هل يمكن للبنيوي أن يكون مفسرا ؟
«فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول»، عمل دخل إلى القرآن كما لو كان "نصا" كسائر النصوص يمكن أن تطبق عليه نظريات أنتجها العقل الغربي في مرحلة التحديث الفكري، لطروحات "فهم" النصوص الأدبية و"تفسيرها" بعيدا عن التاريخ والاجتماع والتحليل النفسي، لكن أولئك لم يطمعوا يوما أن تتجاوز نظرياتهم البشرية في مصدرها، وهدفها، ومادتها التجارب في حقل أعمال البشر إلى مستويات لا يعرفونها ولا يتصورونها بله ارتيادها، أما صاحبنا – فربما بسبب اقتناعه المفرط بجدوائية أدوات البنيوية راح يطبقها على نص لا كالنصوص ناسيا أو متناسيا الخصائص الأساسية للقرآن ومن بينها:
1- الإعجاز: ونعني به واقعا تحدى العرب ثقافيا، ولغويا في جزيرة العرب آنذاك مصدر الكلمة الساحرة والبيان الباهر، موطن عبقر، ومعلق السبع والعشر – قصيدا وتجويدا – واقع جعل شيخ شعراء الزمن الجاهلي يضرب صفحا عن الشعر والبوح به، إشفاقا وجزعا وذهولا من هذا النص البياني الجديد، فلم أحجم لبيد –وهو من هو – عن الكلام المباح، ورام غيره – بعد هذا الزمن المحيل الطويل والضعف وقرونه فهم وتفسير النص المعجز ؟
ولو وجه مفكرنا جهده نحو شعر لبيد المكسوف الساكت خوفا وطمعا، لكان عمله أقرب إلى محله، ولانتظرنا منه بعض الفائدة تبعا لذلك.
2- العموم : ونقصد به أن القرآن الكريم غير قابل للوصف بأنه نص من تاريخ بعينه، أو لمكان بعينه، أو لمجموعة بشرية بعينها، فالقرآن تحدث ويتحدث عن أشياء يفهمها كل متلق بما يحكمه من نسبية الزمان والمكان ووسائل الإدراك حتى في زمن معرفة الناس (أعني قريشا) مثلا باللغة والملابسات العامة لم يستطع العقل البشري البحت فهم أمر قرآني كالإسراء والمعراج، وفهمه (ذاقه) وفسره (خشع له) وتقبله الموفقون، إذ أن كل إنسان ميسر لما خلق له، فهذا أبو بكر يصدق الخبر بشرط صدوره عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو نص لا يستطيع البنيويون بل لا يجرؤون على التصدي له، إذ أن اللغة التي هي معتمدهم لا تسعف في تجاوز العتبة لفهم الأمر الغيبي، فهي من المخلوقات المحدودة بحدود متكلميها ونسبيتهم في الزمان والمكان، فهل البنيويون ميسرون لتفسير القرآن، أو بالأحرى هل القرآن ميسر "لتفسير" البنيويين؟
أما أسباب النزول فهي جزء من كثير من الأجزاء كان يعتمدها المفسرون إن أراد المؤلف أن يكون مفسرا، ولم تكن يوما إلا للاستئناس ومدخلا من مداخل ربط النص القرآني بسياقه، وليس لقصره على أسباب تتعلق بزمان معين وأحداث بعيها.
3- القدسية : بمعنى أن الأدوات المعرفية التي أنتجت البنيوية وخاصة الشكلية منها لا "تؤمن" بأن نصا قد يكتسي صفة خارجة عنه راجعة إلى مصدره الإلهي لأنها تصدر عن مقولة موت الكاتب، أما مصدر القرآن فهو الخالق الحي الذي لا يموت، من هنا فإن القرآن ليس نصا عاديا نستلذ بجماله فحسب بل إننا نتعبد ونتبرك بقراءته، ونقدسه حتى أن الجهاز المفاهيمي الذي نستخدمه للتعبير عنه خاص به دون غيره على النحو التالي:
- القراءة/التلاوة : إن المفسرين من تعددهم يؤكدون انفتاح النص القرآني على تعدد القراءات، بتعدد أحرفه التي بها نزل، وتعدد نظرياته التي بها يتلى، في حدود إمكانات اللفظ وتقلباته، وإمكانات الفرد عند الأداء فسيولوجيا وطبيعيا.
- الفواصل/الآيات : مما يعني أن علامات الترقيم غير الملزمة لا تصلح لتعريفنا على مفاصل القرآن بل إن علم التجويد هو الوكيل الحصري والوحيد لتلك المهمة.
- الفهم/التدبر: والعارفون بالقرآن يعتقدون أنه جاء ليعاش حالا وواقعا، وتظهر نتائجه على المخلوقات وليس للفهم، وقد دل القرآن على هذا الفهم ودعمه بمثل يوضحه وهو أنه لونزل عل جبل لبان تصدعه نتيجة للخشية التي هي حالة أعمق من الفهم وأشمل.
4- الإخبار عن الغيب : يفترض البنيويون أن النص أي نص ينبغي أن يتسم بالتناسق الداخلي في بنياته الصغرى وبنيته الكلية، التي تشكل نسقا مع البنية الزمانية والمكانية، وقد أنتجوا لتناول الأعمال الأدبية البشرية مجموعة من الأزمان التي جمعوها واستنبطوها من نصوص شتى، لكن البنيويين لا يستطيعون تصنيف الزمن القرآني – أو الأزمان – لأن زمن الحضور والغياب، وزمن الآخرة، والبرزخ قبل ذلك، كلها أزمان عصية على "فهم" غير المؤمن الموفق إذ هي موجهة إليه وحده .
دخل الجابري – إذا – إلى بحر القرآن الزاخر، ولجته الغطمطم دون أسلحة تذكر، تدافعه الموج، فاستنجد بأدواته البنيوية فلم تنجده، فجاء عمله إبحارا على صفحة محيط ذي أمواج هوجاء متلاطمة، فأصبح راضيا من الغنيمة بالإياب، وراح يسطر العناوين الباهتة التي لا تناسب "حكمة" القرآن الذي وصفه مفكرنا بالحكيم، ولا عظمته حين نصفه بالعظيم، مما حدا ببعض الكتاب أن يردوا عليه ويطعنوا في دينه، وعقيدته، وإن لم يكن ذلك هدفنا هنا، لقصور علمنا عن تلك المسائل التفصيلية للفقه والعقيدة والتفسير، غير أن ما هرع إليه من الأدوات الفنية للبنيوية لم تسعفه في موضوعه، لأنك حين تطلب من الأدوات ما لا تستطيع تفسد أدواتك وموضوعك في آن معا .
إن أدوات البنيوية الشكلية من فهم وتفسير، والتوليديين حين أضافوا رؤية العالم، والجابري الذي عمد إلى أسباب النزول، لاختزال القرآن إلى نص تاريخي ديني، لا يغني من خصوبة وغنى وإعجاز وجمال واكتمال واكتناز وتناسق القرآن الكريم، الذي يصلح لكل زمان ومكان حيث يجد فيه الإنسان الباحث عن المعرفة والهداية، والإمتاع، ما لم ولن يجده في مظن آخر إنساني، أو فكري، أو علمي .
«فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول»، عمل دخل إلى القرآن كما لو كان "نصا" كسائر النصوص يمكن أن تطبق عليه نظريات أنتجها العقل الغربي في مرحلة التحديث الفكري، لطروحات "فهم" النصوص الأدبية و"تفسيرها" بعيدا عن التاريخ والاجتماع والتحليل النفسي، لكن أولئك لم يطمعوا يوما أن تتجاوز نظرياتهم البشرية في مصدرها، وهدفها، ومادتها التجارب في حقل أعمال البشر إلى مستويات لا يعرفونها ولا يتصورونها بله ارتيادها، أما صاحبنا – فربما بسبب اقتناعه المفرط بجدوائية أدوات البنيوية راح يطبقها على نص لا كالنصوص ناسيا أو متناسيا الخصائص الأساسية للقرآن ومن بينها:
1- الإعجاز: ونعني به واقعا تحدى العرب ثقافيا، ولغويا في جزيرة العرب آنذاك مصدر الكلمة الساحرة والبيان الباهر، موطن عبقر، ومعلق السبع والعشر – قصيدا وتجويدا – واقع جعل شيخ شعراء الزمن الجاهلي يضرب صفحا عن الشعر والبوح به، إشفاقا وجزعا وذهولا من هذا النص البياني الجديد، فلم أحجم لبيد –وهو من هو – عن الكلام المباح، ورام غيره – بعد هذا الزمن المحيل الطويل والضعف وقرونه فهم وتفسير النص المعجز ؟
ولو وجه مفكرنا جهده نحو شعر لبيد المكسوف الساكت خوفا وطمعا، لكان عمله أقرب إلى محله، ولانتظرنا منه بعض الفائدة تبعا لذلك.
2- العموم : ونقصد به أن القرآن الكريم غير قابل للوصف بأنه نص من تاريخ بعينه، أو لمكان بعينه، أو لمجموعة بشرية بعينها، فالقرآن تحدث ويتحدث عن أشياء يفهمها كل متلق بما يحكمه من نسبية الزمان والمكان ووسائل الإدراك حتى في زمن معرفة الناس (أعني قريشا) مثلا باللغة والملابسات العامة لم يستطع العقل البشري البحت فهم أمر قرآني كالإسراء والمعراج، وفهمه (ذاقه) وفسره (خشع له) وتقبله الموفقون، إذ أن كل إنسان ميسر لما خلق له، فهذا أبو بكر يصدق الخبر بشرط صدوره عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو نص لا يستطيع البنيويون بل لا يجرؤون على التصدي له، إذ أن اللغة التي هي معتمدهم لا تسعف في تجاوز العتبة لفهم الأمر الغيبي، فهي من المخلوقات المحدودة بحدود متكلميها ونسبيتهم في الزمان والمكان، فهل البنيويون ميسرون لتفسير القرآن، أو بالأحرى هل القرآن ميسر "لتفسير" البنيويين؟
أما أسباب النزول فهي جزء من كثير من الأجزاء كان يعتمدها المفسرون إن أراد المؤلف أن يكون مفسرا، ولم تكن يوما إلا للاستئناس ومدخلا من مداخل ربط النص القرآني بسياقه، وليس لقصره على أسباب تتعلق بزمان معين وأحداث بعيها.
3- القدسية : بمعنى أن الأدوات المعرفية التي أنتجت البنيوية وخاصة الشكلية منها لا "تؤمن" بأن نصا قد يكتسي صفة خارجة عنه راجعة إلى مصدره الإلهي لأنها تصدر عن مقولة موت الكاتب، أما مصدر القرآن فهو الخالق الحي الذي لا يموت، من هنا فإن القرآن ليس نصا عاديا نستلذ بجماله فحسب بل إننا نتعبد ونتبرك بقراءته، ونقدسه حتى أن الجهاز المفاهيمي الذي نستخدمه للتعبير عنه خاص به دون غيره على النحو التالي:
- القراءة/التلاوة : إن المفسرين من تعددهم يؤكدون انفتاح النص القرآني على تعدد القراءات، بتعدد أحرفه التي بها نزل، وتعدد نظرياته التي بها يتلى، في حدود إمكانات اللفظ وتقلباته، وإمكانات الفرد عند الأداء فسيولوجيا وطبيعيا.
- الفواصل/الآيات : مما يعني أن علامات الترقيم غير الملزمة لا تصلح لتعريفنا على مفاصل القرآن بل إن علم التجويد هو الوكيل الحصري والوحيد لتلك المهمة.
- الفهم/التدبر: والعارفون بالقرآن يعتقدون أنه جاء ليعاش حالا وواقعا، وتظهر نتائجه على المخلوقات وليس للفهم، وقد دل القرآن على هذا الفهم ودعمه بمثل يوضحه وهو أنه لونزل عل جبل لبان تصدعه نتيجة للخشية التي هي حالة أعمق من الفهم وأشمل.
4- الإخبار عن الغيب : يفترض البنيويون أن النص أي نص ينبغي أن يتسم بالتناسق الداخلي في بنياته الصغرى وبنيته الكلية، التي تشكل نسقا مع البنية الزمانية والمكانية، وقد أنتجوا لتناول الأعمال الأدبية البشرية مجموعة من الأزمان التي جمعوها واستنبطوها من نصوص شتى، لكن البنيويين لا يستطيعون تصنيف الزمن القرآني – أو الأزمان – لأن زمن الحضور والغياب، وزمن الآخرة، والبرزخ قبل ذلك، كلها أزمان عصية على "فهم" غير المؤمن الموفق إذ هي موجهة إليه وحده .
دخل الجابري – إذا – إلى بحر القرآن الزاخر، ولجته الغطمطم دون أسلحة تذكر، تدافعه الموج، فاستنجد بأدواته البنيوية فلم تنجده، فجاء عمله إبحارا على صفحة محيط ذي أمواج هوجاء متلاطمة، فأصبح راضيا من الغنيمة بالإياب، وراح يسطر العناوين الباهتة التي لا تناسب "حكمة" القرآن الذي وصفه مفكرنا بالحكيم، ولا عظمته حين نصفه بالعظيم، مما حدا ببعض الكتاب أن يردوا عليه ويطعنوا في دينه، وعقيدته، وإن لم يكن ذلك هدفنا هنا، لقصور علمنا عن تلك المسائل التفصيلية للفقه والعقيدة والتفسير، غير أن ما هرع إليه من الأدوات الفنية للبنيوية لم تسعفه في موضوعه، لأنك حين تطلب من الأدوات ما لا تستطيع تفسد أدواتك وموضوعك في آن معا .
إن أدوات البنيوية الشكلية من فهم وتفسير، والتوليديين حين أضافوا رؤية العالم، والجابري الذي عمد إلى أسباب النزول، لاختزال القرآن إلى نص تاريخي ديني، لا يغني من خصوبة وغنى وإعجاز وجمال واكتمال واكتناز وتناسق القرآن الكريم، الذي يصلح لكل زمان ومكان حيث يجد فيه الإنسان الباحث عن المعرفة والهداية، والإمتاع، ما لم ولن يجده في مظن آخر إنساني، أو فكري، أو علمي .