أحمد شحيمط - أدب الوجود عند إبراهيم الكوني

ولد إبراهيم الكوني في غدامس بليبيا عام 1948، روائي عالمي نال شهرة واسعة في العالم الغربي بفعل الكتابة عن الصحراء وعوالمها المختلفة، المكان الذي يعج بالتناقضات والرموز والمعاني، الصحراء كرمز للوجود الإنساني، في الصحراء لا يوجد كل شيء. في الصحراء يوجد كل شيء، دليل آخر على التقابل بين الوجود والعدم، وبين الحرية والضرورة، وفي قلب الصحراء يكتشف الكوني الرموز والمعاني في الطبيعة، ومجمل العلاقات الإنسانية، إنه يستنطق الحيوان خصوصا الودان والناقة، ونبات السلفيوم وزهور الرتم، في رحلة العبور والفرار يُلقي الطوارق التحية على الطبيعة، ويمرون أمام الجبال ويجتازون كثبان الرمال، إنه الرحيل بلا قيود تحت أشعة الشمس الحارقة، ومن يمكث في الواحات لا يشعر بالحرية لأن الاستكانة دليل على العبودية وغياب للحرية.

يستقي الكوني في أدب الوجود بعض المفاهيم كالحرية والحقيقة والذات والأسطورة والوجود، قاموس الفلسفة بامتياز، ينهل من المكان الرموز والعلامات والحكاية، ومن ظل المكان أو اللامكان الفكرة المعبرة عن شعور فياض بامتلاء الروح عن كل ما يعتصر الكاتب من لهفة نحو الظفر بالوجود والعيش في تناغم مع الروح، وكل ما يسري في عروق الروائي من ألم واغتراب في سبيل العثور على الحقيقة، ونيل المبتغى من خلال العودة بالذاكرة نحو الأزمنة والأمكنة التي رسمها خيال الروائي، رحلة البحث عن الوجود والخلود بالفكر معا، مرشد المرء دليله وقلبه، الوجدان الذي يفيض بالصفاء نحو حياة كلها عطاء، أمل أن يصير الإنسان في عالم متغير، يحيا الإنسان على أمل الظفر بالفردوس المفقود، فمن قال أن الكوني لا يكتب عن تاريخه وبيئته وأهله بشكل مباشر فالأمر يحتاج أكثر لسبر أغواره من خلال الشخصيات المتخيلة والمكان والتاريخ. إنه يعانق المكان، ويضفي عليه دلالة جديدة تنقل القارئ للقراءة بين طيات الكلمات، وما وراء السطور نحو ماضي الأمة التي هجرت المكان أو التي ضاع منها عندما فقدت الناموس المنظم للحياة، الفقد يمنحنا شعورا بالاغتراب، ومعه ندرك معنى الحرية والانتماء. الوطن كما يقول الكوني دائما "قيمة وليس غنيمة"، لا مجال للصفقة والتجارة، هناك أشياء لا تباع، وليست خاضعة للمساومة.

يبني الكوني في عمله الحبكة بدقة ويضع شخصيات متخيلة، ويمزج الروائي بين المتخيل والواقعي، ويسكب على الحكاية لمسة في غاية الدقة على مستوى الوصف والتصوير، والتغني بالطبيعة ورموزها. يستنطق التاريخ من خلال القدرة في النفاذ إلى الذاكرة، والعبور بالفكرة نحو الأعماق من التاريخ البعيد والقريب، والتراث اللامادي الخاص بأهل السرى. الصحراء كما يقول دائما في الروايات والمتون ليست وطن من أوطان الله، ولكنها وطن الله، وهي وطن الله لأنها وطن الحرية، لا نسكن المكان بل المكان يسكننا، عبور الصحراء لا سكن الصحراء، والسكن هنا يكتسي دلالة روحية ورمزية، هذا العطش للوجود يوازيه البحث المضني عن المكان الضائع، البحث عن "واو الصغرى" الموجودة في قلب كل عاشق وعابر، الفرار لا يعني الهروب والتنصل من المكان، عبور وفرار إرادي للتنقيب في طبيعة الوجود، حكايات عن كائنات الصحراء، عن وجود الإنسان في قلب الوجود ومع الموجودات.

الوجود لا يتحقق إلا بفعل الحرية، لا يفهم سر الصحراء إلا من عاش في قلب المكان، وتذوق طعم العبودية في المدن، فلسفة الصحراء انهمام بالمكان، وعشق للحرية والذات في معترك الحياة، الصحراء التي تقبع في الروح، وليست الصحراء كفضاء ممتد جغرافيا إلى حدود المياه، لم يعد المكان فسيحا لأهل السرى، بل مكان مستباح من قبل الاستعمار، والغرباء من المنقبين عن المعادن، الذين عملوا على تقسيم أجزائه، وتفكيك وحدته، ومنحه للآخر من الدول المجاورة، أمة الطوارق، الأمة العظيمة شأنها كباقي الأمم في التاريخ كالعرب والفرس، حكاية الروائي عن المكان والزمان، والفضاء برموزه، لا يدل على اختفاء الكاتب أو أنه يعيد نسخ الواقع حرفيا، يحكي الروائي وفي طموحه أن يكتب عن الحقيقة والحرية والزمان والهوية والتاريخ والطبيعة، يحكي من التراث، والمخيال الاجتماعي عن الهوية الضائعة بضياع ناموس الصحراء "انهي"، هذا الناموس الذي تلاشى حرفا، وبقي شفهيا، لازال الموجه للفعل والسلوك لأهل الصحراء. يتضمن وصايا الأسلاف للاخلاف، الرحيل بديل عن الاستقرار، وبديل عن المكوث في الواحات، والترحال والعبور شيم العابر بحثا عن فضاء أرحب بعد النفير، المسير موكب طويل، وعلى أصوات حوافر الإبل، والغناء يشدو بالكلمات وعذوبة الصوت الرخيم، واللحن المفعم بالحنين. شوق للمكان الضائع، واو الصغرى الحلم والعزاء، الذكريات الباقية من المجد الضائع، والهوية التي تلاشت بفعل ضياع الناموس الملهم للحياة والمنظم للعلاقات، والمعبر عن وحدة الجماعة وتماسكها، العبور قدر الطوارق، المدينة هي الفخ الذي يسجن الناس للبقاء، وبالتالي استبدال طعم الحرية بالعبودية، في هذا المعنى تتراخي النفوس، ويصيبها الصدأ والرتابة من الاستقرار. النفوس الحرة غير مكبلة بأغلال المكان الضيق أو المكان النهائي في الإقامة والاستقرار. البحث عن المجهول في عالم لازال مطلسما، وصية الأسلاف باقية، وتسري في عروق الناس، تنم عن أصالة القول، وقوة الوصية في الوجدان، السفر والترحال أسلوب حياة وبالتأمل يحيا الطوارق في مجتمع الفطرة، هم كذلك، والكيان الذي يهتدي بالقلب نحو الصفاء، ويتجلى الحنين الدائم للصحراء .

روح المكان مهيمنة، وتسري في النفس الميالة للحرية والتحرر، أسئلة الروائي من صميم الأسئلة الوجودية، عن الموجود والوجود والحرية والحقيقة، تتوارى الأشياء وتختفي، حديث عن التناغم بين كائنات الصحراء. كل شيء يرغب في قول كلمة لذلك يستنطق إبراهيم الكوني الحيوان والنبات والإنسان، كل الأعمال مؤسطرة، وكما للأسطورة وظائف في الحفاظ على المخيال وحفظ ذاكرة الجماعة. الأسطورة ظاهرة اجتماعية، عملية ومهمة في فهم الوقائع، والأفكار الخاصة بالجماعة، تخترق الأسطورة العقول، وتستقر في النفوس، وتغذي المخيال الاجتماعي، "عدوس السرى" يوظف حقائق من الأسطورة في فهم العقليات، وما هو ثقافي مرتبط بالزماني والتاريخي، رأس الأدب الأسطورة كما قال أرسطو، تأملات الكوني في الوجود ينتج النبوءة، والصحراء ربة للتأمل والعزلة، وطن الرؤى السماوية، مكان للهدوء والسكينة، وطن الروح، وبلغة الروح يتكلم الكوني ويقيم في المكان من خلال رحلة شاقة وعميقة في العودة للذات والبحث عن الحقيقة، رسالة مضمونها عشق المكان، ولو أن الكاتب خارج المكان لكنه يكتب عن ظل المكان، وليست كل الأمكنة كما يفهمها الناس. المكان هنا رمز لأشياء تسكننا، ونحن لا نستطيع الانفصال عنه، الصحراء بيئة لها سحرها الخاص، سحر القلوب قبل سحر العقول. الصحراء كنز لمن أراد العيش في رحاب الحرية، الصحراء يمكن فهمها من حيث العبور وليس الاستقرار، نداء الرحيل، ونداء الحقيقة.

الصحراء رمز للوجود، والكتابة عن الصحراء مهمة من أجل الكشف عن البعد المفقود، من أجل إعادة الاعتبار للمكان الذي منه انطلقت رسالة الروح للعالم . في الصحراء يوجد كل شيء، تغدق الخير، وتطعم العالم من خيراتها وسوائلها، في الصحراء كل شيء ممتنع، يطرح التحدي في التأمل والفهم لعوالمها المتعددة، الطوارق أحبوا الله وجعلوه في قلوبهم، وفروا بإيمانهم من السواحل إلى الصحراء، وطن الرؤى السماوية، وطن الأسلاف الذي أصبح مقسما بين الكيانات المختلفة، الطوارق في أرضهم أصبحوا غرباء،هناك حدود وموانع في التنقل، هناك اغتراب وتيه بين الأوطان، بعدما كانوا أحرارا، لذلك يوظف الكوني في الروايات مجموعة من الشخصيات المتخيلة، ويستنطق الحيوان كما في رواية ّ"ناقة الله" وحنين الناقة "تاملالت" في العودة لأصلها، الحنين يولد الظمأ نحو الوطن، حنين يوازيه الرغبة والشوق نحو استعادة "واو الصغرى"، الفردوس المفقود، ضياع الفردوس بالمعنى الروحي، الصحراء مؤنسنة، حديث دو شجون في الروح والأنوثة والجمال، حديث بلغة "تماشق" لغة الوجدان، واللغة العربية كذلك لغة الروح، سليل الصحراء ضد سليل العمران، العابر والمستقر. التقسيم بين القبيلة الإلهية الراحلة والقبيلة الدنيوية المستقرة، صحراء الكوني استعارية تنتعش في ظلالها الروح وتلهم الجماعة، وتعلم الإنسان أن يكون سيدا على ذاته، رمز للخلاص والنعيم، وجود الإنسان الأصيل في التأمل والنأي بالذات عن الاستقرار، أدب الكوني رسالة في الوجود الحقيقي، وبناء منطق حقيقي للعلاقة بين الإنسان والموجودات، علاقة متوازنة أساسها وصايا الأجداد، ذلك الناموس المنظم للحياة، لا يجب العبث بزهور الرتم، لا يجب قتل الودان وصيده إلا للضرورة، وليس للتسلية والمتعة، قواعد ثابتة في المعاملات، قاعدة ثابتة للمفاضلة بين الراحل والمستقر. العابرون وحدهم جديرون بالمعرفة الخاصة بأسرار الوجود، هؤلاء العابرون هم من يدركون الحقيقة، في صيحة الضمير تقرع الطبول للمغادرة .

رحلة العابرين في الوجود، يبحثون عن الممكن والمستحيل، عن المعلوم والمجهول، يتأملون في الغايات والأهداف، يسيرون إلى حيث لا ينتهي المسير، في نداء داخلي مفعم بالصبر والمحبة، نحو اكتشاف المخبوء، وخروج الكوني من الصحراء كما يقول دائما بمثابة سفر بالروح، الناطق باسم الصحراء، والمكتشف لكنوزها، المغترب للتبشير برسالة الصحراء، بدون عزلة لا مجال للإبداع، الاغتراب حرية، والرحيل استجابة لنداء وجودي لدى كل إنسان في الوجود لمن يرغب في الفهم والتأمل في دلالة الوجود الإنساني. الصحراء ليست مكانا جغرافيا بل أكثر من ذلك الصحراء مرادفة للوجود. مكان للتواصل مع الله والكون، لم نكتشف الوجود بوصفه لغزا إلا من خلال الأسطورة والخلاء والرواية، إزالة الحجب عن دلالة الوجود، وانكشافه بالوصف والتغني بالمكان من خلال لغة شاعرية مفعمة بالحكمة، لغة متقطعة شذرية، لغة الروح التي ترمي بالقول في ثنايا الوجود، وخاصية الكائن العاشق للحرية، الباحث عن الفردوس المفقود، الضائع بين عالم الاستقرار والنسيان، الإنسان فقد جزء من الهوية لأنه فقد الوصية، وتنصل من الناموس الذي عمل على حفظ النفوس من صدأ الاستقرار، من الولع بالتبر والذهب، من سيادة الحياة المادية، من أحابيل وخطط المجوس، من عبدة المال، المنقبين عن التبر والمعادن، أولئك الذين عملوا على استنزاف خيرات الصحراء. فالكوني منقب عن كنوز الصحراء، باحث عن الذات والحقيقة يكشف عن النفوس الأصيلة والنفوس الخسيسة في عالم الصحراء .

الصحراء أفق للمغادرة، عالم الصحراء بدون حدود، هذا الفردوس المنسي والضائع يولد الشوق والحنين في البحث عن المجهول، رحلة تأملية في أعماق الذات والحقيقة، رحلة لاستعادة الذاكرة، وما هو رمزي ودلالي عن المكان، رحلة البحث عن الخلود، رسالة في ثنايا الوجود والموجودات، رحلة للبحث عن التناغم بين الإنسان والطبيعة، الرحيل أحيانا يكون بسبب ندرة المياه، والرحيل الفعلي بسبب نداء الناموس، نداء الأسلاف. نسكن الوجود لنعبر ونحيا، منبع الحقيقة ليست خارج الذات أو في العالم المفارق للطبيعة، منبع الحقيقة الذات على خطى سقراط. الحقيقة تقبع في نفوسنا وأرواحنا، تهفو نحوها بشوق، لا بد من الاغتراب والتيه، لا بد من العزلة والتأمل في ذواتنا، وفي قلب العالم والموجودات، إننا نحمل صورة عن المكان، واو الضائعة، الفردوس الذي عاش فيه الناس بسعادة وهناء، أسطورة الطوارق اختفت من الوجود، وباختفائها أصبح الإنسان يعيش التيه في المكان، التيه وليد الاستقرار في الواحات، والسير وراء الماديات، حيث تلاشت القيم النابعة من الوصية، كما وقع للجد الأول "مندام" الذي ذاق اللقمة المحرمة وشرب من نهر اللبن وتسمم بدنه بالشهوة. السكون في الصحراء بالروح والجسد، والعبور بالروح فقط، نعبر الأمكنة ونتجاوزها إلى ظل المكان أو اللامكان.

يكره الطوارق السياسية والأيديولوجيا، ويعتبرها الكوني ورم، وسبب مشاكلنا، أما البديل الخاص بالروائي فهي الأسطورة، والعمل على أسطرة الواقع، وبناء عالم من الحكاية يكون فيه المزج بين الواقعي والمتخيل . يقف الروائي خلف الأحداث، يطل من شرفة عالية، يراقب ويوجه، ويصنع عالما من الحبكة والعقدة، يروم من خلال العمل إعادة الاعتبار للذات والهوية، وإعادة النظر في التاريخ والمنسي منه، ينبه القارئ إلى قيمة الصحراء، وقيمة المكان بالنسبة لذاته ككاتب مغترب بين الأوطان، ولو كان في الاغتراب نوع من الحرية، يبقى الاغتراب دليل على الحنين والشوق للمكان، الكوني لم يمكث في صحراء ليبيا إلا عشرة سنوات، يعود بين الفينة والأخرى للزيارة، يستمع لنبضات أهل الصحراء، يكتب رواية جديدة، أما في المتون، تكون الكتابة المتقطعة أقوى تعبير عن كل ما يحمله الروائي من حكمة، أقوال في صميم الأشياء، وعوالم الصحراء الغنية بنفائسها الروحية والرمزية، الحكاية والقول عن المرأة الراغبة والرافضة للعبور والرحيل، القول عن الأنثى الأصل، والتمييز بين المجتمع الأبوي والمجتمع الأمومي، يحكي عن المرأة في الأسطورة، يكتب عن الرجل كذلك، العراف والزعيم والعابر والشيخ المتدين . يصف الجبال والأودية والصخور، يحكي عن الحيوان والنبات، يكتب عن الأشياء كلها كما يتصورها ويتأملها، يريد بناء عالم فريد للسرد، ينهل من الوجود، ويعتبر نفسه روائي يفتح إمكانية تأسيس أدب الوجود بما يرمي إليه هذا النوع من الأدب نحو إعادة الاعتبار للصحراء بالمعنى الاستعاري والمجازي. الصحراء وطن اللاوطن، الصحراء رمز النبوءة، قاسية ورحيمة، لا يمكن اختزالها في الرياح الهوجاء، وشظف العيش، في الصحراء كنوز وسكينة وهدوء، الصحراء بعد مفقود، مخزون العالم الروحي، ومنبع الإسرار، وفي البحث عن الذات والحقيقة لا بد أن يشعر الإنسان بالحرية والسعادة التي تعني القدرة على التحرر من العبودية وآفة الاستقرار في المكان، أن نرحل ونعبر، في الرحيل يتجلى وهج الذات، وعشقها للحقيقة والحرية. نزيف الروح ونزيف الحجر، هذا النزيف المستمر ترياقه الحرية، والفرار من العبودية والخنوع، علاجه في استعادة الذاكرة والمكان الضائع بضياع الوصية. فالعابر يزيل اللبس عن الوجود، ويكتشف نفسه بالسفر، ويعرفنا عن حقيقة الوجود، سليل الصحراء ينقل رسالته عن أهل السرى للعالم، رسالته في معنى الوجود، ذلك الكنز المفقود. رحلة البحث عن معنى للحياة شاقة وصعبة على آمل العثور على الذات، يقينا أن الحقيقة تقبع فينا لأن الإنسان مرآة ينعكس عليها الوجود .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى