

"لست رجلًا متدينًا"،قال الفيلسوف (لودفيج فيتكنيشتاين) ذات مرة لأحد الأصدقاء، " غير أني لا أملك إلا أن أرى كل مشكلةٍ من منظورٍ ديني." . تنزع هذه المشكلات التي يزعم أنه يراها من وجهة نظر دينية إلى أن تكون قضايا فنية محضة تدور حول المنطق واللغة.
تلقى (فيتكنيشتاين) تعليمه في البدء بصفته مهندساً قبل أن يتحول إلى الفلسفة ، لذا نجده يعتمد إستعاراتٍ ميكانيكية من قبيل التروس والرافعات والآلات. وأينما وجدنا كلمة "متعالٍ/ transcendent" في كتابات (فيتكنيشتاين) ، فمن المرجح حينها أن نعثر على كلمتي "سوء الفهم" أو "الهراء" في مكان مجاور وقريب.
عندما يتعاطى (فيتكنيشتاين) مع الفلاسفة الذين يضعون نصبَ أعينهم أكثر الألغاز غموضاً وسمواً يكون عادةً إقصائياً وبعنادٍ شديد.
فلنتأمل في عبارته التالية: "إن الشخص الذي قال أن ليس بوسع المرء أن يطأ نفس النهر مرتين مخطئ؛ فالمرء بوسعه أن يطأ النهر نفسه مرتين". بمثل هذا النوع من التصريحات البليدة، يبدو (فيتكنيشتاين) سطحياً ومملاً أكثر منه مفكراً دينياً. إلا أن التمعن الدقيق في هذه العبارة بوسعه أن يُظهِرَ لنا ما يقصده (فيتكنيشتاين) (بوجهة النظر الدينية) وليس هذا وحسب بل ويكشف لنا أيضاً عن (فيتكنيشتاين) بصفته مفكراً دينياً ذو أصالةٍ مذهلة.
إن الشخص الذي قدم هذه الملاحظة عن الأنهار هو (هرقليطس)، فيلسوف ينتمي الى فترة ما قبل سقراط وفترة ما بعد الحداثة في آنٍ واحد، فيلسوف تُحَرَّف مقولاته على المواقع الإفتراضية للعصر الجديد (New Age)، ويَستَشهِد الجميع بمقولاته بعد إنتزاعها من سياقها، إذ كل ما وصلنا من أعماله لا يتعدى مجموعة من الشذرات المقتطعة والمتفرقة. ولكن ما هو ذلك الشيء الذي يعتقد (هرقليطس) أننا لا نستطيع فعله؟ بالتأكيد بوسعي أن أخوض بقدميّ قليلاً داخل وخارج النهر ثم أعود الى الخوض داخله مرةً أخرى ومن على ضفته. ولكن هل هو النهر نفسه بين كل لحظةٍ وأخرى - فالمياه تتدفق أعلى قدميّ ثم تنفلت منسابةً نحوالمحيط ريثما تنضم مياه جديدة إلى النهر عند مصدره – بل وهل لا زلتُ أنا نفس ذلك الشخص؟
ربما تقودنا إحدى القراءات والتفسيرات لما قاله (هرقليطس) الى محاولته إيصال رسالة مبهمة. فنحن نستعمل كلمة (النهر) عادةً للحديث عن شيء ما في حالة تغير مطرد، وذلك قد يهيئونا للإعتقاد بأن الأشياء ربما تبدو ثابتةً أكثر مما هي عليه في الحقيقة - يهيئونا للإعتقاد فعلاً أن ثمة أشياء راسخة تماماً. وليس بوسع لغتنا المقيدة بالأسماء أن تستولي على هذا الجريان المتدفق للوجود.
إن مغزى ما يقوله (هرقليطس) يكمن في أن اللغة تُعَدُ أداةً قاصرةً عندما يتعلق الأمرُ بتصوير الواقع.
إن ما يجده (فيتكنيشتاين) مثيراً للإهتمام في الكثير من أقوالنا الفلسفية هو أنها على الرغم من أهميتها البالغة في الظاهر، إلا أنها لا تزال غامضة من حيث التأثير الذي تتركه على الأشياء. تخيل أن يقضي (هرقليطس) ما بعد الظهيرة الى جانب النهر (أو الى جانب التيار المتدفق بأستمرار للدقائق الشبيهة بالنهر، إن كنت تفضل ذلك) مع صديقه (بارمينيدس)، الذي يقول إن التغيرَ أمرٌ مستحيل. وقد يخوضون نقاشاً مُحتَدِماً حول ما إذا كان النهر المزعوم نهراً واحداً أو عدة أنهرٍ متكثرة، ولكن بوسعهما, بعد هذا النقاش, الذهاب معاً للسباحة، أو لتناول مشروبٍ بارد للترويح عن نفسيهما، أو حتى ينسلون خائضين في النهر من أجل صيدٍ خاطفٍ للقليل من الأسماك. لا شيء البتة من هذه الفعاليات قد يتغير نتيجةً للإلتزامات الميتافيزيقية للمُتَجادِليَن.
يعتقد (فيتكنيشتاين) أننا نستطيع إدراك هذا النوع من الجِدال بصورةٍ أدق فقط إذا ما شبهنا الأشياء التي يقولها الناس بحركاتٍ في لعبةٍ معينة. فكما أن كل حركة في لعبة الشطرنج تغير من وضع اللعبة برمتها، تغير أيضاً كل حركة حوارية من وضع اللعبة ضمن حدود ما يدعوه هو بـ (لعبة اللغة). لحظة التكلم، كما هي عليه الحال في لحظة تحريك قطعة شطرنج، هي فعل شيء ما. لكن الخطوة تعد خطوةً في لعبةٍ ما فقط إذا ما أفترضنا وجود مقدار معين من (إعدادات- التهيئو للعب). فلكي تعرف لعبة الشطرنج ، يتوجب عليك أولاً أن تكون قادرًا على التمييز بين الحصان والفيل، وأن تعرف كيف تتحرك القطع المختلفة، وهلم جرا. كما أن وضع القطع على رقعة الشطرنج في بداية اللعبة لا يعد سلسلةً من الحركات. بل إنه شيء نفعله لجعل اللعبة ممكنةً أساساً .
يعتقد (فيتكنيشتاين) أن إحدى الطرق التي تُربِكُنا فيها اللغة هي أن فعاليات (تحديد-القاعدة)، و (إعدادات- المكان) تُوضَع بنفس الوسيلة التي تُوضع بها الحركات الفعلية لـ (لعبة اللغة) - أي أنها توضع بالكلمات. إذ أن جملة " يفيض النهر على ضفتيه" وجملة " إن كلمة النهر إسم" تعدان جملتين إنكليزيتين محكمتين نحوياً، غير أن الجملة الأولى فحسب تعد (حركةً) في لعبة اللغة. أما الجملة الأخرى فتُفصِح عن قاعدة لإستعمال اللغة: إن الأمر برمته شبيه بقولكَ "إن الفيل يتحرك قُطرِياً"، فهذه العبارة بحد ذاتها لا تعد حركةً في (لعبة اللغة) كما أنك حينما تُبين الكيفية التي يتحرك بها الفيل فإنك لا تؤدي حركة في لعبة الشطرنج.
إن ما يريدنا (فيتكنيشتاين) أن نفهمه هو أن الخلاف بين (هرقليطس) و (بارمينيدس) لا يدور حول حقيقةٍ معينةٍ (عن النهر) بل (عن قواعد الحديث) عن النهر. إذ يوصي (هرقليطس) بإستعمال لعبة لغوية جديدة: لعبة تشتمل على قاعدة لإستعمال كلمة (نهر) تَحظُر علينا أن نقول (أننا وطأنا نفس النهر مرتين)، تمامًا كما تحظر علينا قواعد اللعبة اللغوية الخاصة بنا أن نقول (أن نفس اللحظة قد وقعت في فترتين مختلفتين من الزمن). لا ضيرَ في إقتراح قواعدٍ بديلة، بشرط أن تكون على بينةٍ من أنك تقوم بذلك. فإذا ما قلتَ: (إن الملك يتحرك تمامًا مثل الملكة)، فإما أن يكون قولكَ هذا عن لعبة الشطرنج خاطئًا أوأنك ببساطة تقترح نسخةً بديلةً للعبة - والتي قد ينتهي بها المطاف الى أن تكون أو لا تكون نسخةً مُحكَمة. مشكلة (هرقليطس) هي أنه يتصور أنه يتحدث عن الأنهار لا عن القواعد - وهو في هذه الحالة، وببساطة شديدة مخطئٌ تماماً. إن الخطأ الذي نرتكبه غالبًا في الفلسفة، وفقًا لما يعتقده (فيتكنيشتاين)، هو أننا نعتقد أننا نفعل شيئًا ما بينما نقوم في الحقيقة بفعل شيءٍ آخر مختلف.
ولكن إذا ما استبعدنا هذه الملاحظة عن الأنهار باعتبارها تخبطاً ساذجاً، فلن نتعلم منها شيئاً. ولذا يحذر (فيتكنيشتاين): ( بمعنى أو بأخر ليس بوسع المرء أن يكترث كثيراً لمعالجة الأخطاء الفلسفية، إذ أن فيها الكثير من الحقيقة ). قد لا يقوم (هرقليطس وبارمينيدس) بفعل أي شيءٍ مختلف كنتيجة مباشرة لاختلافاتهما الميتافيزيقية، ولكن هذه الاختلافات تتحدث عن مواقف مختلفة تماماً أزاء كل ما يقومون بفعله. وربما يكون هذا الموقف عميقًا أو ضحلًا، جريئًا أو جباناً، مطمئناً أو نَكِداً، لكنه ليس صحيحاً أو خاطئاً. وبالمثل، لا تُعَد قواعد أي لعبة صحيحة أو خاطئة - إذ إنها المقياس الذي نحدد بموجبه ما إذا كانت الحركات التي نقوم بها داخل اللعبة صحيحة أو خاطئة - ولكن تذكر أن الألعاب التي تعتقد أنها جديرةٌ باللعب، والكيفية التي ترتبط بها أنت مع قواعد اللعب بينما تقوم بعملية اللعب كل ذلك يقول الكثيرَ عنك.
ما الذي يدفعنا إذن - مع (هرقليطس) - إلى إعتبار أن هذا الإفصاح عن الموقف مجرد حقيقة ميتافيزيقية؟ تذكر أن (هرقليطس) يريد إصلاح ألعابنا اللغوية لأنه يعتقد أنها تسيء تمثيل الوضع الحقيقي للأشياء. ولكن تأمل فيما تحتاج للقيام به حتى يتسنى لك تقييم ما إذا كانت ألعابنا اللغوية مناسبة إلى حد معين لتمثيل الواقع النهائي أم لا. ستحتاج طبعاً الى المقارنة بين شيئين: لعبة اللغة الخاصة بنا من جهة، والواقع الذي تزعم أنها تمثله من جهةٍ أخرى. أي بعبارةٍ أخرى، ستكون بحاجةٍ الى مقارنة الواقع كما تُمَثِله لنفسك مع الواقع مجرداً من أي تمثيل. ولكن هذا بلا معنى: إذ كيف بوسعك أن تُمَثِل لنفسك ما تبدو عليه الأشياء مجردةً من أي تمثيل؟
إن حقيقة أننا قد نكون منجذبين للإعتقاد بإمكانية عقد مثل هذه المقارنة تُخبِرُنا بالكثير عن التوق البشري العميق للخروج من جلودنا. بوسعنا أن نشعر أننا محاصرون فعلاً بوجودنا الجسدي المقيد بالزمن. هنالك نوع غامض من الباعث الديني الذي يسعى إلى التحرر من هذه القيود: باعث يسعى إلى تجاوز ذواتنا المحدودة وخلق تواصل مع اللامحدود. يسوقنا دافع (فيتكنيشتاين) الديني هذا إلى الإتجاه المعاكس: فهو لا يحاول إرضاء تطلعاتنا إلى التسامي ولكنه بدل ذلك يحاول أن يَفطِمنا عن هذه التطلعات جملةً وتفصيلاً. إن الإنعتاق الذي يقدمه لنا ليس إنعتاقاً (من) ذواتنا المقيدة بقدر ما هو إنعتاق (لأجل) ذواتنا المقيدة.
تعود ملاحظة (فيتكنيشتاين) هذه عن (هرقليطس) إلى نسخة مكتوبة منذ أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، وذلك عندما شرع (فيتكنيشتاين) لتوه في صياغة فلسفته المتقدمة والتي نُشِرت بعد وفاته على أنها (تحقيقات فلسفية, 1953) .
إن من بين الأشياء التي تجعل هذا العمل المتأخر مُمَيَزاً الطريقة التي يدمج بها (فيتكنيشتاين) الذي يرى كل مشكلة من منظار ديني مع (فيتكنيشتاين المهندس) صاحب العقلية العملية. تبدو التأملات الميتافيزيقية، لدى (فيتكنيشتاين)، شبيهة بالتُرُوس التي أفلتت منعتقةً من آلية اللغة وراحت تدور وتدور بجنون وطيش.
يرغب (فيتكنيشتاين المهندس) بجعل هذه الآلية تعمل بسلاسة وأنسيابية. وهنا بالضبط تكمن البصيرة الروحية: إن غايتنا، إذا ما فهمناها جيداً، هي ليست التسامي بل الحُلوُل المُوَظَف على نحوٍ كامل. يقدم (فيتكنشتاين)، في هذا الصدد، مقاربةً تقنيةً إستثنائيةً لتحقيق طموح لطالما وُجِدَ في أدبيات المتصوفة إمتداداً من (مَيستر إكهَرت) وحتى بطاركة طائفة الزن: ليس من أجل الصعود إلى حالة من الكمال ولكن من أجل أن تدرك أنك أينما تكون، سابقاً والأن وفي هذه اللحظة بالذات، قد بلغت أوج الكمال الذي أنت بحاجةٍ إليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى