بحثت عن الطمأنينة في كل مكان، فلم أجدها إلا بالجلوس في ركن منزوٍ وفي يدي كتاب.
توماس دي كيمبيس
مثل كثير من الناس كانت هناك كتب أدين لها بالفضل ، لأنها غيرت مسار حياتي ، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري أتسمت طبيعتي بالخجل ، وكنت أعاني من صعوبة التعرف على أصدقاء جدد ، ونادراً ما أتحدث مع أحد ، ولا أفعل ذلك إلا بصعوبة ، وتشاء الصدف أن يقع بيدي كتاب صغير الحجم مطبوع على ورق أسمر مثل معظم الكتب التي تسمى " شعبية " عنوانه " كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس " للاميركي ديل كارنيجي ، في تلك الأيام كان الكتاب يعد الاكثر مبيعاً ، حتى أن العديد من دور النشر تعيد طباعته باستمرار ، وكنت وأنا الصبي الصغير أسأل بيني وبين نفسي : هل يمكن لكتاب أن يجعل لك الكثير من الأصدقاء ؟ وحين سألت قريبي صاحب المكتبة ذات يوم عن الكتاب ، قال لي بلهجة ساخرة : هذه كتب بلا منفعة ، هدفها المال ، لم اقتنع بالحجة التي ساقها ، فكيف يمكن أن أقاوم كتاباً يمهد لي الطريق لأن يصبح لي أصدقاء وأوثر فيهم .
كانت أول نصيحة تعلمتها من مؤلف الكتاب " ديل كارنيجي " إنني اشتريت دفتر ملاحظات لأسجل به ما اشاهده كل يوم وما يمر بي من مواقف وما أقرأه في الكتب .، إذ يخبرنا كارينجي انه لكي تعيش حياتك بشكل حقيقي عليك ان تهتم بالآخرين . ينبغي أن تصغي اليهم وأن تكون سخياً في محبتك لهم . ويطلب منا أن نكون صادقين .نقرأ في سيرة ديل كارنيجي إنه ابن لمزارع فقير ، وكانت أمه تطمح أن يصبح إبنها كاهناً .كان اسمه الحقيقي ديل كارناجوي ، لكنه غير نطق اسمه : " كنت أريد تحسين حظوظي في الحياة " عمل وهو طالب كلية بائعاً جولاً ، وكان يقطع المسافات الطويلة على قدميه ليبيع الصابون ومنظفات المنازل ، وبعد أن أكمل كليته قرر أن يدرس الفنون الدرامية لكي يصبح ممثلا ، إلا ان مسيرته الفنية انتهت في دور صغير بمسرحية لاقت فشلاً كبيراً ، بعدها عمل بائعاً للسيارات المستعملة ، وفي هذا الوقت قرر أن يكتب عن الطريقة المثلى لكسب ود الناس ، فاستأجر غرفة صغيرة لإقامة دورات عن كيفية التأثير في الآخرين وكان يردد مقولة الفيلسوف الاميركي أيمرسون :" إفعل الشيء الذي تخاف أن تفعله ، وسيصبح موت الخوف عندئذ أمراً مؤكداً بصورة مطلقة " . يبدأ كتاب كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس ، بفصل طريف ومثير اسمه " إذا اردت جمع العسل لاتبدأ بحرق خلايا النحل " وهذه الفكرة يرجعها كارنيجي الى الرئيس الاميركي بنيامين فرانكلين الذي قال لمواطنيه في احدى خطبه :" عزمت على أن لا أتكلم بالسوء عن أي إنسان مهما كان " ، ومثلما يخبرنا ديل كارنيجي إن فكرة فولتير كانت تتلخص في أن " اي أبله يمكن أن ينتقد ويدين ويشكو . لكن لكي يكون المرء متفهما ، فان الأمر يقتضي شخصية متسامحة قوية وضبطاً للنفس " ويتبع هذه الفكرة بصفحات نابضة بالحيوية تعود الى الفيلسوف البريطاني توماس كارليل :" إن الرجل العظيم يظهر عظمته في الطريقة التي يعامل بها البسطاء " ..ويستخدم كارنيجي أمثلة من حياة مفكرين وفلاسفة كانوا يتصرفون بالطريقة التي يجب أن يتصرف بها الانسان ، لقد صرح وليم جيميس ذات يوم بان " أعمق مبدأ للطبيعة البشرية هي التلهف على أن تكون محل تقدير " ويسمي كارنيجي الاسلوب هذا بالاسلوب السقراطي ويصف الفيلسوف اليوناني سقراط بانه " فتى عجوز لامع " ، ويثني على سقراط لقدرته على إقناع الآخرين ، ويحاول كارنيجي الإستفادة من إسلوب سقراط في توجيه الأسئلة واستخراج المعرفة منها ، فقد كان سقراط يحاول أن يقدم لمستمعيه طريقة بسيطة تمكنهم من تمييز ما هو صحيح بانفسهم ، كان سقراط يصر أن بامكان أي شخص يملك عقلاً فضولياً أو سعي الى التدقيق في المعتقدات السائدة أن يبدأ محادثة مع شخص آخر في أحد شوارع المدينة بحيث يصل الى فكرة خلاقة .. ويخبرنا ديل كارنيجي إنه من الممكن التوصل الى تفاهم مع الآخرين دون الإغراق في التفلسف .
كان من عادة سقراط ان يبدأ اسئلته بالافصاح عن جهلة العميق بالموضوع ، حتى يجذب الآخر الى حلبة للمناقشة ، ويحول بصره الى الصعوبة الحقيقية في الموضوع ثم يدخل الى عمق الموضوع ، وكذا كان يشجع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة الى كرسي المعلم ، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على ان يجعل المحاور يصل بنفسه الى الحقيقة .وقد رأى سقراط إن الفضائل تعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة ، وإذا كان الشخص يجب أن يعلن انه لايمكن ان يلم بكل جوانب الحقيقة وانه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم ، فإن الفضيلة تشير الى وعي الانسان ، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة ، وهذا هو جوهر الفضيلة: "أن الفضيلة ما هي إلا دعوى دائبة لإعمال العقل."
كان سقراط يقول: "لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئا ." فالفلسفة لا تتقدم إلا عن طريق تبني منهج الشك والبحث الدائم.
إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الانسان يتعلم الشك، خصوصاً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها. ولهذا قال سقراط: "إعرف نفسك".وهي العبارة التي حاول كارينجي ان يعيد صياغتها فقد كان يعتقد إن المرء يتعين عليه أن يؤمن بقدراته ، لكي يجعل الآخرين يثقون بهذه القدرات .
في يومياته التي نشرت بعد وفاته يخبرنا ديل كارنيجي إن ثلاثة أشخاص لعبوا دورا كبيرا في بناء شخصيته ابراهام لنكولن وغاندي والكاتب الاميركي هيرمان ميلفيل :" كتاب موبي ديك لميلفيل لايمكن أن يخرج إلا من عبقرية خارقة ، إنه سفينة صوفية أبحرت بها ، عميقة بشكل لايدرك ، من منا لم يمر بتجربة إسماعيل ، من منا لم يكمن عبدا لرغباته ونزواته " .
يقدم أمبرتو إيكو نصيحة للكتاب : " عليك أن تشكل القارئ الذي تريده لكل قصة تكتبها".. وقد اكتشفت أنا بعد سنوات إن بعض الكتب أعادت تشكيل حياتي بصورة أفضل .. ويخبرنا ايكو انه في صباه اطلع على بعض كتب ديل كارنيجي ورغم انه وجدها بسيطة وساذجة أحيانا ، إلا إنها ألهمته بافكار كثيرة خصوصاً ان مؤلفها استطاع ان يقوم بسياحة جميلة في أفكار الفلاسفة الاخلاقيين .
يقول أفلاطون إن أغلب الناس ليسوا مرتاحين فقط لجهلهم وإنما يغضبون بشدة ممن يشير إليه. يكتب ديل كارنيجي في إحدى وصاياه إن " الامر سيكون جيداً لو تحدثت مع الآخرين عن الأشياء التي لا تعرفها " .
************
أيها الكتاب إنك لتكذب، الحق أيتها الكتب أنه عليك أن تعرفي حدّك، أنتِ تعطينا الكلمات والحقائق العارية. ولكن، نحن نملؤها بالأفكار.
هرمان ملفل
كيف أَصبحتَ كاتباً ؟ يجيب وليام فوكنر على هذا السؤال بعبارة قصيرة : عندما قرأت موبي ديك.
كان فوكنر في السابعة والعشرين من عمره عام 1924 ، يمارس عدداً من الأعمال من اجل توفير قليل من المال ، وحين قرر أن يكتب ذات يوم رواية ، عرضها على صديقه الروائي شيرود اندرسن ، وبعد ثلاثة أسابيع اخبره اندرسن انه سيعقد معه صفقة تجارية وسيمنحه اربعمائة دولار عن كل رواية يكتبها ، يستغرب فوكنر من صديقه الذي سيمنحه كل هذه الاموال لمجرد انه سيجلس اربع ساعات في اليوم وراء الآلة الكاتبة.
لكنه بعد نشر روايته الثانية البعوض يدرك إن المال لوحده لايصنع كاتباً يردد فوكنر دائما إن " موبي ديك " هي الرواية التي كان يتمنى أن يكون كاتبها ويصرح :" إن نهاية آهاب – الشخصية الرئيسية في موبي ديك – صارت نوعاً من الجلجلة ( مثارا للاحزان ) بالنسبة لقلب غارق في الحطام وعاجز عن الحركة والتحول " .
في الخامسة عشرة من عمري قرأت موبي ديك للمرة الاولى بنسخة صغيرة صادرة عن سلسلة كتابي ، وبين عملي في المكتبة وذهابي الى المدرسة ، واصلت قراءة المزيد من الصفحات ، وكنت أتلهف لمعرفة ماذا سيحل لآهاب وسفينته واين ستنتهي رحلة البحث عن الحوت الذي يريد اهاب الثأر منه ، وماذا سيفعل البحار المتجول اسماعيل . وفي البيت كنت أنزوي جانباً ، لقد وقعت في حب الرواية ، وعشت اياماً وأنا أقرأ عن اناس يعيشون في مكان آخر وزمن بعيد .
"سترون أيها القراء ، إن هذا الحفار النقاب ، إن تلك الأرضة النفاذة التي اسميها مساعد الخازن المساعد ، قد تغلغل في أقبية المكتبات وسراديبها الطويلة ، ملتقطاً الاشارات المتناثرة الى الحيتان ايّان وجودها ، من كتب دينية أو دنيوية . لذلك ليس عليكم أن تأخذوا هذا الخليط من الأقوال وتعدوه في جميع الاحوال كتاباً موثوقاً معتمداً" . هكذا يكتب ملفل في الصفحات الاولى من روايته ، وبالتأكيد إن هذا الخليط من الأقوال سينتج لنا كتاباً عظيماً يقول عنه الروائي نجيب محفوظ :" هناك أعمال عزيزة على نفسي كنت أقرأها مرتين وثلاثة مثل موبي ديك".
هل يمكن تعريف موبي ديك ، يكتب (هارولد بلوم) في كتابه " لماذا نقرأ" إن " موبي ديك تمثل النموذج الروائي للعظمة الأميركية ، من أجل انجاز رفيع وعميق ، وعلى الرغم من أن ملفل مدين بالكثير لشكسبير ، فإن موبي ديك هي عمل أصيل لصورة فذة ، هي كتابنا القومي عن سفر يونان وسفر أيوب " . ورغم هذه الأهمية الكبيرة لرواية موبي ديك فإنها لم تحظى بالاهتمام عند صدورها عام 1851 ، حيث وصفت بانها مزيج من الفشل ، كان ملفل في الثانية والثلاثين عندما صدرت موبي ديك يعيش مع زوجته وابنه في إحدى المزارع. وبعد مرور أربعين عاماً على صدورها لم يستطع الناشر بيع نسخ الطبعة الاولى التي بلغت ثلاثة الآف نسخة ، وتكرر الأمر مع روايته الأخرى " الجزر الوحشية " التي نشرت عام 1854 ، ومع روايته الثالثة البحار الوسيم ، وبسبب فشل رواياته قرر أن يتجه لكتابة الشعر ، ولم يحظ بالنجاح أيضاً ، فوجد نفسه يعيش في إحباط متواصل لتنهار حياته ، حيث تتوالى عليه الأزمات ، وليجبره الفقر على قبول وظيفة في دائرة الكمارك. وعندما توفى عام 1891 كان مجرد كاتب منسي لايتذكره أحد . فقد تطلب الأمر أكثر من قرن لكي تأخذ الرواية مكانتها الحقيقية وتصبح واحدة من أهم كلاسيكيات الادب العالمي وليعاد نشرها في طبعات كثيرة وتترجم الى أكثر من 60 لغة .
تبدأ رواية موبي ديك بـ"فصل في الاشتقاق "، وهي افتتاحية متميزة شاعت كأنها قول مأثور. يخبرنا ملفل إنها من إعداد معلم مسلول ، ونتبين إن المؤلف يحاول ان يثير القارئ منذ الصفحات الاولى.
بعدها نتعرف على البحار إسماعيل، الذي يريد أن يجرب حظه في إحدى سفن صيد الحيتان. لذلك يسافر من مانهاتن في نيويورك إلى ماساشوسيتس، ويصل في الليل إلى فندق في نيو بيدفورد. لكنه لا يجد سريراً فيضطر إلى النوم في سرير مشترك مع رجل غريب.
ينفر إسماعيل من ذلك الرجل الفظ، الذي يغطي الوشم جسمه، واسمه كيكيغ. ويعمل صياداً للحيتان بالرمح. غير إنه سرعان ما يرتاح له حين يراه طيباً ومرحاً. يتفق معه على السفر إلى نانتوكيت، مركز تجارة الحيتان، للبحث عن عمل. وهناك يوقع الاثنان على عقدين بالعمل في السفينة بيكود التي يقودها القبطان الغامض والشهير آهاب.
تبحر السفينة صباح يوم عيد الميلاد ، ويشعر إسماعيل بالقلق، عندما يشاهد قبل الإبحار بوقت قصير، قارباً يقف إلى جانب السفينة ويصعد منه رجال لم يستطع تمييزهم بسبب الضباب ثم لا يظهر أثر لهم! يتعرف الصيادون والبحارة على الكابتن الأول، ستاربك.. والثاني: ستاب.. والثالث: فلاسك. لكن القبطان آهاب لا يظهر للتعارف!
وعندما تدخل السفينة المياه الحارة، يظهر آهاب ويجمع البحارة ويحثهم بخطاب مثير، على تحقيق هدف الرحلة، وهو اصطياد الحوت الأبيض: موبي ديك، لأنه برأيه، الشر المتجسد ويجب تخليص الناس من شره.
تدور السفينة بيكود حول أفريقيا وتدخل مياه المحيط الهادي وتصادف سفناً أخرى لصيد الحيتان، فيستفسر آهاب باستمرار عن موبي ديك. وينهيه العراف غابريل في السفينة جيرابوم عن مطاردة موبي ديك. ويحذره من الموت الذي ينتظر كل من يحاول قتله.
بعدها تقابل بيكود سفينة صيد الحيتان الإنكليزية صموئيل اندرباي، ويخبر قبطانها بومر آهاب بأنه شاهد موبي ديك وحاول اصطياده فخسر ذراع يده اليمنى.. بعد ذلك تقترب بيكود من خط الاستواء وتقابل السفينتين راشيل وديلايت، والاثنتان واجهتا موبي ديك.
أخيراً يلمح آهاب الحوت، فتنزل قوارب الصيد وترميه بالرماح. يصيبه بعضها ، لكن الحوت لا يستسلم. تستمر المعركة ثلاثة أيام. وعندما تأتي اللحظة المناسبة ليرميه آهاب بالرمح المميت، يلتف حبل الرمح حول رقبته ويجره إلى الموت. ويحاول ستاربك إنقاذ بقية الصيادين.
ويعترض موبي ديك بالسفينة، ويحدث فجوة فيها، فتغرق وتُغرق معها بقية القوارب. يموت الجميع ما عدا إسماعيل .
هكذا يذهب القارئ في رحلة استكشاف للنفس البشرية. فالسفينة بيكود تبحر في أعماق المحيط ، ونحن القراء نبحر في أعماق أبطالها ، وإذ يقدم لنا ملفل صراع الثقافات بين البحارة وعاداتهم وتقاليدهم المختلفة ، فإنه انما يضع شخصياته في صراع مثلث: صراع مع الطبيعة وصراع مع الذات وصراع مع الإنسان. ثم يدفعها إلى التأمل في الإنسان والوجود والإيمان والخير والشر.
************
ما ذاك الرجل المضرج بالدم
مكبث لشكسبير
إن البحث عن الثأر وانتظار المصير المجهول التي اتسمت بها حكاية موبي ديك ، نجدها قريبة الشبه بمسرحية شكسبير الشهيرة مكبث حيث استعان هرمان ملفل بالتكنيك المسرحي الشكسبيري. واستخدم الرموز والاستعارات بكثافة، وعرضها بأسلوب يشد القارئ ويتركه في حالة تأمل عميق.
القانون الخفي الذي يحكم رواية ملفل هو القانون نفسه الذي يحكم مسرحيات شكسبير. يتنبأ البارسي للقبطان آهاب إن القنب قاتلة. يفسر آهاب النبوءة خطأ: يقول إن القنب يعني انه سيموت مشنوقاً، فيزداد جرأة في عرض البحر. لكنه يموت بحبل الرمح الذي يلتف على عنقه بينما يقذف النصل في جسم موبي ديك. يحدث الأمر نفسه مع مكبث؟ تتنبأ العرافات الثلاث إنه لن يقتل إلا حين تتحرك الغابات، فلا يتخيل في جنونه لحظة ان جيشاً مموهاً بالشجر قد يزحف على قلعته مثل غابة تتحرك!
يحضر "مكبث" في "موبي ديك" أكثر من مرة. هناك مشهد يكاد فيه أحد الضباط أن يقتل آهاب. ذلك يذكرنا بمكبث حين يقدم على قتل الملك. لكن الضابط يتراجع اذ يسمع آهاب يدمدم في المنام اسم الحوت موبي ديك الذي التهم ساقه عند ساحل اليابان حيث ما زال يطوف في مناماته.
لعل المقارنة بين شخصيتي آهاب وماكبث، تكشف لنا ما يدور من الصراعات بين أهواء النفس البشرية ونوازع الثأر .في موبي ديك يدور الصراع داخل نفس البحار آهاب ما يخلق لديه ذلك التوتر والتردد ، فيما نجد إن ما يحرك ماكبث ليس تردده أو أية صراعات داخلية. ما يحركه هو نزعة الشر التي إذ تدفع الإنسان الى القتل وإلى التعطش الى الدم.
إذ يقول ماكبث: " لقد خطوت في الدم بعيداً، فحتى لو لم أخض المزيد لكان النكوص مرهقاً كما المضيّ" . ونجد آهاب يقول في موبي ديك : " انا آت اليك بالشمس ، ضعوا النير فوق اعناق الامواج الاتية ، اجعلوها عربة مردفة ، ها انا اسوق البحر".
لم يعد في إمكان ماكبث أن يتراجع. ليس لأن الأقدار فرضت ذلك عليه، بل لأن تلك هي شيمة الرجال وآهاب لا يفوته ان يقول لبحارة سفينته انه لن يجرؤ على التراجع في مواجهة الحوت الابيض .
يكتب سومرست موم :" يمكن قراءة موبي ديك بأهتمام بالغ ، دون النظر الى ما تحمله أو مالاتحمله من مجازات ، ولااستطيع ان أكرر مرات ومرات ان رواية موبي ديك لاتقرأ للتعليم والتربية ، ولكن للمتعة والتسلية العقلية ، واذا وجدت انك لاتحصل منها على هذه المتعة ، فالاجدر بك الا تقراها على الاطلاق . .ترى هل كان برنادشو على حق حين قال ذات يوم :" منذ أن تعلم الإنسان الكتابة، لم يكتب مثل هذه الرواية ".
* عن حريدة المدى
توماس دي كيمبيس
مثل كثير من الناس كانت هناك كتب أدين لها بالفضل ، لأنها غيرت مسار حياتي ، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري أتسمت طبيعتي بالخجل ، وكنت أعاني من صعوبة التعرف على أصدقاء جدد ، ونادراً ما أتحدث مع أحد ، ولا أفعل ذلك إلا بصعوبة ، وتشاء الصدف أن يقع بيدي كتاب صغير الحجم مطبوع على ورق أسمر مثل معظم الكتب التي تسمى " شعبية " عنوانه " كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس " للاميركي ديل كارنيجي ، في تلك الأيام كان الكتاب يعد الاكثر مبيعاً ، حتى أن العديد من دور النشر تعيد طباعته باستمرار ، وكنت وأنا الصبي الصغير أسأل بيني وبين نفسي : هل يمكن لكتاب أن يجعل لك الكثير من الأصدقاء ؟ وحين سألت قريبي صاحب المكتبة ذات يوم عن الكتاب ، قال لي بلهجة ساخرة : هذه كتب بلا منفعة ، هدفها المال ، لم اقتنع بالحجة التي ساقها ، فكيف يمكن أن أقاوم كتاباً يمهد لي الطريق لأن يصبح لي أصدقاء وأوثر فيهم .
كانت أول نصيحة تعلمتها من مؤلف الكتاب " ديل كارنيجي " إنني اشتريت دفتر ملاحظات لأسجل به ما اشاهده كل يوم وما يمر بي من مواقف وما أقرأه في الكتب .، إذ يخبرنا كارينجي انه لكي تعيش حياتك بشكل حقيقي عليك ان تهتم بالآخرين . ينبغي أن تصغي اليهم وأن تكون سخياً في محبتك لهم . ويطلب منا أن نكون صادقين .نقرأ في سيرة ديل كارنيجي إنه ابن لمزارع فقير ، وكانت أمه تطمح أن يصبح إبنها كاهناً .كان اسمه الحقيقي ديل كارناجوي ، لكنه غير نطق اسمه : " كنت أريد تحسين حظوظي في الحياة " عمل وهو طالب كلية بائعاً جولاً ، وكان يقطع المسافات الطويلة على قدميه ليبيع الصابون ومنظفات المنازل ، وبعد أن أكمل كليته قرر أن يدرس الفنون الدرامية لكي يصبح ممثلا ، إلا ان مسيرته الفنية انتهت في دور صغير بمسرحية لاقت فشلاً كبيراً ، بعدها عمل بائعاً للسيارات المستعملة ، وفي هذا الوقت قرر أن يكتب عن الطريقة المثلى لكسب ود الناس ، فاستأجر غرفة صغيرة لإقامة دورات عن كيفية التأثير في الآخرين وكان يردد مقولة الفيلسوف الاميركي أيمرسون :" إفعل الشيء الذي تخاف أن تفعله ، وسيصبح موت الخوف عندئذ أمراً مؤكداً بصورة مطلقة " . يبدأ كتاب كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس ، بفصل طريف ومثير اسمه " إذا اردت جمع العسل لاتبدأ بحرق خلايا النحل " وهذه الفكرة يرجعها كارنيجي الى الرئيس الاميركي بنيامين فرانكلين الذي قال لمواطنيه في احدى خطبه :" عزمت على أن لا أتكلم بالسوء عن أي إنسان مهما كان " ، ومثلما يخبرنا ديل كارنيجي إن فكرة فولتير كانت تتلخص في أن " اي أبله يمكن أن ينتقد ويدين ويشكو . لكن لكي يكون المرء متفهما ، فان الأمر يقتضي شخصية متسامحة قوية وضبطاً للنفس " ويتبع هذه الفكرة بصفحات نابضة بالحيوية تعود الى الفيلسوف البريطاني توماس كارليل :" إن الرجل العظيم يظهر عظمته في الطريقة التي يعامل بها البسطاء " ..ويستخدم كارنيجي أمثلة من حياة مفكرين وفلاسفة كانوا يتصرفون بالطريقة التي يجب أن يتصرف بها الانسان ، لقد صرح وليم جيميس ذات يوم بان " أعمق مبدأ للطبيعة البشرية هي التلهف على أن تكون محل تقدير " ويسمي كارنيجي الاسلوب هذا بالاسلوب السقراطي ويصف الفيلسوف اليوناني سقراط بانه " فتى عجوز لامع " ، ويثني على سقراط لقدرته على إقناع الآخرين ، ويحاول كارنيجي الإستفادة من إسلوب سقراط في توجيه الأسئلة واستخراج المعرفة منها ، فقد كان سقراط يحاول أن يقدم لمستمعيه طريقة بسيطة تمكنهم من تمييز ما هو صحيح بانفسهم ، كان سقراط يصر أن بامكان أي شخص يملك عقلاً فضولياً أو سعي الى التدقيق في المعتقدات السائدة أن يبدأ محادثة مع شخص آخر في أحد شوارع المدينة بحيث يصل الى فكرة خلاقة .. ويخبرنا ديل كارنيجي إنه من الممكن التوصل الى تفاهم مع الآخرين دون الإغراق في التفلسف .
كان من عادة سقراط ان يبدأ اسئلته بالافصاح عن جهلة العميق بالموضوع ، حتى يجذب الآخر الى حلبة للمناقشة ، ويحول بصره الى الصعوبة الحقيقية في الموضوع ثم يدخل الى عمق الموضوع ، وكذا كان يشجع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة الى كرسي المعلم ، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على ان يجعل المحاور يصل بنفسه الى الحقيقة .وقد رأى سقراط إن الفضائل تعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة ، وإذا كان الشخص يجب أن يعلن انه لايمكن ان يلم بكل جوانب الحقيقة وانه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم ، فإن الفضيلة تشير الى وعي الانسان ، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة ، وهذا هو جوهر الفضيلة: "أن الفضيلة ما هي إلا دعوى دائبة لإعمال العقل."
كان سقراط يقول: "لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئا ." فالفلسفة لا تتقدم إلا عن طريق تبني منهج الشك والبحث الدائم.
إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الانسان يتعلم الشك، خصوصاً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها. ولهذا قال سقراط: "إعرف نفسك".وهي العبارة التي حاول كارينجي ان يعيد صياغتها فقد كان يعتقد إن المرء يتعين عليه أن يؤمن بقدراته ، لكي يجعل الآخرين يثقون بهذه القدرات .
في يومياته التي نشرت بعد وفاته يخبرنا ديل كارنيجي إن ثلاثة أشخاص لعبوا دورا كبيرا في بناء شخصيته ابراهام لنكولن وغاندي والكاتب الاميركي هيرمان ميلفيل :" كتاب موبي ديك لميلفيل لايمكن أن يخرج إلا من عبقرية خارقة ، إنه سفينة صوفية أبحرت بها ، عميقة بشكل لايدرك ، من منا لم يمر بتجربة إسماعيل ، من منا لم يكمن عبدا لرغباته ونزواته " .
يقدم أمبرتو إيكو نصيحة للكتاب : " عليك أن تشكل القارئ الذي تريده لكل قصة تكتبها".. وقد اكتشفت أنا بعد سنوات إن بعض الكتب أعادت تشكيل حياتي بصورة أفضل .. ويخبرنا ايكو انه في صباه اطلع على بعض كتب ديل كارنيجي ورغم انه وجدها بسيطة وساذجة أحيانا ، إلا إنها ألهمته بافكار كثيرة خصوصاً ان مؤلفها استطاع ان يقوم بسياحة جميلة في أفكار الفلاسفة الاخلاقيين .
يقول أفلاطون إن أغلب الناس ليسوا مرتاحين فقط لجهلهم وإنما يغضبون بشدة ممن يشير إليه. يكتب ديل كارنيجي في إحدى وصاياه إن " الامر سيكون جيداً لو تحدثت مع الآخرين عن الأشياء التي لا تعرفها " .
************
أيها الكتاب إنك لتكذب، الحق أيتها الكتب أنه عليك أن تعرفي حدّك، أنتِ تعطينا الكلمات والحقائق العارية. ولكن، نحن نملؤها بالأفكار.
هرمان ملفل
كيف أَصبحتَ كاتباً ؟ يجيب وليام فوكنر على هذا السؤال بعبارة قصيرة : عندما قرأت موبي ديك.
كان فوكنر في السابعة والعشرين من عمره عام 1924 ، يمارس عدداً من الأعمال من اجل توفير قليل من المال ، وحين قرر أن يكتب ذات يوم رواية ، عرضها على صديقه الروائي شيرود اندرسن ، وبعد ثلاثة أسابيع اخبره اندرسن انه سيعقد معه صفقة تجارية وسيمنحه اربعمائة دولار عن كل رواية يكتبها ، يستغرب فوكنر من صديقه الذي سيمنحه كل هذه الاموال لمجرد انه سيجلس اربع ساعات في اليوم وراء الآلة الكاتبة.
لكنه بعد نشر روايته الثانية البعوض يدرك إن المال لوحده لايصنع كاتباً يردد فوكنر دائما إن " موبي ديك " هي الرواية التي كان يتمنى أن يكون كاتبها ويصرح :" إن نهاية آهاب – الشخصية الرئيسية في موبي ديك – صارت نوعاً من الجلجلة ( مثارا للاحزان ) بالنسبة لقلب غارق في الحطام وعاجز عن الحركة والتحول " .
في الخامسة عشرة من عمري قرأت موبي ديك للمرة الاولى بنسخة صغيرة صادرة عن سلسلة كتابي ، وبين عملي في المكتبة وذهابي الى المدرسة ، واصلت قراءة المزيد من الصفحات ، وكنت أتلهف لمعرفة ماذا سيحل لآهاب وسفينته واين ستنتهي رحلة البحث عن الحوت الذي يريد اهاب الثأر منه ، وماذا سيفعل البحار المتجول اسماعيل . وفي البيت كنت أنزوي جانباً ، لقد وقعت في حب الرواية ، وعشت اياماً وأنا أقرأ عن اناس يعيشون في مكان آخر وزمن بعيد .
"سترون أيها القراء ، إن هذا الحفار النقاب ، إن تلك الأرضة النفاذة التي اسميها مساعد الخازن المساعد ، قد تغلغل في أقبية المكتبات وسراديبها الطويلة ، ملتقطاً الاشارات المتناثرة الى الحيتان ايّان وجودها ، من كتب دينية أو دنيوية . لذلك ليس عليكم أن تأخذوا هذا الخليط من الأقوال وتعدوه في جميع الاحوال كتاباً موثوقاً معتمداً" . هكذا يكتب ملفل في الصفحات الاولى من روايته ، وبالتأكيد إن هذا الخليط من الأقوال سينتج لنا كتاباً عظيماً يقول عنه الروائي نجيب محفوظ :" هناك أعمال عزيزة على نفسي كنت أقرأها مرتين وثلاثة مثل موبي ديك".
هل يمكن تعريف موبي ديك ، يكتب (هارولد بلوم) في كتابه " لماذا نقرأ" إن " موبي ديك تمثل النموذج الروائي للعظمة الأميركية ، من أجل انجاز رفيع وعميق ، وعلى الرغم من أن ملفل مدين بالكثير لشكسبير ، فإن موبي ديك هي عمل أصيل لصورة فذة ، هي كتابنا القومي عن سفر يونان وسفر أيوب " . ورغم هذه الأهمية الكبيرة لرواية موبي ديك فإنها لم تحظى بالاهتمام عند صدورها عام 1851 ، حيث وصفت بانها مزيج من الفشل ، كان ملفل في الثانية والثلاثين عندما صدرت موبي ديك يعيش مع زوجته وابنه في إحدى المزارع. وبعد مرور أربعين عاماً على صدورها لم يستطع الناشر بيع نسخ الطبعة الاولى التي بلغت ثلاثة الآف نسخة ، وتكرر الأمر مع روايته الأخرى " الجزر الوحشية " التي نشرت عام 1854 ، ومع روايته الثالثة البحار الوسيم ، وبسبب فشل رواياته قرر أن يتجه لكتابة الشعر ، ولم يحظ بالنجاح أيضاً ، فوجد نفسه يعيش في إحباط متواصل لتنهار حياته ، حيث تتوالى عليه الأزمات ، وليجبره الفقر على قبول وظيفة في دائرة الكمارك. وعندما توفى عام 1891 كان مجرد كاتب منسي لايتذكره أحد . فقد تطلب الأمر أكثر من قرن لكي تأخذ الرواية مكانتها الحقيقية وتصبح واحدة من أهم كلاسيكيات الادب العالمي وليعاد نشرها في طبعات كثيرة وتترجم الى أكثر من 60 لغة .
تبدأ رواية موبي ديك بـ"فصل في الاشتقاق "، وهي افتتاحية متميزة شاعت كأنها قول مأثور. يخبرنا ملفل إنها من إعداد معلم مسلول ، ونتبين إن المؤلف يحاول ان يثير القارئ منذ الصفحات الاولى.
بعدها نتعرف على البحار إسماعيل، الذي يريد أن يجرب حظه في إحدى سفن صيد الحيتان. لذلك يسافر من مانهاتن في نيويورك إلى ماساشوسيتس، ويصل في الليل إلى فندق في نيو بيدفورد. لكنه لا يجد سريراً فيضطر إلى النوم في سرير مشترك مع رجل غريب.
ينفر إسماعيل من ذلك الرجل الفظ، الذي يغطي الوشم جسمه، واسمه كيكيغ. ويعمل صياداً للحيتان بالرمح. غير إنه سرعان ما يرتاح له حين يراه طيباً ومرحاً. يتفق معه على السفر إلى نانتوكيت، مركز تجارة الحيتان، للبحث عن عمل. وهناك يوقع الاثنان على عقدين بالعمل في السفينة بيكود التي يقودها القبطان الغامض والشهير آهاب.
تبحر السفينة صباح يوم عيد الميلاد ، ويشعر إسماعيل بالقلق، عندما يشاهد قبل الإبحار بوقت قصير، قارباً يقف إلى جانب السفينة ويصعد منه رجال لم يستطع تمييزهم بسبب الضباب ثم لا يظهر أثر لهم! يتعرف الصيادون والبحارة على الكابتن الأول، ستاربك.. والثاني: ستاب.. والثالث: فلاسك. لكن القبطان آهاب لا يظهر للتعارف!
وعندما تدخل السفينة المياه الحارة، يظهر آهاب ويجمع البحارة ويحثهم بخطاب مثير، على تحقيق هدف الرحلة، وهو اصطياد الحوت الأبيض: موبي ديك، لأنه برأيه، الشر المتجسد ويجب تخليص الناس من شره.
تدور السفينة بيكود حول أفريقيا وتدخل مياه المحيط الهادي وتصادف سفناً أخرى لصيد الحيتان، فيستفسر آهاب باستمرار عن موبي ديك. وينهيه العراف غابريل في السفينة جيرابوم عن مطاردة موبي ديك. ويحذره من الموت الذي ينتظر كل من يحاول قتله.
بعدها تقابل بيكود سفينة صيد الحيتان الإنكليزية صموئيل اندرباي، ويخبر قبطانها بومر آهاب بأنه شاهد موبي ديك وحاول اصطياده فخسر ذراع يده اليمنى.. بعد ذلك تقترب بيكود من خط الاستواء وتقابل السفينتين راشيل وديلايت، والاثنتان واجهتا موبي ديك.
أخيراً يلمح آهاب الحوت، فتنزل قوارب الصيد وترميه بالرماح. يصيبه بعضها ، لكن الحوت لا يستسلم. تستمر المعركة ثلاثة أيام. وعندما تأتي اللحظة المناسبة ليرميه آهاب بالرمح المميت، يلتف حبل الرمح حول رقبته ويجره إلى الموت. ويحاول ستاربك إنقاذ بقية الصيادين.
ويعترض موبي ديك بالسفينة، ويحدث فجوة فيها، فتغرق وتُغرق معها بقية القوارب. يموت الجميع ما عدا إسماعيل .
هكذا يذهب القارئ في رحلة استكشاف للنفس البشرية. فالسفينة بيكود تبحر في أعماق المحيط ، ونحن القراء نبحر في أعماق أبطالها ، وإذ يقدم لنا ملفل صراع الثقافات بين البحارة وعاداتهم وتقاليدهم المختلفة ، فإنه انما يضع شخصياته في صراع مثلث: صراع مع الطبيعة وصراع مع الذات وصراع مع الإنسان. ثم يدفعها إلى التأمل في الإنسان والوجود والإيمان والخير والشر.
************
ما ذاك الرجل المضرج بالدم
مكبث لشكسبير
إن البحث عن الثأر وانتظار المصير المجهول التي اتسمت بها حكاية موبي ديك ، نجدها قريبة الشبه بمسرحية شكسبير الشهيرة مكبث حيث استعان هرمان ملفل بالتكنيك المسرحي الشكسبيري. واستخدم الرموز والاستعارات بكثافة، وعرضها بأسلوب يشد القارئ ويتركه في حالة تأمل عميق.
القانون الخفي الذي يحكم رواية ملفل هو القانون نفسه الذي يحكم مسرحيات شكسبير. يتنبأ البارسي للقبطان آهاب إن القنب قاتلة. يفسر آهاب النبوءة خطأ: يقول إن القنب يعني انه سيموت مشنوقاً، فيزداد جرأة في عرض البحر. لكنه يموت بحبل الرمح الذي يلتف على عنقه بينما يقذف النصل في جسم موبي ديك. يحدث الأمر نفسه مع مكبث؟ تتنبأ العرافات الثلاث إنه لن يقتل إلا حين تتحرك الغابات، فلا يتخيل في جنونه لحظة ان جيشاً مموهاً بالشجر قد يزحف على قلعته مثل غابة تتحرك!
يحضر "مكبث" في "موبي ديك" أكثر من مرة. هناك مشهد يكاد فيه أحد الضباط أن يقتل آهاب. ذلك يذكرنا بمكبث حين يقدم على قتل الملك. لكن الضابط يتراجع اذ يسمع آهاب يدمدم في المنام اسم الحوت موبي ديك الذي التهم ساقه عند ساحل اليابان حيث ما زال يطوف في مناماته.
لعل المقارنة بين شخصيتي آهاب وماكبث، تكشف لنا ما يدور من الصراعات بين أهواء النفس البشرية ونوازع الثأر .في موبي ديك يدور الصراع داخل نفس البحار آهاب ما يخلق لديه ذلك التوتر والتردد ، فيما نجد إن ما يحرك ماكبث ليس تردده أو أية صراعات داخلية. ما يحركه هو نزعة الشر التي إذ تدفع الإنسان الى القتل وإلى التعطش الى الدم.
إذ يقول ماكبث: " لقد خطوت في الدم بعيداً، فحتى لو لم أخض المزيد لكان النكوص مرهقاً كما المضيّ" . ونجد آهاب يقول في موبي ديك : " انا آت اليك بالشمس ، ضعوا النير فوق اعناق الامواج الاتية ، اجعلوها عربة مردفة ، ها انا اسوق البحر".
لم يعد في إمكان ماكبث أن يتراجع. ليس لأن الأقدار فرضت ذلك عليه، بل لأن تلك هي شيمة الرجال وآهاب لا يفوته ان يقول لبحارة سفينته انه لن يجرؤ على التراجع في مواجهة الحوت الابيض .
يكتب سومرست موم :" يمكن قراءة موبي ديك بأهتمام بالغ ، دون النظر الى ما تحمله أو مالاتحمله من مجازات ، ولااستطيع ان أكرر مرات ومرات ان رواية موبي ديك لاتقرأ للتعليم والتربية ، ولكن للمتعة والتسلية العقلية ، واذا وجدت انك لاتحصل منها على هذه المتعة ، فالاجدر بك الا تقراها على الاطلاق . .ترى هل كان برنادشو على حق حين قال ذات يوم :" منذ أن تعلم الإنسان الكتابة، لم يكتب مثل هذه الرواية ".
* عن حريدة المدى