ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(14)

ج(14)


ناموا ليلتهم في ضيافة شيخ القبيلة، وما إن أدركهم الفجر حتّى غادروا نحو ضالتهم، ساروا باحثين عن "نجم الدّين" وإخوته، يتبعون الطريق التي دلّهم عليها الشيخ علي بن حنّاش، ويذلّلون صعاب المسالك بالسؤال وخطر المهالك بالحذر... قضوا قرابة أسبوع وهم على تلك الحال يودّعون بلادا ليدخلوا غيرها، حتّى عثروا في حادي عيس بإحدى القرى، سألوه عن الإخوة العشرة وكبيرهم نجم الدّين وكان قد أكّد معرفته بهم ــ وأنّه من اشترى منهم بعضا من مهاريهم ــ

واصلوا رحلتهم نحو ديار نجم الدين الزايدي، ولما شارفوا على الوصول، تثاقلت وتيرة سيرهم وتباطأت جيادهم بإيعاز منهم، فقد كان لكلّ منهم سبب جعله يتأنّى في الوصول، ويحذر عواقب اللّقاء بعد انقطاع دام سنين. لاحت لهم الديار ، و بدت في منتهى البهاء من الخارج، كانت منازل مرتّبة تحيطها بساتين رحيبة تراءت رؤوس أشجارها العالية من وراء أسوار متوسّطة الارتفاع ، تحيط تلك الأسوار بديارهم وترسم مستطيلا هائلا ممتدّا في الحقول الخصبة التي تكتنفه من كلّ الاتّجاهات. نظرت زينب نحو البيوت وكان منظرها من بعيد قد طبع على صفحة نفسها، يَستأسرها جلالها وتفتنُها آيات ترتيبها الذي يعكس نعمة ساكنيها. وكانت من شدّة شوقها ترى في البيوت تحيّة مزجاة عن جدارة بأصحابها، وتلوح لعينيها نوافذ مفتوحة، وأخرى مرخاة الستائر، لكأنّها تبعث بالتراحيب قبل أهلها، دمعت عيناها فلمحها شاهين وسألها عن سبب البكاء، فقال وهو ينظر في عينيها:

ـــــ ما الدّاعي إلى الدموع سيدتي؟ حريّ بك أن تفرحي بلقاء أولادك.

التفتت إليه بحركة متثاقلة أوحت على تكتّم الحزن ــ كأنّها لا ترغب في إفساد فرحة قمرة بلقاء إخوتها ــ ثمّ تنهّدت بصوت مسموع وهي تستغرب سؤاله الذي لا يبعث عليه جهل وقالت:

ـــــ دموعي مشتّتة يا شاهين ، فرح بلقاء أبنائي وحزن على فراق زوجي المكلوم دون أولاده .

توقّفت الجياد عند مدخل السور يتقدّمها شاهين وعيناه تتطلَّعان إلى من سيلتقي أوّلا ، وبين غموض المكان وإلحاح سعيهم ظهر رجلان يتقدّمان نحوهم بخطوات متسارعة حريصة ، فأدار رأسه نحو سيّدته زينب ثم هتف:

ـــــ ها هما رجلان قد أقبلا نحونا ، و قد لاح لي شرر سيفيهما .

ردّت عليه زينب بلهجة الواثقة :

ــــ وكيف تريد أن يستقبلنا الحراس إذن ؟ بالأحضان وهم لا يعرفون لنا قرارا ؟ !

سألهم أحدهما عن هوّيتهم وسبب إقبالهم ، فردّ شاهين :

ــــ لاجئون طالبو حماية ومساعدة ، ونرغب في مقابلة سيّدكم " نجم الدّين" .

استغرب الرّجل من كلامه الذي ينمّ عن سابق معرفة بسيّده نجم الدّين ! و أوقفهم قائلا :

ــــ عليكم الانتظار ريثما أستأذن سيّدي نجم الدّين في السّماح لكم بالعبور .

مكثوا هناك عند مدخل السور رفقة الحارس الثاني ...بقي شاهين يترقّب عودة الحارس ، وفجأة ندّت عنه آهة كاستدراج مليء بالوعيد، فقال مخاطبا سيّدته زينب :

ـــــ آه يا سيّدتي زينب لو طاوعني سيّدي نجم الدين ، لارتحلنا في صباح الغد نحو ديارنا لاسترجاع أملاككم التي نهبها منكم سلفك سليمان .

شهقت وامتعضت من كلامه وقالت بلهجة شديدة :

ــــ إيّاك يا شاهين . إياك أن تخبر أولادي بحقيقة ظلم عمّهم ، لا أريد أن ألقاهم شاكية بائسة ، هم لا شكّ لا يدرون بموت والدهم ، فكيف لي أن أضاعف من حزنهم ؟ !

عاد الحارس يحمل بشائر القبول وسمح لهم بالعبور لمقابلة نجم الدين كبير الديار ... عبروا السور وتوجّهوا نحو بيوت أهل الزوايد ، وكلّهم حماس للقاء أحبّة مغرّر بهم . ساروا حتّى إذا دنوا من عتبات المنازل ، تراءت لهم حدائق تحيط بالبيوت من جوانبها وتحفّ مداخلها زهور وورود من كلّ الألوان والأشكال ... نزلوا من على جيادهم ، تقدّم شاب أسمر مربوع القدّ في مقتبل العمر ــــ بدا سائس الخيل ــــ استلم ألجمة الجياد ــــ بعد ما أنزل من على ظهورها متاعهم ـــــ وانصرف ، أمّا شاهين فكان يتقدّم المرأتين ويتبع أحد الحارسين .

أدركوا مجلس نجم الدين ، ودخلوا بابا خارجيا كبيرا به مداخل تؤدي إلى بيوت مغلقة ، وفيما هم يسيرون في الممرّ المفضي إلى الباب الداخلي خاطبهم الحارس بصوت خافت كأنّه يتجنّب وصول صوته لسيّده :

ــــ اختصر في طلب حاجتك يا غريب الدّيار ، فإنّ سيدي نجم الدين مشغول و متعب ولا يحبّ التمادي في الحديث مع من لا يعرفهم .

رمقه شاهين بنظرة عتاب كما لو أنّه يريد إخباره بحقيقتهم ، لكنّه تمالك نفسه ، ولزم الصمت . وصل بهم الحارس إلى عتبة منزل نجم الدين ، استأذن ودخل ودخلوا بعده ، انصرف الحارس وتركهم ، تبسّم شاهين وحيّاه تحيّة تليق بالأسياد الأشراف ، و صمت هنيهة يغازل ذكريات الطفولة وتتساقط أمام عينيه صوّرا لنجم الدين وهو شاب في ديار الزوايد ، ثم غمغم قائلا :

ــــ ما أبهاك و أجلّك ! أيها الزايدي لقد ازددت جمالا موسوما بالهيبة والوقار . وربما تفوّقت على والدك .

في تلك الأثناء تغيّرت ملامح زينب ، وبدت أكثر شحوبا وابيضت شفتاها وأصيبت برعشة أسقطتها أرضا ، سارعت قمرة وشاهين نحوها يتفقدانها ، وما إن رشّت قمرة ماء على وجهها ، حتّى استفاقت شاهقة وقالت بكلمات متثاقلة و نبرة واهنة:

ـــــ إنّه ولد قلبي . بكري الحبيب نجم الدّين ...لم يتغير سوى ما يلمع على فوديه من شيب وقور .

تثاءبت عنق حمام وتوقفت عن الكلام وقالت :

ــــ الحديث حلا يا سادة ، لكن العنين طلبوا النعاس ، والرّاس طلب الوسادة .


....يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى