لهذا الكتاب الذي أخرجه الأستاذ أحمد الشايب قيمة خاصة، فمؤلفه أستاذ بكلية الآداب - ومؤلفات الأساتذة في جامعاتنا تأخذ في أذهان الطلبة صفة المقررات، يحتذون منهجها فيما يكتبون من أبحاث، وينظرون إلى حقائقها نظرة فيها كثير من الإيمان بصدقها وسلامتها. وهذا ما حفزني للكتابة عنه قبل أن يبدأ العام الجامعي الجديد.
والشعر السياسي كغيره من ضروب الشعر فن من فنون القول، له طابعه الخاص ومقوماته البيانية التي تميزه وتكسبه صفات ليست لسواه من فنون الشعر الأخرى. فإذا ألف مؤرخ أدب كتابا عن الشعر السياسي فإن من الطبيعي أن يتحدث عن هذا الفن وكيف أثرت السياسة فيه وقادته إلى صور من التعبير ينفرد بها، وجعلت أصحابه ذوي طابع فني واضح يعرفون به دون سائر الشعراء أو يعرف به شعرهم السياسي دون بقية شرهم. ولكن الأستاذ عكس الآية - كما يقولون - فتحدث عن السياسة والخلفاء والولاة والأيام والأحداث وأفض في ذلك كله حتى خرج كتابه تاريخاً لا يمت إلى الأدب بسبب سوى أن رجال هذا التاريخ كانوا يقولون الشعر.
وقد تفاءلت خيراً حين قرأت له في المقدمة (أما المنهج العام لهذه الفصول فقد قام على أصلين أحدهما سياسي والثاني فني) ثم عدت فتوجست شراً حين رأيته يسهب في هذه المقدمة عن الأصل الأول ويقتضب الكلام اقتضابا عن الأصل الثاني، وما لبث هذا الشر أن طالعني في كل صفحة من صفحات الكتب
وحسب القارئ أن يعلم أن المؤلف قد كتب فصلا طويلا عن الشعر السياسي في الجاهلية شغل به خمساً وستين صفحة ثم لم يكتب عن جانبه الفني إلا هذه العبارة (والوصف العام لهذا الشعر أنه شعر العاطفة الصادقة والمعاني القريبة والخيال البسيط الجميل والعبارة السهلة الخالية من التعقيد، مع حسن اختيار البحور العروضية). أما كيف كانت هذه العاطفة الصادقة والمعاني القريبة، وأما مظهر هذا الخيال البسيط الجميل وهذا الاختيار الحسن للبحور العروضية فشيء لا يعني المؤلف في كثير ولا قليل!
وحسب القارئ أن يعلم مرة أخرى أن فصلا ملأ سبعين صفحة من الكتاب قد ختمه المؤلف في حديثه عن الصفات الفنية للشعر السياسي في صدر الإسلام بقوله: (أما عبارات الشعر وصياغته الفنية فقد اضطربت بين القوة والضعف لأن الشعراء الذين شغلوا هذه الفترة مخضرمون أو مغمورون - والأولون تغير عليهم الجو فلم يستطيعوا مجاراته دائماً، ومنهم من انصرف عن الشعر إلى القرآن، والآخرون قالوه قطعاً في مناسبات شتى، على أن تأثير القرآن تأخر إلى الجيل الجديد). أما كيف كان ذلك فلا يجيب الأستاذ عنه بزعم ولا يقين.
وأستميح القارئ أن يعلم الثالثة والأخيرة ختام فصل طويل عن شعر الخوارج: (. . . وكان جديداً في أساليبه الرقيقة السلسة الجزلة التي تعتمد على القرآن الحكيم كما رأينا قبلا لعمران ابن حطان حين قال:
فنحن بنو الإسلام والله ربنا ... وأولى عباد الله بالله من شكر
مضمناً قوله تعلى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقول عيسى ابن فاتك الحبطي:
هم الفئة القليلة غير شك ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
فهذا معنى قوله تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)
وإذا كان هذان البيتان - في ذوق المؤلف - جديدين في أسلوبهما (الرقيق السلس الجزل)، فقد فهمنا لماذا يتنكب الحديث عن الجانب الفني ويقتضبه في عبارات مرقمة؟! وما أيسر أن يقول المرء: هذا جديد، وهذا قديم؟ وما أيسر أن يأخذ من هذه الأحكام الشائعة فيقرر أن الأدب الجاهلي أدب الفطرة السليمة وأن أدب الشيعة أدب حزين، وأدب الخوارج أدب رصين. ذلك كله شئ ميسور، ولكن مناقشة هذه الآراء وبسط هذه الأحكام ومعالجتها بالذوق المرهف والإحساس اليقظ فشيء لا يتيسر لكثير من المؤلفين. واقرأ له قوله في (تلخيص) مذهب ابن قيس الرقيات تجد مصداق ما نقوله: (2) وبجانب ذلك تسود شعره السياسي عاطفة حزينة تشبه عاطفة الشيعة ولكنها لا تماثلها، إذ كان حزنه على قومه وعصبته العامة، وكان حزنهم على أنفسهم وعصبتهم الخاصة). فقد حكم المنطق حين كان يجب أن يحكم الذوق، فأسلمته مقدماته الخاطئة إلى نتيجة خاطئة؛ ولو قد قارن بين شعر ابن قيس وشعر الشيعة مقارنة فنية صحيحة لأدرك أن فن ابن قيس يفيض بالحزن الصادق واللوعة المريرة في رثائه صرعى وقعة الحرة، وفي بكائه أمر قريش وقد تفرق، ولأدرك أنه في ذلك يفوق بكثير شعراء الشيعة. ولكنه المنطق، والمنطق الجاف!
فليس الشعر إحساساً نفسياً فحسب، ولكنه تعبير فني عن هذا الإحساس، وقد لا يكون الشاعر أرهف الناس شعوراً ولا أعمقهم حساً، ولكنه بموهبته يستطيع أن يحمل الألفاظ من الإيحاء ما لا يمكن أن يحملها إياه من هم دونه في الملكة والبراعة وإن كانت قلوبهم تتفتت من الحزن! فلبيك الشيعة أنفسهم، وليبك ابن قيس قومه، فذلك لا ينقص ولا يرجح في ميزان الفن، وإنما يكون الترجيح بمقدار ما وفق الشاعر إليه من الإبانة عن فكره وعاطفته، وما بثه في فنه من صور بيانية وعبارات موحية. وليس السبيل إلى هذا الميزان الصادق أن يقول المؤلف في الحكم على فن ابن قيس: (يمتاز أسلوبه بالجزالة فلم يكن رذلا ولا سفسافاً على الرغم من إقامته بتكريت ومن طعن اللغويين على شعره ورفضهم الاحتجاج به). فذلك أشبه بهذه العبارات التي سئمنا سماعها من قولهم: (كثير الماء، مشرق الديباجة، حسن السبك).
لقد رفض اللغويون الاحتجاج بشعر الشاعر، فقد كان في شعره إذن خروج على ما ألفه اللغويون من الأساليب، ورفضت أنت حكم هؤلاء اللغويين؛ أفما كان لنا أن نسمع في إسهاب رأيك ورأى هؤلاء؟! وما الذي أخذوه عليه، وما الذي أعجبك منه؟ ولكن الأستاذ يكتب عن الفن في عبارات مرقمة!
ولما كان المؤلف أستاذاً في الجامعة كما بدأنا القول، فذلك يمضي بنا إلى الحديث عن دراسة الأدب العربي في كلية الآداب، فالكتاب تنقيح لما ألقى المؤلف من محاضرات في هذا الموضوع
والأدب في قسم اللغة العربية بكلية الآداب يدرس على أنه وثائق تاريخية تصور ما كان في المجتمع العربي من أحداث. لذلك يختار الأساتذة أحفل الموضوعات بهذه النواحي التاريخية من أمثال الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق، ويغفلون موضوعات لا تقل عنها شأناً وخطراً، ولعلها تفوقها بياناً وفناً، وتفتح للحديث عن مشاكل الشعر الفنية آفاقاً أرحب وأوسع. غاية الجهد أن يقسم الأستاذ النقيضة إلى أغراض: نسيب وفخر وهجاء. ثم يتحدث عما في هذه الأغراض من معان ويقارن بينها وبين ما ورد في القصيدة المناقضة، كل ذلك في منطق جاف، ونظرة عقلية محضة، وعبارات مرقمة، لا يعرض لصور بيانية ولا لفظ جميل أو قبيح، ولا يصف إحساساً صادقاً أو زائفاً، ولا يوضح تقليداً ولا تجديداً
والطلبة يستمعون إلى هذه الدروس الجامدة في ضيق وملل، وينظرون فإذا إخوانهم في الأقسام الآخر يتلقون دراسة حية للأدب تعني أكبر العناية بالفن ومظاهره، وتقارن مقارنة دقيقة بين الشعراء، وتطلع على ما تصدره المطبعة كل يوم من كتب جديدة. ينظر الطلبة إلى هذه الدراسة الحية في الأقسام الأخرى، ثم ينظرون فإذا الأدب في قسمهم وثائق تاريخية، وإذا دراسة النقد الأدبي تقصر على طلبة الامتياز ابتداء من السنة الثالثة ليتلقوا نظرات جزئية في تاريخ النقد عند العرب تبدأ أولاها بأن النقد مشتق من نقد الدينار، أي اختبره ليتبين أزائف هو أم صحيح؟
ويشتد ضيق الطلبة بهذا الجمود، فيؤلفون من بينهم جماعات تدرس الأدب المصري الحديث وتراقب المطبعة العربية فيما تخرج من كتب، يلقى أحدهم بحثاً ويناقشه إخوانه فيه، ثم لا يجدون من أساتذتهم عناية ولا رعاية، ولا يكلف الأساتذة أنفسهم مشقة الاستماع إلى مثل هذه المحاضرات من تلاميذهم، بل أنهم ليوجسون خفية من هذه المحاضرات، ويعتقدون أنها تصرف الطلبة عما ينبغي لهم من جد وما يجب عليهم من إخلاص نحو دراسة الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق! راجت بينهم خرافة أن كلية الآداب تخرج علماء لا أدباء، وفاتهم أن عالم الأدب لابد أن يكون في قرارة نفسه أديبا، ولابد أن يتابع الآداب في نموها وتطورها، ويربط قديمها بحديثها، حتى يستطيع الحكم ببصيرة نافذة وإحساس صادق على ما يقرأ. راجت بينهم هذه الخرافة، فهم لا يطمئنون كل الاطمئنان إلى الطلبة الذين يبدون ميلا إلى دراسة الأدب الحديث أو المشاركة فيه بالإنشاء؛ تمام كما كان ينظر علماء الأزهر القدماء إلى الشيخ المرصفي وتلاميذه على بعد بين ما كان يدرسه تلاميذ المرصفي وما يدرسه الآن طلبة كلية الآداب. ولن يطمع طالب أن يستطلع رأي أستاذ في قصيدة نظمها أو قصة كتبها أو نقد لكتاب مما يقرأه الناس. لن يطمع طالب في ذلك ولئن فعل فلن يجد اهتماما، ولئن وجد اهتماما فلن يجد غناء!
إن أمثال هذه الدراسات الجافة المربكة التي يمثلها كتاب (تاريخ الشعر السياسي) لتصرف الناس عن قراءة الأدب العربي القديم وتزهدهم فيه، وخير لأساتذة الجامعة أن يروضوا أنفسهم على إرضاء النزعات الحديثة في نفوس طلابهم، فذلك ينفض عن الأدب العربي القديم ما أورثته هذه الدراسات من جمود
عبد القادر القط
مجلة الرسالة - العدد 639
بتاريخ: 01 - 10 - 1945
والشعر السياسي كغيره من ضروب الشعر فن من فنون القول، له طابعه الخاص ومقوماته البيانية التي تميزه وتكسبه صفات ليست لسواه من فنون الشعر الأخرى. فإذا ألف مؤرخ أدب كتابا عن الشعر السياسي فإن من الطبيعي أن يتحدث عن هذا الفن وكيف أثرت السياسة فيه وقادته إلى صور من التعبير ينفرد بها، وجعلت أصحابه ذوي طابع فني واضح يعرفون به دون سائر الشعراء أو يعرف به شعرهم السياسي دون بقية شرهم. ولكن الأستاذ عكس الآية - كما يقولون - فتحدث عن السياسة والخلفاء والولاة والأيام والأحداث وأفض في ذلك كله حتى خرج كتابه تاريخاً لا يمت إلى الأدب بسبب سوى أن رجال هذا التاريخ كانوا يقولون الشعر.
وقد تفاءلت خيراً حين قرأت له في المقدمة (أما المنهج العام لهذه الفصول فقد قام على أصلين أحدهما سياسي والثاني فني) ثم عدت فتوجست شراً حين رأيته يسهب في هذه المقدمة عن الأصل الأول ويقتضب الكلام اقتضابا عن الأصل الثاني، وما لبث هذا الشر أن طالعني في كل صفحة من صفحات الكتب
وحسب القارئ أن يعلم أن المؤلف قد كتب فصلا طويلا عن الشعر السياسي في الجاهلية شغل به خمساً وستين صفحة ثم لم يكتب عن جانبه الفني إلا هذه العبارة (والوصف العام لهذا الشعر أنه شعر العاطفة الصادقة والمعاني القريبة والخيال البسيط الجميل والعبارة السهلة الخالية من التعقيد، مع حسن اختيار البحور العروضية). أما كيف كانت هذه العاطفة الصادقة والمعاني القريبة، وأما مظهر هذا الخيال البسيط الجميل وهذا الاختيار الحسن للبحور العروضية فشيء لا يعني المؤلف في كثير ولا قليل!
وحسب القارئ أن يعلم مرة أخرى أن فصلا ملأ سبعين صفحة من الكتاب قد ختمه المؤلف في حديثه عن الصفات الفنية للشعر السياسي في صدر الإسلام بقوله: (أما عبارات الشعر وصياغته الفنية فقد اضطربت بين القوة والضعف لأن الشعراء الذين شغلوا هذه الفترة مخضرمون أو مغمورون - والأولون تغير عليهم الجو فلم يستطيعوا مجاراته دائماً، ومنهم من انصرف عن الشعر إلى القرآن، والآخرون قالوه قطعاً في مناسبات شتى، على أن تأثير القرآن تأخر إلى الجيل الجديد). أما كيف كان ذلك فلا يجيب الأستاذ عنه بزعم ولا يقين.
وأستميح القارئ أن يعلم الثالثة والأخيرة ختام فصل طويل عن شعر الخوارج: (. . . وكان جديداً في أساليبه الرقيقة السلسة الجزلة التي تعتمد على القرآن الحكيم كما رأينا قبلا لعمران ابن حطان حين قال:
فنحن بنو الإسلام والله ربنا ... وأولى عباد الله بالله من شكر
مضمناً قوله تعلى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقول عيسى ابن فاتك الحبطي:
هم الفئة القليلة غير شك ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
فهذا معنى قوله تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)
وإذا كان هذان البيتان - في ذوق المؤلف - جديدين في أسلوبهما (الرقيق السلس الجزل)، فقد فهمنا لماذا يتنكب الحديث عن الجانب الفني ويقتضبه في عبارات مرقمة؟! وما أيسر أن يقول المرء: هذا جديد، وهذا قديم؟ وما أيسر أن يأخذ من هذه الأحكام الشائعة فيقرر أن الأدب الجاهلي أدب الفطرة السليمة وأن أدب الشيعة أدب حزين، وأدب الخوارج أدب رصين. ذلك كله شئ ميسور، ولكن مناقشة هذه الآراء وبسط هذه الأحكام ومعالجتها بالذوق المرهف والإحساس اليقظ فشيء لا يتيسر لكثير من المؤلفين. واقرأ له قوله في (تلخيص) مذهب ابن قيس الرقيات تجد مصداق ما نقوله: (2) وبجانب ذلك تسود شعره السياسي عاطفة حزينة تشبه عاطفة الشيعة ولكنها لا تماثلها، إذ كان حزنه على قومه وعصبته العامة، وكان حزنهم على أنفسهم وعصبتهم الخاصة). فقد حكم المنطق حين كان يجب أن يحكم الذوق، فأسلمته مقدماته الخاطئة إلى نتيجة خاطئة؛ ولو قد قارن بين شعر ابن قيس وشعر الشيعة مقارنة فنية صحيحة لأدرك أن فن ابن قيس يفيض بالحزن الصادق واللوعة المريرة في رثائه صرعى وقعة الحرة، وفي بكائه أمر قريش وقد تفرق، ولأدرك أنه في ذلك يفوق بكثير شعراء الشيعة. ولكنه المنطق، والمنطق الجاف!
فليس الشعر إحساساً نفسياً فحسب، ولكنه تعبير فني عن هذا الإحساس، وقد لا يكون الشاعر أرهف الناس شعوراً ولا أعمقهم حساً، ولكنه بموهبته يستطيع أن يحمل الألفاظ من الإيحاء ما لا يمكن أن يحملها إياه من هم دونه في الملكة والبراعة وإن كانت قلوبهم تتفتت من الحزن! فلبيك الشيعة أنفسهم، وليبك ابن قيس قومه، فذلك لا ينقص ولا يرجح في ميزان الفن، وإنما يكون الترجيح بمقدار ما وفق الشاعر إليه من الإبانة عن فكره وعاطفته، وما بثه في فنه من صور بيانية وعبارات موحية. وليس السبيل إلى هذا الميزان الصادق أن يقول المؤلف في الحكم على فن ابن قيس: (يمتاز أسلوبه بالجزالة فلم يكن رذلا ولا سفسافاً على الرغم من إقامته بتكريت ومن طعن اللغويين على شعره ورفضهم الاحتجاج به). فذلك أشبه بهذه العبارات التي سئمنا سماعها من قولهم: (كثير الماء، مشرق الديباجة، حسن السبك).
لقد رفض اللغويون الاحتجاج بشعر الشاعر، فقد كان في شعره إذن خروج على ما ألفه اللغويون من الأساليب، ورفضت أنت حكم هؤلاء اللغويين؛ أفما كان لنا أن نسمع في إسهاب رأيك ورأى هؤلاء؟! وما الذي أخذوه عليه، وما الذي أعجبك منه؟ ولكن الأستاذ يكتب عن الفن في عبارات مرقمة!
ولما كان المؤلف أستاذاً في الجامعة كما بدأنا القول، فذلك يمضي بنا إلى الحديث عن دراسة الأدب العربي في كلية الآداب، فالكتاب تنقيح لما ألقى المؤلف من محاضرات في هذا الموضوع
والأدب في قسم اللغة العربية بكلية الآداب يدرس على أنه وثائق تاريخية تصور ما كان في المجتمع العربي من أحداث. لذلك يختار الأساتذة أحفل الموضوعات بهذه النواحي التاريخية من أمثال الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق، ويغفلون موضوعات لا تقل عنها شأناً وخطراً، ولعلها تفوقها بياناً وفناً، وتفتح للحديث عن مشاكل الشعر الفنية آفاقاً أرحب وأوسع. غاية الجهد أن يقسم الأستاذ النقيضة إلى أغراض: نسيب وفخر وهجاء. ثم يتحدث عما في هذه الأغراض من معان ويقارن بينها وبين ما ورد في القصيدة المناقضة، كل ذلك في منطق جاف، ونظرة عقلية محضة، وعبارات مرقمة، لا يعرض لصور بيانية ولا لفظ جميل أو قبيح، ولا يصف إحساساً صادقاً أو زائفاً، ولا يوضح تقليداً ولا تجديداً
والطلبة يستمعون إلى هذه الدروس الجامدة في ضيق وملل، وينظرون فإذا إخوانهم في الأقسام الآخر يتلقون دراسة حية للأدب تعني أكبر العناية بالفن ومظاهره، وتقارن مقارنة دقيقة بين الشعراء، وتطلع على ما تصدره المطبعة كل يوم من كتب جديدة. ينظر الطلبة إلى هذه الدراسة الحية في الأقسام الأخرى، ثم ينظرون فإذا الأدب في قسمهم وثائق تاريخية، وإذا دراسة النقد الأدبي تقصر على طلبة الامتياز ابتداء من السنة الثالثة ليتلقوا نظرات جزئية في تاريخ النقد عند العرب تبدأ أولاها بأن النقد مشتق من نقد الدينار، أي اختبره ليتبين أزائف هو أم صحيح؟
ويشتد ضيق الطلبة بهذا الجمود، فيؤلفون من بينهم جماعات تدرس الأدب المصري الحديث وتراقب المطبعة العربية فيما تخرج من كتب، يلقى أحدهم بحثاً ويناقشه إخوانه فيه، ثم لا يجدون من أساتذتهم عناية ولا رعاية، ولا يكلف الأساتذة أنفسهم مشقة الاستماع إلى مثل هذه المحاضرات من تلاميذهم، بل أنهم ليوجسون خفية من هذه المحاضرات، ويعتقدون أنها تصرف الطلبة عما ينبغي لهم من جد وما يجب عليهم من إخلاص نحو دراسة الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق! راجت بينهم خرافة أن كلية الآداب تخرج علماء لا أدباء، وفاتهم أن عالم الأدب لابد أن يكون في قرارة نفسه أديبا، ولابد أن يتابع الآداب في نموها وتطورها، ويربط قديمها بحديثها، حتى يستطيع الحكم ببصيرة نافذة وإحساس صادق على ما يقرأ. راجت بينهم هذه الخرافة، فهم لا يطمئنون كل الاطمئنان إلى الطلبة الذين يبدون ميلا إلى دراسة الأدب الحديث أو المشاركة فيه بالإنشاء؛ تمام كما كان ينظر علماء الأزهر القدماء إلى الشيخ المرصفي وتلاميذه على بعد بين ما كان يدرسه تلاميذ المرصفي وما يدرسه الآن طلبة كلية الآداب. ولن يطمع طالب أن يستطلع رأي أستاذ في قصيدة نظمها أو قصة كتبها أو نقد لكتاب مما يقرأه الناس. لن يطمع طالب في ذلك ولئن فعل فلن يجد اهتماما، ولئن وجد اهتماما فلن يجد غناء!
إن أمثال هذه الدراسات الجافة المربكة التي يمثلها كتاب (تاريخ الشعر السياسي) لتصرف الناس عن قراءة الأدب العربي القديم وتزهدهم فيه، وخير لأساتذة الجامعة أن يروضوا أنفسهم على إرضاء النزعات الحديثة في نفوس طلابهم، فذلك ينفض عن الأدب العربي القديم ما أورثته هذه الدراسات من جمود
عبد القادر القط
مجلة الرسالة - العدد 639
بتاريخ: 01 - 10 - 1945