1- إنعام كجه جي " النبيذة " العنوان ، والفلسطيني النوراني اللامع :
أول ما يلفت النظر في رواية إنعام كجه جي الصادرة في ٢٠١٧ - عدا لوحة الغلاف التي هي صورة مفترضة للنبيذة نفسها - هو العنوان " النبيذة " الذي تمحورت الرواية كلها حوله وتعلقت به وشكل تساؤلا تطلب إجابة ؟
يرد ذكر هذا الدال تارة ذكرا عابرا وطورا ذكرا فيه توضيح معناه في صفحات عديدة هي ١٨٠ / ٢٤٩ / ٢٥٨ / ٣٠٢ / ٣٠٨ .
وحين يؤتى على ذكر إحدى للشخصيات الرئيسة في الرواية وهي تاجي عبد المجيد التي تعددت أسماؤها /تاج الملوك / مارتين شامبيون / السيدة شامبيون نقرأ أنها " ظلت العصية والنبيذة وعلامة الاستفهام . لم تجد مستقرا في أي بلد". وحين يبحث منصور في معنى النبيذة يجده ويكتب الآتي :
" أمسك القلم وأتردد . "نبيذ " وأتأمل المفردة .أضيف إليها تاء التأنيث "نبيذة " .أخطف معطفي وأذهب إلى بيت جارنا الخوري.خطواتي تنطبع في الثلج، أطلب معجما وأجلس قرب نار الموقد. أحب هذه المقاعد الواطئة من الخيزران والأرجل الخشب ، بلا ظهر ولا مسندين. أبحث عن الفعل الثلاثي: "نبذ الشيءنبذا ، وأنبذه وانتبذه، طرحه أمامه أو وراءه، فهو منبوذ ونبيذ، والنبيذ: غليان العصير . والعامة تخص النبيذ بالخمر وليس بصحيح، وانتبذ: جلس ناحية. والمنبذة الوسادة والأنباذ الأوباش " .أغلق معجم "أحكام الإعراب في لغة الأعراب ".
وحين تستقر تاجي في باريس مع طفلتها التي أنجبتها في لحظة حب عابرة مع أمير إيراني
" تؤمن بأن المسيحي الحق هو من يفتح بيته للمنبوذين " .
وحين تتم المقارنة بين تاجي ووديان الملاح نعرف أن " جنازة وطنية رمت بالأولى خارج الحدود وحفلة تنكرية طردت الثانية من جنة السماع. لا أدري من منا النبيذة . ولا من القادرة على تحدي زمنها " .
أقامت وديان مع تاجي في باريس في الشقة التي ورثتها الأخيرة من زوجها الضابط الفرنسي وكانت " تعرف أنها لن تتخلى عن العجوز، أمها في الغربة. والدتها التي لم تلدها. لم تكن جاحدة ولا انضمت إلى قائمة النابذين".
وإذا ما ربطنا بين قصة تاجي في حملها غير الشرعي وخروجها من إيران والعراق واستقرارها في باريس مع طفلتها الأشبه باللقيطة ، بما ورد عن مريم في القرآن الكريم ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ) و ( فنفخنا فيه من روحنا بغلام فحملته فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا ) قلنا بقدر من الاطمئنان إن النبيذة في المقام الأول هي تاجي .
وتاجي بإيجاز هي فتاة عاشت مع أمها وزوج أمها الايرانيين ، بعد أن تخلى أبوها عنها وهي طفلة ، ولما تزوجت أمها من عراقي وكبرت خافت الأم على ابنتها من الزوج، فأرسلتها لتعمل خادمة في بيت طبيبة، وهناك استغلها أخو الطبيبة وعلمها وصارت صحفية. كان هذا في العهد الملكي في ٤٠ ق ٢٠ .
وأما وديان الملاح فهي شابة تدرس الموسيقى وتعاني من صمم جزئي وتقع ضحية العهد الجمهوري وابن الحاكم المستبد الذي يعذبها بسادية ، فتفقد سمعها بالكامل، ويحدث أن تسافر إلى باريس لتدرس الموسيقى وتظل هناك ، وهناك تقيم مع تاجي تخدمها وتغدو لها مثل ابنتها.
الفلسطيني :
كتب عن الرواية مقالات كثيرة أتت على الشخصيتين السابقتين، وهناك شخصية ثالثة هي منصور البادي المقدسي الفلسطيني الذي تعرف إلى تاجي حيث عملا معا في كراتشي، في العامين ١٩٤٩و١٩٥٠، في إذاعة تنطق بالعربية .
كانت تاجي تكبر منصور بسنوات وكانت " قنبلة جنسية " أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ولكنها أحبت الفلسطيني وأحبها دون أن يتصارحا ، وكان أن أنهي عملهما مع مصريين آخرين من الإذاعة، فغادرا كراتشي وسار كل في اتجاه. وظلا يحملان لبعضهما مشاعر حب آملين أن يلتقيا ذات نهار .
ولد منصور البادي في القدس في أواخر ٢٠ ق ٢٠ وكان الذكر الوحيد بين خمسة إخوة ، ولما حدثت نكبة ١٩٤٨ هاجرت العائلة إلى لبنان حيث استقرت هناك .
في أثناء عمله مع تاجي يقعان معا في الحب دون أن يتفاتحا في موضوعه .
تاجي التي أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ترى في منصور البادي شخصا مختلفا:
" تتأمله وهو يقرأ بصوته الرخيم أمام الميكروفون، وسيم دون أن يتوافق وذوقها في عشاقها...نحيل بالغ التهذيب.. يصغرها بحفنة أعوام، لكن شيئا ما يشدها إليه. تطمئن لصحبته. الوحيد الذي لا يغازلها. لا يرمي لها كلمات ترميها، بدورها، في كيس التأوهات الملقى وراء ظهرها .
أما هذا الولد الطري ، زميلها الفلسطيني، فلا أكثر من أن يسمعها تغني. لهجتها العراقية تفعل فيه المفاعيل ...
أدركت أنه مغرم وممسوس ،جاهز للاحتراق مثل عود كبريت .ولم ترق له وتتجاوب،بل أحست بإشفاق. خافت عليه من غوايتها. كان صغير السن ونقيا وابن أوادم. ولم تكن تنوي تلويثه. لن تضيفه إلى ضحاياها. فلتبق البريء على براءته" ويبقى منصور حبها الذي يعيش معها طيلة حياتها التي بلغت التسعين .
الفلسطيني في الرواية يذكرنا بفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في رواياته العديدة، ولا أدري إن كانت الروائية وهي تكتب عن منصور تمثلت جبرا الذي كان وجها من وجوه بغداد الثقافية. إن منصور يتشابه مع جبرا وإن لم يتطابق معه تطابقا كليا ، ويتشابه أيضا مع أبطال جبرا الذين خلقهم على صورته؛ جميل فران ووديع عساف ووليد مسعود .
منصور مثقف فلسطيني يتبت جدارته في عمله وقد أخذته نكبة ١٩٤٨ بعيدا عن مدينته القدس. سافر إلى بغداد ومنها إلى كراتشي واستقر به المقام في فنزويلا أستاذا جامعيا لامعا وكاتبا متميزا غدا مقربا من الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز. وتظل القدس وجهته الأولى وحين يغدو سفيرا لفنزويلا يفكر في زيارتها ولكنه يرفض أن يختم جواز سفره بالختم الإسرائيلي.
الفلسطيني هنا يبدو مختلفا عن الفلسطيني في بعض الروايات العربية التي رشحت لبوكر جائزة الرواية العربية العالمية، مثل رواية المصري ناصر عراق "العاطل "(انظر مقالي في الأيام الفلسطينية ٢٦شباط ٢٠١٢) .في "العاطل "يبدو الفلسطيني متعصبا ومكروها وغير محتمل ، بخلاف ما يبدو في "النبيذة".إن انعام كجه جي تعيد الاعتبار للفلسطيني وتواصل رسم صورة إيجابية له في زمن يقسو عليه فيه كثيرون .
وعموما فإن الرواية تشدك إليها وهي آسرة مشوقة ممتعة تحفل بأبعادتاريخية تثقفك، رغم بعض الهنات والأخطاء القليلة جدا التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
الجمعة والسبت ٨و٩ / ١١ / ٢٠١٩ .
***
2- أنعام كجه جي "النبيذة" رعب صدام حسين 2 :
لم أقرأ المراجعات التي أنجزت حول رواية الروائية أنعام كجه جي " النبيذة " لأعرف السبب الذي جعلها تسمي رموز العهد الملكي في العراق الذين أطيح بهم في ١٤ تموز ١٩٥٨ ، ولا تسمي رموز العهد الجمهوري منذ حكم صدام حسين .
لم تأت الرواية على حكم عبد السلام عارف وحكم أخيه وحكم أحمد حسن البكر ، وهذا له مبرراته فنيا عموما وليس هذا عيبا أو مطعنا في الرواية ، فشخصيتا الرواية الأساسيتان كانت صلتهما بالثلاثة معدومة أصلا ، وصلتهما كانت مع العهد الملكي فيما يخص تاجي ، ومع عهد صدام حسين فيما يخص وديان الملاح . وحين تأتي الرواية على حياة تاجي في العهد الملكي فإنها تذكر أسماء رموزه ، ولكنها حين تصور حياة وديان في العهد الجمهوري ؛ عهد صدام ، فإنها لا تذكر الأسماء الحقيقية ، وإنما تذكر أسماء تلمح ولا تصرح فترمز إلى صدام بشيخ القبيلة وإلى عدي صدام بابن الشيخ ، مع أن القاريء الذي عاش زمن صدام سرعان ما يفك الشيفرة .
أشير إلى أن اسم صدام ورد في الرواية في بضعة مواطن ، ولكنه ورود عادي لا يسبب حرجا ولا يجر عاقبة ، أما حين كتب عنه وعن ابنه كتابة صورتهما شريرين متسلطين مرعبين مريضين نفسيا فإنهما ذكرا بالشيخ وابنه .
هل مازال العراقيون الذين عانوا من حكم صدام يخافون منه؟
أعتقد أن هذه الملاحظة ملاحظة سيثيرها كل من قرأ الرواية وكل من يقرؤها .
في مؤتمرات القمة العربية التي كان صدام يحضرها كان الحكام العرب يحسبون له ألف حساب وفي المؤتمرات التي كان يغيب عنها كان الحاضر الأبرز ، وهذا قرأته مرة .
من الذي أوصل العراق إلى ما وصل إليه ؟ العالم الرأسمالي الجشع أم تخلف الحكام العرب أم ... ؟
عادل الاسطة
Adel Osta
مساء الخير
خربشات
٥تشرين الثاني ٢٠١٩
***
3- انعام كجه جي " النبيذة " 3:
أثارت الفقرة التي كتبتها عن صورة الفلسطيني في رواية انعام كجه جي " النبيذة " جدلا شارك فيه الدكتور أحمد خريس من جامعة اليرموك ، وللدكتور آراء قيمة وغالبا ما أقرأها بتمعن .
من ضمن آرائه في رواية " النبيذة " أن شخصيتها الرئيسة وهي شخصية تاجي عبد المجيد على قدر كبير من التناقض وأنها غير مقنعة ، عدا أنها شخصية لا تتسم بالضعف الانساني . ولمن يرغب في قراءة آراء د.احمد بحرفيتها فيمكن أن يقرأ التعليقات على الفقرة التي كتبتها ونشرتها أول أمس .
لا أدري إن لم تكن العلاقة في عبادان بين تاجي والأمير الإيراني الغاربة إمارة عائلته ، وقد نجم عنها حب عابر أسفر عن حمل ، ضعفا انسانيا ، وكذلك تحولها في نهاية حياتها الصاخبة إلى قارئة قرآن.
استغرب د.احمد مثلا أن تكون تاجي على علاقة بالوصي على العرش عبد الإله ثم فجأة تسير في مظاهرة ضده ، والصحيح أنني تذكرت الشاعر حيدر محمود وعلاقته الوطيدة بالقصر الملكي في عمان ، وقد استمرت العلاقة الممتازة بين الشاعر والقصر فترة طويلة ، وفجأة في انتفاضة ١٩٨٧ كتب الشاعر قصيدة " أيوب الفلسطيني " وقد غضب القصر منه .
عموما ثمة آراء عديدة تصدر عادة في نص أدبي واحد ، ولكن ما أود أن ألفت النظر إليه هو أن تاجي عبد المجيد مستوحاة شخصيتها من شخصية الصحفية اقدس عبد الحميد وهي صحفية حقيقية ، وقد لفتت نظري طالبتي نوال الستيتي إلى أن ذكرها ورد في كتاب " عبرات بغدادية " .
في الرواية وفي صفحاتها الأخيرة هناك خدعة تقوم بها وديان التي أقامت مع تاجي تعرف من خلالها أنه ليس كل ما تحدثت عنه تاجي كان صحيحا " تعرف أن العجوز تكذب وتدمل جرح كرامتها . " ص ٣١٣ .
في آخر صفحة من الرواية ٣٢٧ تشير انعام كجه جي إلى أنها اعتمدت في كتابة روايتها على وثائق وأشخاص أولوها الثقة ، ويبدو أنهم قصوا عليها قصة أقدس عبد الحميد .
وأنا أقرأ الرواية وما ورد فيها عن ابن الشيخ وأبيه / عن عدي صدام حسين ، حمدت الله أنني أعيش في الضفة الغربية.
الكتابة كثيرة ولا تغني عن قراءة الرواية التي تحفل بإبعاد معرفية تثقف القاريء .
عادل الاسطة
Adel Osta
مساء الخير
مساء الخير د.احمد خريس
خربشات
٦ تشرين الثاني ٢٠١٩
***
4- أنعام كجه جي " النبيذة " 4 : "إن جمهرت خربت ".
كان بعض الطلبة الجزائريين ممن التقيت بهم في ألمانيا يكررون على مسمعي العبارة الآتية :
" إن عربت خربت " .
كما لو أنهم كانوا يحنون إلى الاستعمار الفرنسي البغيض .
لا تخلو الرواية الجزائرية من نماذج جزائرية كانت تحن إلى الاستعمار وتحارب الثورة وعهد الاستقلال . في رواية الطاهر وطار " الزلزال " تطالعنا شخصية عبد المجيد بو الأرواح الذي يبرز صورتين لمدينة قسنطينة ؛ سلبية زمن الاستقلال وايجابية زمن الاستعمار .
إن قارنت بين أوضاع العراق في الزمن الملكي وأوضاعه في العهد الجمهوري - أيام حكم صدام حسين تحديدا - فسوف تحور قليلا في عبارة الجزائريين وستصبح العبارة " إن جمهرت خربت " .
ثمة خراب في العهد الملكي وثمة تبعية للانجليز . هناك دمى تتحرك وقرارها ليس بيدها ، ومع ذلك لم تقد البلاد إلى الخراب الذي وصل إليه في العهد الجمهوري .
قاد صدام حسين العراق إلى حربين انتهتا باحتلاله ووصل الخراب إلى ما وصل إليه . ذهبت بريطانيا من الباب وعادت أميركا من الشباك وعانى العراقيون الأمرين في الأزمنة كلها ؛ الاستعمار والملكية والجمهورية والاحتلال الأمريكي البغيض الذي أتى بالديموقراطية من أوسع أبوابها : باب الدبابات .
كنت كتبت عن " رعب صدام حسين " والرواية تصور الخراب في زمنه من خلاله ومن خلال ابنه عدي وإن لم يذكر الأخير بالاسم .
بعد احتلال بغداد في نيسان ٢٠٠٣ زار شوقي عبد الأمير المدينة وهي تحت الأقدام الأمريكية وألف كتابه "يوم في بغداد " ومما كتبه فيه أن أكبر مصائب العراق تمت منذ تريفت بغداد وحكمها العسكر ذوو الأصول الريفية ، ورأى عبد الأمير أن العهد الملكي لو استمر وظلت الطبقة الارستقراطية المدنية تحكم لربما قادت بغداد المنطقة كلها نحو الحضارة ، ولحققت استقرارا لشعوب بلاد الشام والعراق كلها .
هل كانت أنعام كجه جي من خلال بطلتها تاجي عبد المجيد تحن إلى العهد الملكي ؟ وهل كان لسان حال الرواية هو " إن جمهرت خربت "؟
عادل الاسطة
Adel Osta
مساء الخير
خربشات
٧تشرين الثاني ٢٠١٩
***
------------
1- إنعام كجه جي " النبيذة " العنوان ، والفلسطيني النوراني اللامع 1
2- أنعام كجه جي "النبيذة" رعب صدام حسين 2
3- انعام كجه جي " النبيذة " 3
4- أنعام كجه جي " النبيذة " 4 : "إن جمهرت خربت ".
-
--
أول ما يلفت النظر في رواية إنعام كجه جي الصادرة في ٢٠١٧ - عدا لوحة الغلاف التي هي صورة مفترضة للنبيذة نفسها - هو العنوان " النبيذة " الذي تمحورت الرواية كلها حوله وتعلقت به وشكل تساؤلا تطلب إجابة ؟
يرد ذكر هذا الدال تارة ذكرا عابرا وطورا ذكرا فيه توضيح معناه في صفحات عديدة هي ١٨٠ / ٢٤٩ / ٢٥٨ / ٣٠٢ / ٣٠٨ .
وحين يؤتى على ذكر إحدى للشخصيات الرئيسة في الرواية وهي تاجي عبد المجيد التي تعددت أسماؤها /تاج الملوك / مارتين شامبيون / السيدة شامبيون نقرأ أنها " ظلت العصية والنبيذة وعلامة الاستفهام . لم تجد مستقرا في أي بلد". وحين يبحث منصور في معنى النبيذة يجده ويكتب الآتي :
" أمسك القلم وأتردد . "نبيذ " وأتأمل المفردة .أضيف إليها تاء التأنيث "نبيذة " .أخطف معطفي وأذهب إلى بيت جارنا الخوري.خطواتي تنطبع في الثلج، أطلب معجما وأجلس قرب نار الموقد. أحب هذه المقاعد الواطئة من الخيزران والأرجل الخشب ، بلا ظهر ولا مسندين. أبحث عن الفعل الثلاثي: "نبذ الشيءنبذا ، وأنبذه وانتبذه، طرحه أمامه أو وراءه، فهو منبوذ ونبيذ، والنبيذ: غليان العصير . والعامة تخص النبيذ بالخمر وليس بصحيح، وانتبذ: جلس ناحية. والمنبذة الوسادة والأنباذ الأوباش " .أغلق معجم "أحكام الإعراب في لغة الأعراب ".
وحين تستقر تاجي في باريس مع طفلتها التي أنجبتها في لحظة حب عابرة مع أمير إيراني
" تؤمن بأن المسيحي الحق هو من يفتح بيته للمنبوذين " .
وحين تتم المقارنة بين تاجي ووديان الملاح نعرف أن " جنازة وطنية رمت بالأولى خارج الحدود وحفلة تنكرية طردت الثانية من جنة السماع. لا أدري من منا النبيذة . ولا من القادرة على تحدي زمنها " .
أقامت وديان مع تاجي في باريس في الشقة التي ورثتها الأخيرة من زوجها الضابط الفرنسي وكانت " تعرف أنها لن تتخلى عن العجوز، أمها في الغربة. والدتها التي لم تلدها. لم تكن جاحدة ولا انضمت إلى قائمة النابذين".
وإذا ما ربطنا بين قصة تاجي في حملها غير الشرعي وخروجها من إيران والعراق واستقرارها في باريس مع طفلتها الأشبه باللقيطة ، بما ورد عن مريم في القرآن الكريم ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ) و ( فنفخنا فيه من روحنا بغلام فحملته فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا ) قلنا بقدر من الاطمئنان إن النبيذة في المقام الأول هي تاجي .
وتاجي بإيجاز هي فتاة عاشت مع أمها وزوج أمها الايرانيين ، بعد أن تخلى أبوها عنها وهي طفلة ، ولما تزوجت أمها من عراقي وكبرت خافت الأم على ابنتها من الزوج، فأرسلتها لتعمل خادمة في بيت طبيبة، وهناك استغلها أخو الطبيبة وعلمها وصارت صحفية. كان هذا في العهد الملكي في ٤٠ ق ٢٠ .
وأما وديان الملاح فهي شابة تدرس الموسيقى وتعاني من صمم جزئي وتقع ضحية العهد الجمهوري وابن الحاكم المستبد الذي يعذبها بسادية ، فتفقد سمعها بالكامل، ويحدث أن تسافر إلى باريس لتدرس الموسيقى وتظل هناك ، وهناك تقيم مع تاجي تخدمها وتغدو لها مثل ابنتها.
الفلسطيني :
كتب عن الرواية مقالات كثيرة أتت على الشخصيتين السابقتين، وهناك شخصية ثالثة هي منصور البادي المقدسي الفلسطيني الذي تعرف إلى تاجي حيث عملا معا في كراتشي، في العامين ١٩٤٩و١٩٥٠، في إذاعة تنطق بالعربية .
كانت تاجي تكبر منصور بسنوات وكانت " قنبلة جنسية " أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ولكنها أحبت الفلسطيني وأحبها دون أن يتصارحا ، وكان أن أنهي عملهما مع مصريين آخرين من الإذاعة، فغادرا كراتشي وسار كل في اتجاه. وظلا يحملان لبعضهما مشاعر حب آملين أن يلتقيا ذات نهار .
ولد منصور البادي في القدس في أواخر ٢٠ ق ٢٠ وكان الذكر الوحيد بين خمسة إخوة ، ولما حدثت نكبة ١٩٤٨ هاجرت العائلة إلى لبنان حيث استقرت هناك .
في أثناء عمله مع تاجي يقعان معا في الحب دون أن يتفاتحا في موضوعه .
تاجي التي أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ترى في منصور البادي شخصا مختلفا:
" تتأمله وهو يقرأ بصوته الرخيم أمام الميكروفون، وسيم دون أن يتوافق وذوقها في عشاقها...نحيل بالغ التهذيب.. يصغرها بحفنة أعوام، لكن شيئا ما يشدها إليه. تطمئن لصحبته. الوحيد الذي لا يغازلها. لا يرمي لها كلمات ترميها، بدورها، في كيس التأوهات الملقى وراء ظهرها .
أما هذا الولد الطري ، زميلها الفلسطيني، فلا أكثر من أن يسمعها تغني. لهجتها العراقية تفعل فيه المفاعيل ...
أدركت أنه مغرم وممسوس ،جاهز للاحتراق مثل عود كبريت .ولم ترق له وتتجاوب،بل أحست بإشفاق. خافت عليه من غوايتها. كان صغير السن ونقيا وابن أوادم. ولم تكن تنوي تلويثه. لن تضيفه إلى ضحاياها. فلتبق البريء على براءته" ويبقى منصور حبها الذي يعيش معها طيلة حياتها التي بلغت التسعين .
الفلسطيني في الرواية يذكرنا بفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في رواياته العديدة، ولا أدري إن كانت الروائية وهي تكتب عن منصور تمثلت جبرا الذي كان وجها من وجوه بغداد الثقافية. إن منصور يتشابه مع جبرا وإن لم يتطابق معه تطابقا كليا ، ويتشابه أيضا مع أبطال جبرا الذين خلقهم على صورته؛ جميل فران ووديع عساف ووليد مسعود .
منصور مثقف فلسطيني يتبت جدارته في عمله وقد أخذته نكبة ١٩٤٨ بعيدا عن مدينته القدس. سافر إلى بغداد ومنها إلى كراتشي واستقر به المقام في فنزويلا أستاذا جامعيا لامعا وكاتبا متميزا غدا مقربا من الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز. وتظل القدس وجهته الأولى وحين يغدو سفيرا لفنزويلا يفكر في زيارتها ولكنه يرفض أن يختم جواز سفره بالختم الإسرائيلي.
الفلسطيني هنا يبدو مختلفا عن الفلسطيني في بعض الروايات العربية التي رشحت لبوكر جائزة الرواية العربية العالمية، مثل رواية المصري ناصر عراق "العاطل "(انظر مقالي في الأيام الفلسطينية ٢٦شباط ٢٠١٢) .في "العاطل "يبدو الفلسطيني متعصبا ومكروها وغير محتمل ، بخلاف ما يبدو في "النبيذة".إن انعام كجه جي تعيد الاعتبار للفلسطيني وتواصل رسم صورة إيجابية له في زمن يقسو عليه فيه كثيرون .
وعموما فإن الرواية تشدك إليها وهي آسرة مشوقة ممتعة تحفل بأبعادتاريخية تثقفك، رغم بعض الهنات والأخطاء القليلة جدا التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
الجمعة والسبت ٨و٩ / ١١ / ٢٠١٩ .
***
2- أنعام كجه جي "النبيذة" رعب صدام حسين 2 :
لم أقرأ المراجعات التي أنجزت حول رواية الروائية أنعام كجه جي " النبيذة " لأعرف السبب الذي جعلها تسمي رموز العهد الملكي في العراق الذين أطيح بهم في ١٤ تموز ١٩٥٨ ، ولا تسمي رموز العهد الجمهوري منذ حكم صدام حسين .
لم تأت الرواية على حكم عبد السلام عارف وحكم أخيه وحكم أحمد حسن البكر ، وهذا له مبرراته فنيا عموما وليس هذا عيبا أو مطعنا في الرواية ، فشخصيتا الرواية الأساسيتان كانت صلتهما بالثلاثة معدومة أصلا ، وصلتهما كانت مع العهد الملكي فيما يخص تاجي ، ومع عهد صدام حسين فيما يخص وديان الملاح . وحين تأتي الرواية على حياة تاجي في العهد الملكي فإنها تذكر أسماء رموزه ، ولكنها حين تصور حياة وديان في العهد الجمهوري ؛ عهد صدام ، فإنها لا تذكر الأسماء الحقيقية ، وإنما تذكر أسماء تلمح ولا تصرح فترمز إلى صدام بشيخ القبيلة وإلى عدي صدام بابن الشيخ ، مع أن القاريء الذي عاش زمن صدام سرعان ما يفك الشيفرة .
أشير إلى أن اسم صدام ورد في الرواية في بضعة مواطن ، ولكنه ورود عادي لا يسبب حرجا ولا يجر عاقبة ، أما حين كتب عنه وعن ابنه كتابة صورتهما شريرين متسلطين مرعبين مريضين نفسيا فإنهما ذكرا بالشيخ وابنه .
هل مازال العراقيون الذين عانوا من حكم صدام يخافون منه؟
أعتقد أن هذه الملاحظة ملاحظة سيثيرها كل من قرأ الرواية وكل من يقرؤها .
في مؤتمرات القمة العربية التي كان صدام يحضرها كان الحكام العرب يحسبون له ألف حساب وفي المؤتمرات التي كان يغيب عنها كان الحاضر الأبرز ، وهذا قرأته مرة .
من الذي أوصل العراق إلى ما وصل إليه ؟ العالم الرأسمالي الجشع أم تخلف الحكام العرب أم ... ؟
عادل الاسطة
Adel Osta
مساء الخير
خربشات
٥تشرين الثاني ٢٠١٩
***
3- انعام كجه جي " النبيذة " 3:
أثارت الفقرة التي كتبتها عن صورة الفلسطيني في رواية انعام كجه جي " النبيذة " جدلا شارك فيه الدكتور أحمد خريس من جامعة اليرموك ، وللدكتور آراء قيمة وغالبا ما أقرأها بتمعن .
من ضمن آرائه في رواية " النبيذة " أن شخصيتها الرئيسة وهي شخصية تاجي عبد المجيد على قدر كبير من التناقض وأنها غير مقنعة ، عدا أنها شخصية لا تتسم بالضعف الانساني . ولمن يرغب في قراءة آراء د.احمد بحرفيتها فيمكن أن يقرأ التعليقات على الفقرة التي كتبتها ونشرتها أول أمس .
لا أدري إن لم تكن العلاقة في عبادان بين تاجي والأمير الإيراني الغاربة إمارة عائلته ، وقد نجم عنها حب عابر أسفر عن حمل ، ضعفا انسانيا ، وكذلك تحولها في نهاية حياتها الصاخبة إلى قارئة قرآن.
استغرب د.احمد مثلا أن تكون تاجي على علاقة بالوصي على العرش عبد الإله ثم فجأة تسير في مظاهرة ضده ، والصحيح أنني تذكرت الشاعر حيدر محمود وعلاقته الوطيدة بالقصر الملكي في عمان ، وقد استمرت العلاقة الممتازة بين الشاعر والقصر فترة طويلة ، وفجأة في انتفاضة ١٩٨٧ كتب الشاعر قصيدة " أيوب الفلسطيني " وقد غضب القصر منه .
عموما ثمة آراء عديدة تصدر عادة في نص أدبي واحد ، ولكن ما أود أن ألفت النظر إليه هو أن تاجي عبد المجيد مستوحاة شخصيتها من شخصية الصحفية اقدس عبد الحميد وهي صحفية حقيقية ، وقد لفتت نظري طالبتي نوال الستيتي إلى أن ذكرها ورد في كتاب " عبرات بغدادية " .
في الرواية وفي صفحاتها الأخيرة هناك خدعة تقوم بها وديان التي أقامت مع تاجي تعرف من خلالها أنه ليس كل ما تحدثت عنه تاجي كان صحيحا " تعرف أن العجوز تكذب وتدمل جرح كرامتها . " ص ٣١٣ .
في آخر صفحة من الرواية ٣٢٧ تشير انعام كجه جي إلى أنها اعتمدت في كتابة روايتها على وثائق وأشخاص أولوها الثقة ، ويبدو أنهم قصوا عليها قصة أقدس عبد الحميد .
وأنا أقرأ الرواية وما ورد فيها عن ابن الشيخ وأبيه / عن عدي صدام حسين ، حمدت الله أنني أعيش في الضفة الغربية.
الكتابة كثيرة ولا تغني عن قراءة الرواية التي تحفل بإبعاد معرفية تثقف القاريء .
عادل الاسطة
Adel Osta
مساء الخير
مساء الخير د.احمد خريس
خربشات
٦ تشرين الثاني ٢٠١٩
***
4- أنعام كجه جي " النبيذة " 4 : "إن جمهرت خربت ".
كان بعض الطلبة الجزائريين ممن التقيت بهم في ألمانيا يكررون على مسمعي العبارة الآتية :
" إن عربت خربت " .
كما لو أنهم كانوا يحنون إلى الاستعمار الفرنسي البغيض .
لا تخلو الرواية الجزائرية من نماذج جزائرية كانت تحن إلى الاستعمار وتحارب الثورة وعهد الاستقلال . في رواية الطاهر وطار " الزلزال " تطالعنا شخصية عبد المجيد بو الأرواح الذي يبرز صورتين لمدينة قسنطينة ؛ سلبية زمن الاستقلال وايجابية زمن الاستعمار .
إن قارنت بين أوضاع العراق في الزمن الملكي وأوضاعه في العهد الجمهوري - أيام حكم صدام حسين تحديدا - فسوف تحور قليلا في عبارة الجزائريين وستصبح العبارة " إن جمهرت خربت " .
ثمة خراب في العهد الملكي وثمة تبعية للانجليز . هناك دمى تتحرك وقرارها ليس بيدها ، ومع ذلك لم تقد البلاد إلى الخراب الذي وصل إليه في العهد الجمهوري .
قاد صدام حسين العراق إلى حربين انتهتا باحتلاله ووصل الخراب إلى ما وصل إليه . ذهبت بريطانيا من الباب وعادت أميركا من الشباك وعانى العراقيون الأمرين في الأزمنة كلها ؛ الاستعمار والملكية والجمهورية والاحتلال الأمريكي البغيض الذي أتى بالديموقراطية من أوسع أبوابها : باب الدبابات .
كنت كتبت عن " رعب صدام حسين " والرواية تصور الخراب في زمنه من خلاله ومن خلال ابنه عدي وإن لم يذكر الأخير بالاسم .
بعد احتلال بغداد في نيسان ٢٠٠٣ زار شوقي عبد الأمير المدينة وهي تحت الأقدام الأمريكية وألف كتابه "يوم في بغداد " ومما كتبه فيه أن أكبر مصائب العراق تمت منذ تريفت بغداد وحكمها العسكر ذوو الأصول الريفية ، ورأى عبد الأمير أن العهد الملكي لو استمر وظلت الطبقة الارستقراطية المدنية تحكم لربما قادت بغداد المنطقة كلها نحو الحضارة ، ولحققت استقرارا لشعوب بلاد الشام والعراق كلها .
هل كانت أنعام كجه جي من خلال بطلتها تاجي عبد المجيد تحن إلى العهد الملكي ؟ وهل كان لسان حال الرواية هو " إن جمهرت خربت "؟
عادل الاسطة
Adel Osta
مساء الخير
خربشات
٧تشرين الثاني ٢٠١٩
***
------------
1- إنعام كجه جي " النبيذة " العنوان ، والفلسطيني النوراني اللامع 1
2- أنعام كجه جي "النبيذة" رعب صدام حسين 2
3- انعام كجه جي " النبيذة " 3
4- أنعام كجه جي " النبيذة " 4 : "إن جمهرت خربت ".
-
--