علينا أن نضع هنا تحديدا لعدّة تصوّرات: الأدب اليوناني الكلاسيكي في مقابل الأدب غير الكلاسيكي؛ الثقافة غير الأدبية في مقابل الثقافة الأدبية. لننطلقْ من هذه الأخيرة: ثقافة العصر الحديث هي ثقافة أدبية، تنبني على فعل القراءة. تعتبر درجة انتشار هذه المهارة (وليس فقط المستوى الذي وصلت إليه كفاءة التحدّث بشكل سليم وجيّد: قد يبدو الأمر طبيعيا للغاية!) بمثابة معيار لثقافة شعب من الشعوب؛ الأمر الذي يفترض ضمنيا أن يكون موجودا بالفعل ما يستحقّ أن يُقرأ، والذي منه يكون في مقدور الثقافة أن تتطوّر: وجود كتب تأسيسية (كلاسيكية) إذن. ليست القراءة في واقع الأمر، وبصورة أقلّ قراءة أيّ شيء بقادرة أن تخلق ثقافة؛ علينا حتى أن نعتبر هذه المهارة عديمة الجدوى، بل مضرّة (ولاسيما في نظر الجمهور) إذا لم يكن حاضرا مسبقا معيار ما يستحقّ أن بُقرأ ( Lesenswerthen).
إذن: الثقافة الأدبية لعصر ما تنبني على الاعتراف بأدب كلاسيكي هو أساسها. ليس للباعث على القراءة من معنى إلاّ في اقترانه بها. إذا أمكننا إثبات أنّ هذا الأدب أو ذاك ليس كلاسيكيا بتاتا، بل إنّه حتّى ضار، فسيكون ذلك كافيا لتسويغ أنْ ليس هناك ما يُقرأ (Nichtlesem ). هذا ما كانت تعتقده الكنيسة الكاثوليكية آخذة في اعتبارها الأدب اليوناني، مثلما هو الأمر مع الخليفة عمر عندما سأله قائد جيشه عمرو [بن العاص] (ولمصلحة يوحنا فيلوبوتو) عن ما يجب فعله بمكتبة الإسكندرية (بخصوص الكتب المكتوبة باليونانية) : "أمّا ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء فيها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب فيه وأحرقها".(1)
يلزم لذلك أن لا تُقرأ كتب اليونان. هل شعب يملك ثقافة أدبية (حيث الثقافة تستند على كتب كلاسيكية معترف بها بهذه الصفة) سينتج أدبا كلاسيكيا؟ ليس الأمر مرجّحا إذ أنّه سيكون غير ضروري. لكن يمكنه أن ينتج كثيرا من الأدب من خلال المحاكاة والتقليد، (المضاهاة)، والتصميم على تفسير وشرح المؤلفات الكلاسيكية، إلخ. هذا هو الحال مع الثقافة المسيحية، الثقافة البوذية والثقافة الهللينستية.
يتوقّف الأدب اليوناني المتأخر (والروماني) على سنن الأدب الكلاسيكي الأكثر قدما.
تستند ثقافتنا الألمانية في جزء منها على الأدب الكلاسيكي، وفي جزء آخر على اللغة الفرنسية.
لكن أين نعثر على آداب كلاسيكية أصلية؟ هذه هي المسألة بالتحديد.
إنّها ليست نتاج حقبة شكّلها الأدب أو طبقات شعبية تكون قد تلقّت تعليما أدبيا. إنّها لا تخضع لنماذج موجودة مسبقا. طابعها الكلاسيكي هو نتاج ثقافة عالية، لكنّها لا تستند إلى كتب.
سيكون شاقا تصوّر ثقافة غير أدبية. إنّنا نسقط على الماضي، وبصورة غير مقصودة، ظروف وجودنا الخاصة بنا. منذ زمن طويل ونحن نأخذ، كشيء مقرّر، أنّ الثقافة الحديثة والثقافة اليونانية القديمة متشابهتان. ننسى بذلك أنّ الوضعية التي تنجب نظاما تختلف عن وضعية ما ينتجه هذا النظام.
كما نعلم، بدأت دهشتنا الكبيرة حول الفارق الجوهري بين القدماء والمحدثين مع مقدمة وولف عن هوميروس. كان يُعتقد في السابق ممكنا تجاوز الأعمال اليونانية الكلاسيكية : كان يُفترض أنّها نجمت عن ظروف مشابهة لظروفنا.
كتب لايبنتز
لماذا التوجّه بكلّ هذه المدائح لليونانيين؟
من الأفضل التقليص من ذلك.
لمّا تسيّدت ربّة الإلهام الألمانية
هوراس عند فليمنغ يُستعاد،
ناسو بأوبزك يبقى يعصف،
لغريف، من سينيكا، الكآبة. (2)
كان ألكسندر بوب ، مترجم هوميروس إلى الإنجليزية، يعتقد المقدرة على توحيد أناقة أوفيد مع المهابة الهوميرية، ومن ثمّ تجاوزها.
يمكن لشعب ذي ثقافة أدبية أن يتخيّل نفسه وقد تخطّى نماذجه: لكن من المتعذّر في الواقع إنكار التربة التي منها تطوّرنا؛ حتى في حالة تقدّم ظاهري، لا ندرك بالتحقيق مبلغ الأصالة.
إنّ ظهور الآداب الأصلية يقتضي إجراء معالجة مقارنة لم يتم القيام بها بعد. قد يبدو هذا الأمر سخيفا، لكنّه ليس كذلك: إنّ أدبا أصليا لا يمكن أن يولد من أدب آخر؛ يلزم أن ينبثق من مكان آخر: من متطلّب آخر غير المتطلّب الأدبي. كلّ مرّة كان يولد فيها أدب كلاسيكي، كان يصدر عن شيء جديد ليس هوبثقافة أدبية، وليس له بها علاقة.
لم يظهر الأدب الكلاسيكي عند اليونانيين في صلته بالقراءة: هذا ما يمثّل خصوصيته. لم يكن يُنظر إلى الأعمال الكلاسيكية إطلاقا على أنّها تشكّل أدبا: كانت، في البداية، ضربا من سوء فهم لتُعتبر لاحقا أدبية بشكل خالص وتلعب، ضمن صيغة كتابية، دور قاعدة للثقافة.
المؤلّفون الذين يكتبون من أجل القرّاء يتخيّلون جمهورا مثاليا، هنا أو هناك، والذي يمكن أن يظهر بعد موت الكاتب بزمن مديد؛ هذا ما هو مثير حقّا في كلّ نشاط أدبي (الحافز الذي من أجله يُبذل الجهد ــ لنفكّر في الصحفيين)؛ إمكانية وافرة تماما للتأثير، لإحداث تأثير لاحقا. إنّنا نأسف للتمثيل الإيمائي الصامت mime الذي هو له أثر لحظي وفوري وليس لفنّه من ذريّة.
والحال أنّ الأدب الكلاسيكي لليونانيين هو، كما فنّ التمثيل الإيمائي الصامت، مخصّص للحظة، للمستمع والمتفرّج الحاضرين، دون اعتبار للأجيال القادمة (أو فقط بصورة غير مباشرة). ترنيمة هوميروس، أغنية جوقة من تأليف بيندار، مأساة لسوفوكلس، خطبة لديموستينس يجب أن ترضي جمهورا محدّدا تماما ومتفرّدا: هذه الأعمال وُلدت بحسب هذا الغرض. لا يتعلّق الأمر بجمهور مثالي غير معيّن. وفي الوقت عينه نتبيّن فيها تمفصلا لمختلف الفنون، على الأقل فنّ التمثيل وفنّ الخطبة، ثمّ علاوة على ذلك، الموسيقى، الغناء، الرقص orchestique. سيتمّ لاحقا إضفاء طابع التجريد على هذا الاتّحاد بين الفنون عندما سيتمّ تشييد الأعمال الأدبية الكلاسيكية الخالصة ضمن سنن وتوجيهها إلى جمهور من القرّاء.
(مقتطف من الدروس التي ألقاها نيتشه الشاب، الأستاذ لمادة الفيلولوجيا الكلاسيكية بجامعة بازل (1869 ـ 1879)
هامش:
1ـ عدنا إلى بعض العبارات العربية التي تمّ تدوينها بخصوص هذه الواقعة والتي تناسب، إلى حدّ ما، المقطع الذي أورده نيتشه.
2ـ وضع لايبنتز، في هذا المقطع الشعري، تقابلا بين شخصيات أدبية قديمة (Horace _ Nason ((Ovide)_ Sénèque وشخصيات أدبية ألمانية حديثة (Flemming _ Optiz _ Greiff (.
Friedrich Nietzsche, Histoire de la littérature grecque, Ecrits philologiques tome XI, Traduit par Marc Launay, pages 245 _247, Edition Belles Lettres 2021
إذن: الثقافة الأدبية لعصر ما تنبني على الاعتراف بأدب كلاسيكي هو أساسها. ليس للباعث على القراءة من معنى إلاّ في اقترانه بها. إذا أمكننا إثبات أنّ هذا الأدب أو ذاك ليس كلاسيكيا بتاتا، بل إنّه حتّى ضار، فسيكون ذلك كافيا لتسويغ أنْ ليس هناك ما يُقرأ (Nichtlesem ). هذا ما كانت تعتقده الكنيسة الكاثوليكية آخذة في اعتبارها الأدب اليوناني، مثلما هو الأمر مع الخليفة عمر عندما سأله قائد جيشه عمرو [بن العاص] (ولمصلحة يوحنا فيلوبوتو) عن ما يجب فعله بمكتبة الإسكندرية (بخصوص الكتب المكتوبة باليونانية) : "أمّا ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء فيها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب فيه وأحرقها".(1)
يلزم لذلك أن لا تُقرأ كتب اليونان. هل شعب يملك ثقافة أدبية (حيث الثقافة تستند على كتب كلاسيكية معترف بها بهذه الصفة) سينتج أدبا كلاسيكيا؟ ليس الأمر مرجّحا إذ أنّه سيكون غير ضروري. لكن يمكنه أن ينتج كثيرا من الأدب من خلال المحاكاة والتقليد، (المضاهاة)، والتصميم على تفسير وشرح المؤلفات الكلاسيكية، إلخ. هذا هو الحال مع الثقافة المسيحية، الثقافة البوذية والثقافة الهللينستية.
يتوقّف الأدب اليوناني المتأخر (والروماني) على سنن الأدب الكلاسيكي الأكثر قدما.
تستند ثقافتنا الألمانية في جزء منها على الأدب الكلاسيكي، وفي جزء آخر على اللغة الفرنسية.
لكن أين نعثر على آداب كلاسيكية أصلية؟ هذه هي المسألة بالتحديد.
إنّها ليست نتاج حقبة شكّلها الأدب أو طبقات شعبية تكون قد تلقّت تعليما أدبيا. إنّها لا تخضع لنماذج موجودة مسبقا. طابعها الكلاسيكي هو نتاج ثقافة عالية، لكنّها لا تستند إلى كتب.
سيكون شاقا تصوّر ثقافة غير أدبية. إنّنا نسقط على الماضي، وبصورة غير مقصودة، ظروف وجودنا الخاصة بنا. منذ زمن طويل ونحن نأخذ، كشيء مقرّر، أنّ الثقافة الحديثة والثقافة اليونانية القديمة متشابهتان. ننسى بذلك أنّ الوضعية التي تنجب نظاما تختلف عن وضعية ما ينتجه هذا النظام.
كما نعلم، بدأت دهشتنا الكبيرة حول الفارق الجوهري بين القدماء والمحدثين مع مقدمة وولف عن هوميروس. كان يُعتقد في السابق ممكنا تجاوز الأعمال اليونانية الكلاسيكية : كان يُفترض أنّها نجمت عن ظروف مشابهة لظروفنا.
كتب لايبنتز
لماذا التوجّه بكلّ هذه المدائح لليونانيين؟
من الأفضل التقليص من ذلك.
لمّا تسيّدت ربّة الإلهام الألمانية
هوراس عند فليمنغ يُستعاد،
ناسو بأوبزك يبقى يعصف،
لغريف، من سينيكا، الكآبة. (2)
كان ألكسندر بوب ، مترجم هوميروس إلى الإنجليزية، يعتقد المقدرة على توحيد أناقة أوفيد مع المهابة الهوميرية، ومن ثمّ تجاوزها.
يمكن لشعب ذي ثقافة أدبية أن يتخيّل نفسه وقد تخطّى نماذجه: لكن من المتعذّر في الواقع إنكار التربة التي منها تطوّرنا؛ حتى في حالة تقدّم ظاهري، لا ندرك بالتحقيق مبلغ الأصالة.
إنّ ظهور الآداب الأصلية يقتضي إجراء معالجة مقارنة لم يتم القيام بها بعد. قد يبدو هذا الأمر سخيفا، لكنّه ليس كذلك: إنّ أدبا أصليا لا يمكن أن يولد من أدب آخر؛ يلزم أن ينبثق من مكان آخر: من متطلّب آخر غير المتطلّب الأدبي. كلّ مرّة كان يولد فيها أدب كلاسيكي، كان يصدر عن شيء جديد ليس هوبثقافة أدبية، وليس له بها علاقة.
لم يظهر الأدب الكلاسيكي عند اليونانيين في صلته بالقراءة: هذا ما يمثّل خصوصيته. لم يكن يُنظر إلى الأعمال الكلاسيكية إطلاقا على أنّها تشكّل أدبا: كانت، في البداية، ضربا من سوء فهم لتُعتبر لاحقا أدبية بشكل خالص وتلعب، ضمن صيغة كتابية، دور قاعدة للثقافة.
المؤلّفون الذين يكتبون من أجل القرّاء يتخيّلون جمهورا مثاليا، هنا أو هناك، والذي يمكن أن يظهر بعد موت الكاتب بزمن مديد؛ هذا ما هو مثير حقّا في كلّ نشاط أدبي (الحافز الذي من أجله يُبذل الجهد ــ لنفكّر في الصحفيين)؛ إمكانية وافرة تماما للتأثير، لإحداث تأثير لاحقا. إنّنا نأسف للتمثيل الإيمائي الصامت mime الذي هو له أثر لحظي وفوري وليس لفنّه من ذريّة.
والحال أنّ الأدب الكلاسيكي لليونانيين هو، كما فنّ التمثيل الإيمائي الصامت، مخصّص للحظة، للمستمع والمتفرّج الحاضرين، دون اعتبار للأجيال القادمة (أو فقط بصورة غير مباشرة). ترنيمة هوميروس، أغنية جوقة من تأليف بيندار، مأساة لسوفوكلس، خطبة لديموستينس يجب أن ترضي جمهورا محدّدا تماما ومتفرّدا: هذه الأعمال وُلدت بحسب هذا الغرض. لا يتعلّق الأمر بجمهور مثالي غير معيّن. وفي الوقت عينه نتبيّن فيها تمفصلا لمختلف الفنون، على الأقل فنّ التمثيل وفنّ الخطبة، ثمّ علاوة على ذلك، الموسيقى، الغناء، الرقص orchestique. سيتمّ لاحقا إضفاء طابع التجريد على هذا الاتّحاد بين الفنون عندما سيتمّ تشييد الأعمال الأدبية الكلاسيكية الخالصة ضمن سنن وتوجيهها إلى جمهور من القرّاء.
(مقتطف من الدروس التي ألقاها نيتشه الشاب، الأستاذ لمادة الفيلولوجيا الكلاسيكية بجامعة بازل (1869 ـ 1879)
هامش:
1ـ عدنا إلى بعض العبارات العربية التي تمّ تدوينها بخصوص هذه الواقعة والتي تناسب، إلى حدّ ما، المقطع الذي أورده نيتشه.
2ـ وضع لايبنتز، في هذا المقطع الشعري، تقابلا بين شخصيات أدبية قديمة (Horace _ Nason ((Ovide)_ Sénèque وشخصيات أدبية ألمانية حديثة (Flemming _ Optiz _ Greiff (.
Friedrich Nietzsche, Histoire de la littérature grecque, Ecrits philologiques tome XI, Traduit par Marc Launay, pages 245 _247, Edition Belles Lettres 2021