كثير من النقاد يصفون الأديب الكبير الرائع سعيد الكفراوي، أنه مخلص لفن القصة القصيرة، التي لم يكتب سواها، لكنني أراه مخلصا لفكرة الكتابة في حد ذاتها، باعتبارها معادلا موضوعيا للحياة.
تأكد لديّ ما كنت مقتنعا به من أن الكتابة لدي الكفراوي هي الحياة بالنسبة له، عندما طالعت كتابه »حكايات من دفتر الأحوال» الصادر في سلسلة روائع الأدب العربي عن هيئة قصور الثقافة.
هي ليست أحواله بكل تأكيد، بل هي أحوالنا بتقلباتها وأحزانها وانكساراتها وكذلك أفراحها وطموحاتها وأحيانا جنونها، وكذلك بأشخاصها الذين عبر عنهم صاحب »مدينة الموت الجميل» فأحسن التعبير عنهم والوصول إلي أعماقهم، فأصبحوا مثل أشخاص نعرفهم عن قرب.. حتي وهو يتحدث عن أسماء محددة، فهو ينفذ إلي المشترك الإنساني، فلديه القدرة دائما أن يحب أكثر مما يكره، لديه طاقة علي أن يتسامح قبل أن يسيطر عليه الغضب من شخص أو موقف، يفعل كل ذلك لأنه يمتلك قدرة هائلة علي أن يبعث فينا الدهشة.. فحكاياته بمنظور آخر تاريخ لأحوال وطن، عجز مؤرخون عن التعبير عنه.
بدأ »الأحوال» بموقفه من زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل، وما حملته من دلالات، وعبر عنها بقصة جعلته ممنوعا من العودة لوطنه لسنوات، لكنه عاد لهذا الوطن، فليس لديه وطن غيره، عاد لا لكي يكون متفرجا، بل راصدا بحرفية الفنان وبراعته، المستند لموهبته ولا شئ سواها، للحظات صعبة مرت بهذا الوطن، فليس أصعب علينا من أن نفقد أولادنا وهم يحملون أحلامهم خارج أوطانهم، فيعودون في نعوش، فيقدم لنا ولهم سعيد الكفراوي »مرثية للنعوش العائمة»: البحر غير الوطن. البحر ماء وموج وموت متربص. سماء بلا أفق، وبلا أمل، والقارب الصغير يتهيأ للرحيل في هجرة غير محسوبة العواقب. والوطن هناك يستسلم لهؤلاء- أهل الربا- الذين يأخذون بخناقه!. شبان في أول العمر يخرجون من قراهم، ومن أحيائهم العشوائية، يحملون متاعبهم القديمة في حقائب شبه بالية، وأوراق فيها ذكرياتهم، وصورا للآباء والأمهات وإخوة الدم وللحبيبة المنتظرة عودة الغائبين من البلاد الغربية بالستر ورد الحاجة. يهاجرون بلا شرعية. ينسلون في الفجر قبل طلوع النهار. خارجين من الدور القديمة يخوضون في أزقة موحلة، ويلتفون هناك بليل، والليل ستار، وسمسار العمالة المهاجرة لا يظهر إلا بليل.
الكفراوي لا يكتب عن شخصيات معروفة فقط، بل يرصد أحوال وملامح وجوه بسيطة، يتعاطف معها، فيعبر عن حالها وطموحاتها وأحيانا نزواتها، ففي نصه »آلهة ولصوص» يختتمه بجمل قليلة تلخص وقائع قضية مصيرية في حياتنا، وهي آثارنا التي لا نحافظ عليها بما يليق بها وبتاريخها: »أقف حائرا، ينعقد لساني، وأنا أطوف في أنحاء مصر، أرقب ذلك الغني الباهر الذي ينهبه أهله، وذلك التاريخ لآلهة عظام يمتد في الزمن آلاف السنين حيث يتهدده اللصوص الصغار الحالمون بالثراء والنعمة في زمن الأزمة الطاحنة! ».
الكتاب ممتع إلي أبعد الحدود، وينقلك إلي عوالم وأشخاص متعددين ببراعة من يمتلك خبرة وموهبة سعيد الكفراوي في الكتابة، تحية له علي إبداعاته التي تمس عقولنا وقلوبنا في لحظة واحدة..
3/17/2018
* منقول لكل فائدة عن جريدة أخبار الادب
تأكد لديّ ما كنت مقتنعا به من أن الكتابة لدي الكفراوي هي الحياة بالنسبة له، عندما طالعت كتابه »حكايات من دفتر الأحوال» الصادر في سلسلة روائع الأدب العربي عن هيئة قصور الثقافة.
هي ليست أحواله بكل تأكيد، بل هي أحوالنا بتقلباتها وأحزانها وانكساراتها وكذلك أفراحها وطموحاتها وأحيانا جنونها، وكذلك بأشخاصها الذين عبر عنهم صاحب »مدينة الموت الجميل» فأحسن التعبير عنهم والوصول إلي أعماقهم، فأصبحوا مثل أشخاص نعرفهم عن قرب.. حتي وهو يتحدث عن أسماء محددة، فهو ينفذ إلي المشترك الإنساني، فلديه القدرة دائما أن يحب أكثر مما يكره، لديه طاقة علي أن يتسامح قبل أن يسيطر عليه الغضب من شخص أو موقف، يفعل كل ذلك لأنه يمتلك قدرة هائلة علي أن يبعث فينا الدهشة.. فحكاياته بمنظور آخر تاريخ لأحوال وطن، عجز مؤرخون عن التعبير عنه.
بدأ »الأحوال» بموقفه من زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل، وما حملته من دلالات، وعبر عنها بقصة جعلته ممنوعا من العودة لوطنه لسنوات، لكنه عاد لهذا الوطن، فليس لديه وطن غيره، عاد لا لكي يكون متفرجا، بل راصدا بحرفية الفنان وبراعته، المستند لموهبته ولا شئ سواها، للحظات صعبة مرت بهذا الوطن، فليس أصعب علينا من أن نفقد أولادنا وهم يحملون أحلامهم خارج أوطانهم، فيعودون في نعوش، فيقدم لنا ولهم سعيد الكفراوي »مرثية للنعوش العائمة»: البحر غير الوطن. البحر ماء وموج وموت متربص. سماء بلا أفق، وبلا أمل، والقارب الصغير يتهيأ للرحيل في هجرة غير محسوبة العواقب. والوطن هناك يستسلم لهؤلاء- أهل الربا- الذين يأخذون بخناقه!. شبان في أول العمر يخرجون من قراهم، ومن أحيائهم العشوائية، يحملون متاعبهم القديمة في حقائب شبه بالية، وأوراق فيها ذكرياتهم، وصورا للآباء والأمهات وإخوة الدم وللحبيبة المنتظرة عودة الغائبين من البلاد الغربية بالستر ورد الحاجة. يهاجرون بلا شرعية. ينسلون في الفجر قبل طلوع النهار. خارجين من الدور القديمة يخوضون في أزقة موحلة، ويلتفون هناك بليل، والليل ستار، وسمسار العمالة المهاجرة لا يظهر إلا بليل.
الكفراوي لا يكتب عن شخصيات معروفة فقط، بل يرصد أحوال وملامح وجوه بسيطة، يتعاطف معها، فيعبر عن حالها وطموحاتها وأحيانا نزواتها، ففي نصه »آلهة ولصوص» يختتمه بجمل قليلة تلخص وقائع قضية مصيرية في حياتنا، وهي آثارنا التي لا نحافظ عليها بما يليق بها وبتاريخها: »أقف حائرا، ينعقد لساني، وأنا أطوف في أنحاء مصر، أرقب ذلك الغني الباهر الذي ينهبه أهله، وذلك التاريخ لآلهة عظام يمتد في الزمن آلاف السنين حيث يتهدده اللصوص الصغار الحالمون بالثراء والنعمة في زمن الأزمة الطاحنة! ».
الكتاب ممتع إلي أبعد الحدود، وينقلك إلي عوالم وأشخاص متعددين ببراعة من يمتلك خبرة وموهبة سعيد الكفراوي في الكتابة، تحية له علي إبداعاته التي تمس عقولنا وقلوبنا في لحظة واحدة..
3/17/2018
* منقول لكل فائدة عن جريدة أخبار الادب