ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(13)

ج(13)


نهاية الشتاء وبوادر فصل الربيع تهلّ ، يفوح عبير النرجس البرّي وينثر بهجة بين جنبات الوادي السعيد الّذي لم يجفّ يوما ولن يجفّ ، فلا يمكن لملتقى مصبّات وسيول الهضاب والجبال المحيطة به أن يجفّ إلاّ بمشيئة القادر ... أيقظت زهور النّرجس في ذاكرتها وميضا فارتسمت بين عينيها مروج سندسية تتزيّن بالعسجد عند مطلع الربيع ،كانت تلك هي مرابع صباها ، خرجت عنق حمام نحو مضارب النرجس ، حيث تبوح الذاكرة بالخصب السّخي ، معلنة غدق العطاء بربيع زاهر ، انتابها حنين قوي حيال أهلها وديارها ، ذرفت دموعا كفكفها عبق الزهر العاشق ، قطفت ما هفّت نفسها إليه ، ثمّ عادت نحو ديار الشيخ خليفة ، وخلال سيرها تذكّرت انقضاء فترة إقامة خليفة على تخوم الوادي ، ابتأست و حدّثت نفسها :

ــــ ترى ! ما سيكون مصيرك يا عنق حمام ، و أنت أسيرة دون أهلك ، ودون الشيخ خليفة وهو يوشك على المغادرة إلى مقرّ قصر حكمه ؟

واصلت السير ومعها حمائل أملها في غد أفضل ، خاصّة وهي تدرك حبّ الشيخ خليفة لها .

حلّ المساء فانتظرها حتّى خرجت وهي تحمل طبقا مغطّى لا يظهر منه سوى ما ينبعث من روائح تنبىء بطيب ما به من طعام ،سلّمته لباز كي يحمله عنها ، و اكتفت بحمل الباقة ، سارا جنبا إلى جنب صوب دار الشيخ خليفة ، باز بقامته الطويلة المنحوتة و هي بقدّها المياس المتناسق المائل إلى الطول ، لكنّ ملامح عنق حمام لم تخلُ من تأثّر بفارق مقاميهما، كونها ابنة كرام قومها ، عزيزة أهلها ، و كون باز لا يعدو أن يكون خادما ... يتعمّق التأثّر أكثر كلّما ناداها باسمها دون كلفة ، لكنّها تستكين إلى التجاوز كونها هي الأخرى لا تعدو أن تكون أسيرة . سألها باز بصوت خافت خجول :

ــــ رائحة الطّعام تخترق أنفي ، ترى ما الذي سيحظى به سيّدي خليفة من يديك يا عنق حمام ؟

تمنّعت و قالت بنبرة ماكرة :

ــــ اصبر على رزقك ، لن أطلعك عمّا بالصحن قبل سيّدي خليفة.

حلّت عليه ببهجتها المعتادة ، تحمل باقة النرجس بيدها . حيّته بما يليق بسيد القوم ، عبق عبير النرجس ومعه عبير قلبها المحبّ ، ثمّ أمرت باز بوضع الطبق أمام سيّده بعد ما ملأت له طبقا أصغر بجريش القمح المرصّع بحبّات اللوز مكلّل بقطعة كبيرة من لحم الضأن . استلم باز طبقه بلهفة وانصرف ، فيما تقدّمت عنق حمام من خليفة ومدّت يدها التي تحمل الباقة وسلّمتها له باسمة وقالت بلهجة غنج ممزوجة بحياء :

ــــ أحببت النّرجس منذ طفولتي ، لكنّني أدركت جلاله اليوم ... أدركت أنّ على حافة بتلاته تقام قلاع الحبّ والأمل ، لذا قطفت هاته الزهور من أجلك سيّدي .

كانت باقة الزهر في نظر خليفة مُجتلى للمتأمّل وتحفة للحالم ورسولا للمحبّ ، استلمها بشوق كبير ورأى أنّها والباقة توأمان يضيفان السعادة والبهجة لقلبه ، أوحت إليه باقة الزهر برسالتها الصامتة النّابضة بكلّ ألوان الحياة المضيئة التي تعكس الفرح والحبّ . إنّها بهديتها أذابت الفوارق ومهّدت له الطريق كي يبوح لها بحبّه .

قرّب الزهور من أنفه واشتنشق عبيرا ذكّره بالصبا ، وأحيا فيه منابع الأمل و الانطلاق ... نظر فيها مليا فأبهجه مظهرها وقال يمتدحها ويمتنّ لجميل صنيعها :

ـــــ إنّك يا عنق حمام مثل هاته الزهور البرّية . جميلة . ملاوعة و حرّة .

ــــ عفوا سيّدي . قد أصدّق أنّني جميلة ، وقد أكون ملاوعة للضرورة لكنّ كيف أكون حرّة و أنا أسيرتكم ؟ !

ندت عن رأس خليفة حركة موحية بالانزعاج و قطب ما بين حاجبيه واتَّسعت عيناه السوداوتان الواسعتان، وهو يحدجها بغرابة ، ثم قال بنبرة استنكار لم يكن يملك فيها إلاّ أن يستحضر هيبة وحزم الحاكم :

ــــ أترين أنّك أسيرة بعد كلّ ما خصصته لك من ودّ ومقام ؟ !

تلكّأت عنق حمام و طأطأت رأسها خجلا لكرم خليفة الّذي لم يكن يضنّ عليها بأحسن ما عنده من مأكل وملبس ومقاما ، فرغم ما كانت تشعر به اتجاهه منذ البدء باستعلاء من ناحية، وبالتبعية من ناحية أخرى ، فلم يخل أيضا يقينها من حبّه لها ، فهي إن شعرت في البدء بأنّها أسيرة فإنّ شعورها ذاك وإن مضى يزول بحلول شعور الحبّ محلّه .

عجّلت بتلطيف الأجواء و سارعت في الاعتذار من خليفة وهي تعلم بداخلها حبّه الأثير لها ، و إلاّ استبدلها بغيرها من الحسان وهو في ذلك ليس بضنين ، قالت محاولة توجيه انتباهه :

ــــ عليك أن تعجّل في تناول ما أحضرت لك في الطّبق سيّدي ، ليس جريش القمح المطبوخ لذيذا إلاّ ساخنا .

أخذ الطّبق يستبين لعينَيه اللّتين غابتا عنه أوّل الأمر في حرارة اللقاء وغواية النرجس ، رفع الغطاء عن الطبق فوجد ما يسرّ قلبه ، إنّه طبق الجريش بلحم الضأن وقد طبخته عنق حمام لتجعل منه طبق غواية يضاهي فاكهة البدايات . استلم قطع اللّحم الشهية و بدأ يلتهمها بنهم شديد ، على حين جعلت تراقبه صامتة تمدّ بصرها إلى لا شيء بين الفينة والأخرى ، وهي مستندة إلى نمرق الحرير كأنّها حورية من عالم الحكايا ، تلوّح في عينيها الواسعتين البنّيتين الجميلتين ، نظرة عميقة هادئة ... توقّف فجأة و أشار إليها بمشاركته طعامه قائلا :

ــــ أراك لا تأكلين يا عنق حمام !

ــــ بالهناء سيّدي لقد سبقتك وتناولت ما يكفي في بيتي .

ــــ لن أهنأ بطعامي إلاّ إذا شاركتني فيه .

كانت تلك إشارة صريحة قاطعة منه ، بأنّها امرأة الحضور والغياب ، و أنّها فاقت الجواري وارتقت إلى مقام سيّدة تجاوزت الأسر بمسافات و أميال . استعادت ثقتها به و انتشت بما هي فيه من دلال و ما حباها به من حب وتقدير ، وما إن أنهى طعامه ، حتى قدّمت له إبريق الماء فاغتسل ، بينمااجتهد باز في تنظيف المكان وإعداد الشاي ... جعلت عنق حمام تحكي... فقالت :

.... يتبع




1730460757664.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى