بدأت الخُطواتُ في ذلك المقهى -المعزول عن صخب المدينة- ربيعَ ٢٠١١م، حيث كنتُ أُطِلُّ على نافورةِ القسمِ الغَربي منه، جالسًا بزاويتها أكتبُ مساراتِ شخصياتِ نَصّي العَصِيّ على النسيانِ والاكتمال (كتاتيب أكاديمي)...؛
وكنتُ -آنذاك- أناظِر في نَقدِ الخطابِ الدينيّ مع شِلَلٍ مشلولةِ الواقعِ والإرادة، كنتُ أناظِر وأشعر بدوارِ تخبّطاتِ الحالةِ النفسيّة، والألم من المجهول الذي لم يتحوَّل إلى غولٍ بعد.!
في تلك الأثناء كانَ (الفَيس بوك) مَهوى الأفئدةِ، ومُستَقرِ الهِمَم، وغايةِ المُنتَشين، وفِي كُلِّ صفحاتِه شُعَلٌ مِنَ الأحلامِ، وأساليبَ نِزالٍ حديثة، يَتقابل فيها المتصارعون والمتلاكمون على وعدِ الواقع الجديد...! التقيتُ في إحدى أروقتِه بجماعةِ مدينة (عـُنَـيْزَة)، وتذكَّرتُ عنيزةَ التي تَغزَّل بها امرؤ القيس، فظننتُ أن نهايتي مع الجماعةِ العنيزية كنهايةِ امرؤ القيس، وقد صار ذلك رأيَ العين...!
توطدت علاقتي بهم في أروقةِ المَقهى؛ ولم يكن المَقهى مُجَرَّد شايٍ يأتي، ودخانٍ يُقبِل، وقهوةٍ تُزكِي الأنوفَ، بل كانَ مُنتدى تَشتعِل فيه لحظاتُ التَحوّل، والتَرقَّب للمَطرِ الآتِي...؛ كانَ الزَمَنُ زمنَ تحولٍ، كان يَفتَح صدرَه للتاريخِ الذاتي في نفسِي، ويجعلني أظنُّ أنَّ الحياةَ لن تُنهِي حياتي، فقد أشعر بنشوةِ رقصٍ وهوس، وقد أشعر بضيقٍ لا أدري ما مصدره.!
هذه الحالةُ النَّفسيةُ تَقزَّمَت في نَظري لمَّا تَعرَّفتُ في المكتبةِ التراثيةِ على (سَحنون)، ذلك الرجل المصابُ بانفصام الشخصية، الرجل الذي قابلَ أبا لهبٍ وأبا جهل في مجلسِ بيته، وناقشهم في مسائل فقهيةٍ وكلاميةٍ لم يجد لها جوابًا مقنعًا من قِبل التراثيين...!
أخذتُ سَحنونَ إلى مَقهى ألوان، وبنينا مَعًا أيامًا من القِراءاتِ الفَلسفيّةِ والكَلاميّة في غُرَفِه الداخليّة...، ودخلنا في التَّجربةِ الصوفيةِ، تلك التجربةِ التي تَمثَّل لي فيها أحد الأشخاصِ القادمين من بلادِ المَغربِ الأقصى، يغني منتشيًا: (الله..الله..الله..الله...)
ويَرقص حتى اختفى، أو فقدتُ البصيرةَ وعاد لي بصري العادي، لا أدري...؛
أما سحنون فقد كانَ يغوص في بَحرٍ لُجّيٍّ لا ساحلَ له، كان يُحبنِي ويُحب أن أكونَ أحدَ شيوخِ الطريقة، وكان يُحِبُ كلامي في علم الكلام، لكنَّه يتمنَّى أن أكونَ معه في المنهج والطريقة.
جَاء ذاتَ يومٍ ومعه شَابٌ يَصغرني بخمسِ سنوات...؛ عَرّفَني عليه سحنونُ على أنَّه من مريديه، لكن خُيَّلَ لي أنٍّي رأيتُ هذا الشابَ مِن قَبل، لكن لا أدري أين.
ظَلَّ هذا الشَابُّ صامتًا، لم يَنبِس ببنتِ شَفه، حتَّى بدأنا نُلَملِم أشياءَنا لنُغادِر...؛
انتظر الشَّابُ حتَّى ابتعدَ سحنون، وقال لي:
"أريد رقم هاتفِك...!"
أعطيتُه...،فهاتفني من الغَد، وقال: إنَّ سحنون يعيش أيامَه الأخيرة، وأنا أعطيه الشعورَ الذي يتمنَّى...!، ثم عَقّبَ بالثناءِ عليَّ وأنَّه يَرغبُ بملاقاتي لوحده...؛
تَقابلنا فِي غرفَةِ المَقهَى، ظلَّ صامتًا لدقائق، ينظر إليَّ بدهشةٍ وشَوق، حتى هَممتُ بالكلامِ، فتقدَّم نَحوي ووضعَ ركبتيه إلى ركبتيَّ وقال: "سأكون مريدًا لك"!
ذُهِلتُ مِمَّا قال، فهو يُنكِر أن يكونَ مريدًا لسحنون وإنما كانَ يُجامِله في آخِر ساعاتٍ عمره...!
ولما رأى وجهيَ قد تَغيَّر لونُه، قال: "لا تَخف، أنا مَن كنتَ تبحثُ عنه في دهاليزِ عمرك كلّه...؛ ألم ترني حين رقصتَ رقصكَ الصوفيّ في غرفة هذا المقهى على أنغام (مولاي، إني ببابك مولاي)؟ ألم يتراءَى لك شَخصٌ يَرقص مع الله؟ إنه أنا، ففي تلك الأثناء كنتُ أرقصُ في حَضرةٍ صوفيةٍ في بلادِ المغرب، ورأيتُ وجهكَ ماثلًا أمامي...! ومِن عجائبِ القَدرِ أن أراكَ بعدها بأسبوعٍ في الرياضِ".
في هذه اللحظة عَرفتُ معنى الخوف، أو وُلِدَ في داخلِي معنى الخوف الحقيقي...؛ لا أدري ما أفعل حينها؟ أأغادر المقهى، وأعود لطمأنينتي، أم أبقى واستكشِفُ سِرَّ هذا الشاب؟
اخترتُ البقاءَ لأنَّ فيه شيء يجذبني نحوه، يجذبني إلى أعماقه، إلى محبته، فبادرته قائلا: وماذا يعني أن تكون مريدا لي؟ أنا لا أصلح لذلك.
ابتسم ساخرا وقال: "لا تنكر أنَّك أحببتنِي وأنتَ الرجل الحَذر من الغريب، أما أنا فلن أخفي أني انجذبتُ إليكَ شكلا ومضمونا، وهذه أولُ درجات القَبول الحقيقي بين المريد والأستاذ...، وكانَ سَحنون يُريدني من مريديه، ولا أنكر أنَّ لديه علمًا غزيرًا لكني لا أنجذبُ إليه على وجه الحقيقة، لا أحبه..، ثم لمَّا لقيتُكَ، لقيتُ الوجهَ الذي رأيته وأنا أرقص منتشيًا، في أقصى المغرب، وجدتُ مَن أرغبه فعلا، وستثبتُ لي الأيام يقينًا أنكَ أكثر علمًا من سحنون، وستُميلُنِي إليكَ أكثر مما تتصوَّر؛ في حقيقة النظر وفي حقيقة البصر...
لهذا أنا بأمرِكَ وتحت طوعك بكل ماتريد...!"
انعقدَ لسانِي، وحِرتُ في أمري وأمرِ هذا الشَّاب، فأنا لم أعتد أن أكونَ أستاذًا لأحد، لكنّي وقعتُ في إغراءاتِ أن أكونَ أستاذًا لشَابٍ متوقِّدِ الذهنِ، حلوِ اللسانِ، جميلِ الطلعة، فهززتُ برأسي أني أريدك مريدًا يا (معتَصِم)...!
وكانت هذه لحظة غَيَّرت مجرى الحياةِ نحو تفجّر الإبداعِ، وتَحمّل التَّلقِي الذي صار فيه المعتصم عن أمةٍ كاملة، صار المعتصم يملأ الرأس، ويجعل النصَ سكرانًا بلا كأس، صرتُ أحب ملاقاته، أحبّ أسئلتَه لي، أحبّ نظراته وإعجابه بي، لقد أدخلَ بي الغرور، وحَوَّلني إلى أستاذٍ يَفرض شهوته وإرادته على تلميذه، وقد كانَ يُساعدني على ذلك، حيث يستمتع بذلك، لقد وصلَ المعتصم إلى حالةِ الهيام بي كأستاذ، تَحوَّل مع الوقتِ إلى هَوسٍ بي، يترقّب أوقاتي، وطريقةَ كتاباتي، ومصادر أجوبتي، واسلوب تفكيري، ومنبع توقدي الذهني، كان مريدًا بطوعه وشهوته، ولما أردتُ أن أضع لهذا حدًا بعد سنةٍ، غضبَ وتغير وجهه، وصار يتصرف بأفعالٍ أقلقتني منه، فهدّيتُ من روعِه، وقلتُ له مقولة محمود درويش: "ارحمونا من هذا الحب القاسي"،
فابتسم لما اطمأنَّ وقال: "المريد يضلُّ مريدًا عند أستاذه مدى عمره، أنا أهيم بكَ كما هامَ الروميُّ بالشمسِ التبريزي".
سلمتُ بأمر المعتصم واتّخذتُه مريدًا، وصار يأتيني كُلَّ يومٍ إلى بيتي، يقرأ عليَّ كتابَ مثنوي لمولانا الرومي، وبعض المَرّات ينام عندي، حتى وثقتُ به كما لم أثق بأحدٍ من قبل، فقررتُ أن أجعله مقربًا مني كنفسي، ولم ألجأ لهذا إلا بعد أن صرتُ أفتقده حين يغيب عني ثوانٍ...،
أصبحتُ أكتبُ له نظرات وتأملات وقواعد كقواعدِ المتصوّفة، وصرتُ أفكّر في تاريخِ العشقِ بين التبريزي والرومي، وبين كل العشاق المتصوفة هل بدأت هكذا: [عِشْق المريد نَمَا حتى أورثَ العشقَ في قلب الأستاذ].
ها أنا أصبحتُ أنطِق بلهفةٍ: "أحبكَ يا معتصم". وإذا غابَ عني نهرتُه فيعود، كانَ لي أكثر من مريد، لقد كانَ صوتي وسمعي وفكري وقلمي، لقد كان عاشقًا وفاهمًا لجوهر كتاباتي، ومريدًا لأفكاري.
لكن لكلِّ بداية نهاية، ففي عام ٢٠١٥م، اختفى المعتصم، ودخلتُ في اكتئابٍ كِدتُ أن أرحلَ معه إلى بلادِ ما وراء الدنيا...!
أين انتَ الآن يا معتصم؟ فبرحيلك رحلَ بعضي، بل ربما كلي.
وكنتُ -آنذاك- أناظِر في نَقدِ الخطابِ الدينيّ مع شِلَلٍ مشلولةِ الواقعِ والإرادة، كنتُ أناظِر وأشعر بدوارِ تخبّطاتِ الحالةِ النفسيّة، والألم من المجهول الذي لم يتحوَّل إلى غولٍ بعد.!
في تلك الأثناء كانَ (الفَيس بوك) مَهوى الأفئدةِ، ومُستَقرِ الهِمَم، وغايةِ المُنتَشين، وفِي كُلِّ صفحاتِه شُعَلٌ مِنَ الأحلامِ، وأساليبَ نِزالٍ حديثة، يَتقابل فيها المتصارعون والمتلاكمون على وعدِ الواقع الجديد...! التقيتُ في إحدى أروقتِه بجماعةِ مدينة (عـُنَـيْزَة)، وتذكَّرتُ عنيزةَ التي تَغزَّل بها امرؤ القيس، فظننتُ أن نهايتي مع الجماعةِ العنيزية كنهايةِ امرؤ القيس، وقد صار ذلك رأيَ العين...!
توطدت علاقتي بهم في أروقةِ المَقهى؛ ولم يكن المَقهى مُجَرَّد شايٍ يأتي، ودخانٍ يُقبِل، وقهوةٍ تُزكِي الأنوفَ، بل كانَ مُنتدى تَشتعِل فيه لحظاتُ التَحوّل، والتَرقَّب للمَطرِ الآتِي...؛ كانَ الزَمَنُ زمنَ تحولٍ، كان يَفتَح صدرَه للتاريخِ الذاتي في نفسِي، ويجعلني أظنُّ أنَّ الحياةَ لن تُنهِي حياتي، فقد أشعر بنشوةِ رقصٍ وهوس، وقد أشعر بضيقٍ لا أدري ما مصدره.!
هذه الحالةُ النَّفسيةُ تَقزَّمَت في نَظري لمَّا تَعرَّفتُ في المكتبةِ التراثيةِ على (سَحنون)، ذلك الرجل المصابُ بانفصام الشخصية، الرجل الذي قابلَ أبا لهبٍ وأبا جهل في مجلسِ بيته، وناقشهم في مسائل فقهيةٍ وكلاميةٍ لم يجد لها جوابًا مقنعًا من قِبل التراثيين...!
أخذتُ سَحنونَ إلى مَقهى ألوان، وبنينا مَعًا أيامًا من القِراءاتِ الفَلسفيّةِ والكَلاميّة في غُرَفِه الداخليّة...، ودخلنا في التَّجربةِ الصوفيةِ، تلك التجربةِ التي تَمثَّل لي فيها أحد الأشخاصِ القادمين من بلادِ المَغربِ الأقصى، يغني منتشيًا: (الله..الله..الله..الله...)
ويَرقص حتى اختفى، أو فقدتُ البصيرةَ وعاد لي بصري العادي، لا أدري...؛
أما سحنون فقد كانَ يغوص في بَحرٍ لُجّيٍّ لا ساحلَ له، كان يُحبنِي ويُحب أن أكونَ أحدَ شيوخِ الطريقة، وكان يُحِبُ كلامي في علم الكلام، لكنَّه يتمنَّى أن أكونَ معه في المنهج والطريقة.
جَاء ذاتَ يومٍ ومعه شَابٌ يَصغرني بخمسِ سنوات...؛ عَرّفَني عليه سحنونُ على أنَّه من مريديه، لكن خُيَّلَ لي أنٍّي رأيتُ هذا الشابَ مِن قَبل، لكن لا أدري أين.
ظَلَّ هذا الشَابُّ صامتًا، لم يَنبِس ببنتِ شَفه، حتَّى بدأنا نُلَملِم أشياءَنا لنُغادِر...؛
انتظر الشَّابُ حتَّى ابتعدَ سحنون، وقال لي:
"أريد رقم هاتفِك...!"
أعطيتُه...،فهاتفني من الغَد، وقال: إنَّ سحنون يعيش أيامَه الأخيرة، وأنا أعطيه الشعورَ الذي يتمنَّى...!، ثم عَقّبَ بالثناءِ عليَّ وأنَّه يَرغبُ بملاقاتي لوحده...؛
تَقابلنا فِي غرفَةِ المَقهَى، ظلَّ صامتًا لدقائق، ينظر إليَّ بدهشةٍ وشَوق، حتى هَممتُ بالكلامِ، فتقدَّم نَحوي ووضعَ ركبتيه إلى ركبتيَّ وقال: "سأكون مريدًا لك"!
ذُهِلتُ مِمَّا قال، فهو يُنكِر أن يكونَ مريدًا لسحنون وإنما كانَ يُجامِله في آخِر ساعاتٍ عمره...!
ولما رأى وجهيَ قد تَغيَّر لونُه، قال: "لا تَخف، أنا مَن كنتَ تبحثُ عنه في دهاليزِ عمرك كلّه...؛ ألم ترني حين رقصتَ رقصكَ الصوفيّ في غرفة هذا المقهى على أنغام (مولاي، إني ببابك مولاي)؟ ألم يتراءَى لك شَخصٌ يَرقص مع الله؟ إنه أنا، ففي تلك الأثناء كنتُ أرقصُ في حَضرةٍ صوفيةٍ في بلادِ المغرب، ورأيتُ وجهكَ ماثلًا أمامي...! ومِن عجائبِ القَدرِ أن أراكَ بعدها بأسبوعٍ في الرياضِ".
في هذه اللحظة عَرفتُ معنى الخوف، أو وُلِدَ في داخلِي معنى الخوف الحقيقي...؛ لا أدري ما أفعل حينها؟ أأغادر المقهى، وأعود لطمأنينتي، أم أبقى واستكشِفُ سِرَّ هذا الشاب؟
اخترتُ البقاءَ لأنَّ فيه شيء يجذبني نحوه، يجذبني إلى أعماقه، إلى محبته، فبادرته قائلا: وماذا يعني أن تكون مريدا لي؟ أنا لا أصلح لذلك.
ابتسم ساخرا وقال: "لا تنكر أنَّك أحببتنِي وأنتَ الرجل الحَذر من الغريب، أما أنا فلن أخفي أني انجذبتُ إليكَ شكلا ومضمونا، وهذه أولُ درجات القَبول الحقيقي بين المريد والأستاذ...، وكانَ سَحنون يُريدني من مريديه، ولا أنكر أنَّ لديه علمًا غزيرًا لكني لا أنجذبُ إليه على وجه الحقيقة، لا أحبه..، ثم لمَّا لقيتُكَ، لقيتُ الوجهَ الذي رأيته وأنا أرقص منتشيًا، في أقصى المغرب، وجدتُ مَن أرغبه فعلا، وستثبتُ لي الأيام يقينًا أنكَ أكثر علمًا من سحنون، وستُميلُنِي إليكَ أكثر مما تتصوَّر؛ في حقيقة النظر وفي حقيقة البصر...
لهذا أنا بأمرِكَ وتحت طوعك بكل ماتريد...!"
انعقدَ لسانِي، وحِرتُ في أمري وأمرِ هذا الشَّاب، فأنا لم أعتد أن أكونَ أستاذًا لأحد، لكنّي وقعتُ في إغراءاتِ أن أكونَ أستاذًا لشَابٍ متوقِّدِ الذهنِ، حلوِ اللسانِ، جميلِ الطلعة، فهززتُ برأسي أني أريدك مريدًا يا (معتَصِم)...!
وكانت هذه لحظة غَيَّرت مجرى الحياةِ نحو تفجّر الإبداعِ، وتَحمّل التَّلقِي الذي صار فيه المعتصم عن أمةٍ كاملة، صار المعتصم يملأ الرأس، ويجعل النصَ سكرانًا بلا كأس، صرتُ أحب ملاقاته، أحبّ أسئلتَه لي، أحبّ نظراته وإعجابه بي، لقد أدخلَ بي الغرور، وحَوَّلني إلى أستاذٍ يَفرض شهوته وإرادته على تلميذه، وقد كانَ يُساعدني على ذلك، حيث يستمتع بذلك، لقد وصلَ المعتصم إلى حالةِ الهيام بي كأستاذ، تَحوَّل مع الوقتِ إلى هَوسٍ بي، يترقّب أوقاتي، وطريقةَ كتاباتي، ومصادر أجوبتي، واسلوب تفكيري، ومنبع توقدي الذهني، كان مريدًا بطوعه وشهوته، ولما أردتُ أن أضع لهذا حدًا بعد سنةٍ، غضبَ وتغير وجهه، وصار يتصرف بأفعالٍ أقلقتني منه، فهدّيتُ من روعِه، وقلتُ له مقولة محمود درويش: "ارحمونا من هذا الحب القاسي"،
فابتسم لما اطمأنَّ وقال: "المريد يضلُّ مريدًا عند أستاذه مدى عمره، أنا أهيم بكَ كما هامَ الروميُّ بالشمسِ التبريزي".
سلمتُ بأمر المعتصم واتّخذتُه مريدًا، وصار يأتيني كُلَّ يومٍ إلى بيتي، يقرأ عليَّ كتابَ مثنوي لمولانا الرومي، وبعض المَرّات ينام عندي، حتى وثقتُ به كما لم أثق بأحدٍ من قبل، فقررتُ أن أجعله مقربًا مني كنفسي، ولم ألجأ لهذا إلا بعد أن صرتُ أفتقده حين يغيب عني ثوانٍ...،
أصبحتُ أكتبُ له نظرات وتأملات وقواعد كقواعدِ المتصوّفة، وصرتُ أفكّر في تاريخِ العشقِ بين التبريزي والرومي، وبين كل العشاق المتصوفة هل بدأت هكذا: [عِشْق المريد نَمَا حتى أورثَ العشقَ في قلب الأستاذ].
ها أنا أصبحتُ أنطِق بلهفةٍ: "أحبكَ يا معتصم". وإذا غابَ عني نهرتُه فيعود، كانَ لي أكثر من مريد، لقد كانَ صوتي وسمعي وفكري وقلمي، لقد كان عاشقًا وفاهمًا لجوهر كتاباتي، ومريدًا لأفكاري.
لكن لكلِّ بداية نهاية، ففي عام ٢٠١٥م، اختفى المعتصم، ودخلتُ في اكتئابٍ كِدتُ أن أرحلَ معه إلى بلادِ ما وراء الدنيا...!
أين انتَ الآن يا معتصم؟ فبرحيلك رحلَ بعضي، بل ربما كلي.