أريد أن أذهب مع ماما الحاجة. كل أطفال العائلة يذهبون. قلت.
قال أبي: لا أقبل أن تفعل ابنتي مايفعله الآخرون، بسبب تقاليد عقيمة. هل سمعت عن شعب يمضي إجازة العيد في المقابر، بدلا من الشواطئ والحدائق؟
قلت: هذا ليس العيد.
قالت جدتي: نذهب لنقلل الوحشة عن أحبابنا، ونتعظ من غرور الدنيا. تنورت الناس كثيرا. أين نحن الآن من المبيت في المقابر ؟ كنا نعيش في الحوش أربعين يوما، نستقبل المعزين، ونستعين بالمصابيح في الليل ، حتى نؤنس الميت ويعتاد على وحدته.
قال أبي: يا أمي، أنت امرأة مؤمنة. هل يستطيع أحد أن يؤنس ميتاً؟
ذهب إلى ربه ,إلى ملائكته، وعمله، وحسابه، إلى يوم الدين.
قالت: أيام وراحت لحالها. كان الجهل مسيطراً، والعادات تحكم الجميع. هو يوم يبدأ مع طلعة الفجر، وينتهي آخر النهار. تجتمع فيه الأسرة كلها، ، نتذكر فيه الأحباب. نتصدق، نقرأ القرآن على أمواتنا، وعلى أموات المسلمين أجمعين ، اتركها تذهب هذه المرة، دعها تعرف.
قال: يذهب القرآن إلى الشلال يا أمي.
جلجلت ضحكتها قائلة: أعرف أنكم ستقذفون بي إلى الحفرة، ولاتعودون إليها مرة أخرى. الميت يسمع حتى آخر الدعسات.
قالت عمتي فايزة: هذا هو رزق خلفة البنات. البنات يحافظن على الزيارة طالما كن على قيد الحياة.
ردد أبي بصوت منخفض: نعم ياسيدتي حافظات العهد.
قلت: ماذا تقول يا أبي؟
قال: لا أريد لك أن تنقلي الواقع على حاله، أريد منك ثورة على هذا العالم.لا مقابر،لا ملابس سوداء، لا حزن أبديا. الحياة جميلة، وتستحق أن تعاش.
قالت جدتي: اتركها تعرف. ستكون ابنتك دائماً.
هز رأسه مبتسما، وسمعته يقول: أعرف.
قالت: هى من تختار قدرها.
قام أبي مستسلماً، وتركني في بيت جدي، وقبل أن يغلق الباب خلفه سمع صرخات فرحتنا، العامرة بالبهجة. هز رأسه، ومضى.
لم استطع الاستغراق في النوم، كلما غفوت، خشيت أن يظهر النهار، ويرحلون دوني. سمعت دعسات تمضي متباطئة، مددت يدي أتوسل كي يعودوا، وبكيت، لكزتني شادية ابنة عمتي، قائلة نامي، اقترب الفجر.
دب النشاط في البيت ، فاحت رائحة الطعمية المقلية من المطبخ، غطى صوت وابور الجاز على أصوات تحضير الطعام الطازج. والبيض يبقبق في قدر كبير فوق البوتجاز. لمحت صابرين الشغالة، تحبك المفرش فوق سلال الشريك وقرص الرحمة، وهى ترفع كل سلة فوق رأس إحدى الخادمات، وسمعت صوت جلبة، ورأيت من النافذة السيارات، وهى تصطف، حاملة الأقارب في انتظار نزول جدتي.وصوتها يجلجل :
لا تنسوا الورد.
نزلت مع بنات عماتي ركضاً فوق الدرج. قفزنا إلى داخل السيارة، ورحنا نغني في الطريق:
ياسواق يا شاطر ودينا القناطر. يا سواق يابليد ودينا الصعيد
قالت عمتي زينب وهى تضحك: " اللي اختشوا ماتوا، هى دي رحلة؟ دي القرافة!".
ضحكنا. وقلنا في صوت واحد:" دي طلعة رجب".
مازالت غبشة نهار الشتاء تخفي المباني، والناس، والسيارات. أراهم يتحركون مثل أشباح بعيدة، حتى اختفت المدينة ، التى تزيح النعاس، وهى تتكتك بأصوات فتح أبواب المحلات، ونوافذ البيوت، وبأجراس عربات الحنطور، وأبواق الملاكي. ظهرت المآذن الكثيرة المتجاورة، في القاهرة القديمة، عرفت أننا على وشك الوصول إلى منطقة الإمام الشافعي. فقد زرت آثار مقابر عائلة محمد على مع أبي في حوش الباشا من قبل، وبهرتني الرسوم والنقوش.أعشق هذه المنطقة، أعرفها جيداً، بركة الفيل، والمثلث والسلطان حسن، ما أجمل القاهرة.
ازدحم الطريق، وراحت السيارة تمضي بطيئة، طابور طويل، يبدو كأن لا نهاية له. على جانبيه باعة يبيعون زهوراً، معظمها من اللون الأصفر، وبعض الورود البيضاء والحمراء، وسعف نخل أخضر، يمدون أياديهم لاقتناص زبون. لايكتفون بالنقود، ويطالبون بالرحمة، يعطيهم البعض، ويقول آخرون: لم نفتح بعد.
قلت: كل هؤلاء ذاهبون إلى المقابر؟
قال السائق: الحمد لله أننا سرقنا النهار. ماذا كنا نفعل لو كنا تأخرنا قليلاً؟
ازدادت الطرق التواءً، انقبض صدري، وأنا أسمع صرخات صادرة من سيارة عابرة، قالت شادية:
ميت جديد.لا حول ولا قوة إلا بالله. الفاتحة.
صادفنا أسراباً من النساء، بأرديتهن السوداء، يدخلن إلى الأحواش المجاورة، أو يعبرننا مترجلات، يحملن السلال فوق رءوسهن، ويمسكن الكثير من الأطفال في أياديهن، حتى توقفت السيارات، أمام باب حوش واسع، تظلله أشجار عالية، رفعت عيني استطلع مداها.
ترجلت ، وأنا امسح الأفق أمامي؛ أبواب متراصة إلى مالا نهاية, قباب ومآذن، وأتربة كثيرة تملأ الجو، وذباب يطن. هل هذا ما أردت أن أراه؟ ماذا لو قام كل هؤلاء؟ ياإلهى. طردت الفكرة بسرعة،
ورددت السلام وراءهم ، قبل أن أعبر العتبة، ورحت أقرأ الفاتحة كما فعلوا، وكما أوصتني جدتي.
دخلت إلى الحوش متوجسة قليلا، ليس من الموتى، فقد عرفت اللحود صغيرة في المقابر القريبة من بيتنا، في مصراتة، لكن من رهبة ما. بحثت بعيني عن المقامات، لم أجدها. رأيت مصاطب عريضة وقد اصطفت تحت الشجر، في الهواء الطلق، جلست جدتي فوق إحداها، وهى تعطي تعليماتها بدخول السلال إلى الغرفة ، ربما هى وراء هذا الباب، قمت لاستطلع الأمر، دخلت وراء الخادمات، لم أجد في الغرفة أي شىء، مجرد مقاعد خشبية خفيفة، ينقلونها إلى الحوش في الخارج . تأملت المكان؛ هل يكون هذا هو مكان نوم جدتي وأقربائها؟ أين الصالون، الذى كانت جدتي تحكي عنه؟ لم تقل لنا إن كانت هناك أسّرة. فيما مضى.
عدت وقد هدأ المعسكر، وبدأت التلاوة، الكل صامت. أين الموتى؟
أعرف أن مقابر القاهرة مختلفة عن كل المقابر التى رأيتها من قبل في القرى، وفي ليبيا، وفي الأسكندرية، وفي كل مكان ذهبت إليه.أعرف أنها أرض رملية تحتفظ بالجثث طويلاً، وأن القاهريين يحافظون على الكثير من تقاليد الموت الفرعونية. وأن أقراص الرحمة خبزت على شكل قرص الشمس الإله رع، وأنها هى نفسها ما كان الفراعنة يقدمونها قربانا للإله. لكن أين الموتى؟
توالى دخول المقرئين. أحب التلاوة، وأعشق الأصوات الجميلة التى يذيعها الراديو في الصباح الباكر.أسمعها أثناء الاستعداد للخروج إلى المدرسة.
راحت أصواتهم تتقاطع في متتالية متداخلة، وكأنهم يغنون في كورس المدرسة، أو الأوبرا. لم أسمع هذا من قبل . كنت أظنه فناً غربياً فحسب، تعالى صوت عمتي فايزة التي تبكي زوجها المتوفى منذ عشر سنوات، وبكت جدتي أختها سنية. وزوجة عمي ابنها هانئ. تقاطرت دموع كثيرة، أسالت الدمع الغزير من عيني. ثم توقفت التلاوة. وبقدرة قادرمسح الجميع دموعهم ، فجفت فجأة كما انهمرت فجأة. ساد الهرج عند فتح السلال. انزرع عشرات الأطفال أمام باب الحوش يقولون:
رحمة ياست.
قالت عمتي سلوى: على مهل .مازال النهار طويلاً.
وضعوا الطعام أمامنا، وراحوا يتناقشون في جودة القرص التى خبزوها بالأمس، والشريك الذى جاء خصيصاً من مخبز سميراميس.
تعالت الضحكات والنوادر، طالب الأطفال بالنقود للذهاب إلى المراجيح، وأخذوها وهم يركضون.
تساءلت: مراجيح هنا؟
قالت عمتي زينب: خذيها ياشادية.
خرجنا إلى ممرات متشابهة، وأفضى الطريق الضيق الذى دخلناه إلى ساحة عريضة، اصطف بها باعة جائلون، يبيعون ألعابا ملونة من البلاستيك، زمامير وطراطير،غزل بنات، وفشارا، وجلست النسوة على الأرض أمام صوان من الحلوى الملونة، يبعدن الذباب من فوقها، ثم ظهرت عن بعد عربة مراجيح كبيرة ومن ورائها اصطفت مراجيح أصغر، وتراست الدراجات للإيجار، ثم جاء صوت الأراجوز. قلت لنفسي؛ هذا مولد بالكامل. وشادية تجذبني نحو بيانولا يقف وراءها رجل يوناني عجوز.
دفعنا له قرش صاغ، ودخلنا تحت الستارة، ثم وقفنا أمام الأراجوز والبت اللى اسمها كركليوز، وكاد أن يدهسنا حصان، ونحن نعبر الطريق إلى حيث رجل طويل، يقف فوق سيقان خشب عالية ويرقص، وربحنا كرة من المطاط، من ضرب الطارة، ونسينا أمر الأموات تماماً، حتى عدنا إلى الحوش.
قالت عمتي فايزة: أين كنتما طوال النهار؟
جلسنا نلهث نريد الماء، بعد أن كشفت الشمس عن وجودها القوي.لم ترو عطشنا زجاجات السينالكو الملونة التي عبيناها عباً.
قالت جدتي: ماذا سنفعل في حر جهنم؟
قلت: أين الأموات؟
قالوا ضاحكين في صوت واحد: تحت الكرسي الذى تجلسين فوقه.
قال أبي: لا أقبل أن تفعل ابنتي مايفعله الآخرون، بسبب تقاليد عقيمة. هل سمعت عن شعب يمضي إجازة العيد في المقابر، بدلا من الشواطئ والحدائق؟
قلت: هذا ليس العيد.
قالت جدتي: نذهب لنقلل الوحشة عن أحبابنا، ونتعظ من غرور الدنيا. تنورت الناس كثيرا. أين نحن الآن من المبيت في المقابر ؟ كنا نعيش في الحوش أربعين يوما، نستقبل المعزين، ونستعين بالمصابيح في الليل ، حتى نؤنس الميت ويعتاد على وحدته.
قال أبي: يا أمي، أنت امرأة مؤمنة. هل يستطيع أحد أن يؤنس ميتاً؟
ذهب إلى ربه ,إلى ملائكته، وعمله، وحسابه، إلى يوم الدين.
قالت: أيام وراحت لحالها. كان الجهل مسيطراً، والعادات تحكم الجميع. هو يوم يبدأ مع طلعة الفجر، وينتهي آخر النهار. تجتمع فيه الأسرة كلها، ، نتذكر فيه الأحباب. نتصدق، نقرأ القرآن على أمواتنا، وعلى أموات المسلمين أجمعين ، اتركها تذهب هذه المرة، دعها تعرف.
قال: يذهب القرآن إلى الشلال يا أمي.
جلجلت ضحكتها قائلة: أعرف أنكم ستقذفون بي إلى الحفرة، ولاتعودون إليها مرة أخرى. الميت يسمع حتى آخر الدعسات.
قالت عمتي فايزة: هذا هو رزق خلفة البنات. البنات يحافظن على الزيارة طالما كن على قيد الحياة.
ردد أبي بصوت منخفض: نعم ياسيدتي حافظات العهد.
قلت: ماذا تقول يا أبي؟
قال: لا أريد لك أن تنقلي الواقع على حاله، أريد منك ثورة على هذا العالم.لا مقابر،لا ملابس سوداء، لا حزن أبديا. الحياة جميلة، وتستحق أن تعاش.
قالت جدتي: اتركها تعرف. ستكون ابنتك دائماً.
هز رأسه مبتسما، وسمعته يقول: أعرف.
قالت: هى من تختار قدرها.
قام أبي مستسلماً، وتركني في بيت جدي، وقبل أن يغلق الباب خلفه سمع صرخات فرحتنا، العامرة بالبهجة. هز رأسه، ومضى.
لم استطع الاستغراق في النوم، كلما غفوت، خشيت أن يظهر النهار، ويرحلون دوني. سمعت دعسات تمضي متباطئة، مددت يدي أتوسل كي يعودوا، وبكيت، لكزتني شادية ابنة عمتي، قائلة نامي، اقترب الفجر.
دب النشاط في البيت ، فاحت رائحة الطعمية المقلية من المطبخ، غطى صوت وابور الجاز على أصوات تحضير الطعام الطازج. والبيض يبقبق في قدر كبير فوق البوتجاز. لمحت صابرين الشغالة، تحبك المفرش فوق سلال الشريك وقرص الرحمة، وهى ترفع كل سلة فوق رأس إحدى الخادمات، وسمعت صوت جلبة، ورأيت من النافذة السيارات، وهى تصطف، حاملة الأقارب في انتظار نزول جدتي.وصوتها يجلجل :
لا تنسوا الورد.
نزلت مع بنات عماتي ركضاً فوق الدرج. قفزنا إلى داخل السيارة، ورحنا نغني في الطريق:
ياسواق يا شاطر ودينا القناطر. يا سواق يابليد ودينا الصعيد
قالت عمتي زينب وهى تضحك: " اللي اختشوا ماتوا، هى دي رحلة؟ دي القرافة!".
ضحكنا. وقلنا في صوت واحد:" دي طلعة رجب".
مازالت غبشة نهار الشتاء تخفي المباني، والناس، والسيارات. أراهم يتحركون مثل أشباح بعيدة، حتى اختفت المدينة ، التى تزيح النعاس، وهى تتكتك بأصوات فتح أبواب المحلات، ونوافذ البيوت، وبأجراس عربات الحنطور، وأبواق الملاكي. ظهرت المآذن الكثيرة المتجاورة، في القاهرة القديمة، عرفت أننا على وشك الوصول إلى منطقة الإمام الشافعي. فقد زرت آثار مقابر عائلة محمد على مع أبي في حوش الباشا من قبل، وبهرتني الرسوم والنقوش.أعشق هذه المنطقة، أعرفها جيداً، بركة الفيل، والمثلث والسلطان حسن، ما أجمل القاهرة.
ازدحم الطريق، وراحت السيارة تمضي بطيئة، طابور طويل، يبدو كأن لا نهاية له. على جانبيه باعة يبيعون زهوراً، معظمها من اللون الأصفر، وبعض الورود البيضاء والحمراء، وسعف نخل أخضر، يمدون أياديهم لاقتناص زبون. لايكتفون بالنقود، ويطالبون بالرحمة، يعطيهم البعض، ويقول آخرون: لم نفتح بعد.
قلت: كل هؤلاء ذاهبون إلى المقابر؟
قال السائق: الحمد لله أننا سرقنا النهار. ماذا كنا نفعل لو كنا تأخرنا قليلاً؟
ازدادت الطرق التواءً، انقبض صدري، وأنا أسمع صرخات صادرة من سيارة عابرة، قالت شادية:
ميت جديد.لا حول ولا قوة إلا بالله. الفاتحة.
صادفنا أسراباً من النساء، بأرديتهن السوداء، يدخلن إلى الأحواش المجاورة، أو يعبرننا مترجلات، يحملن السلال فوق رءوسهن، ويمسكن الكثير من الأطفال في أياديهن، حتى توقفت السيارات، أمام باب حوش واسع، تظلله أشجار عالية، رفعت عيني استطلع مداها.
ترجلت ، وأنا امسح الأفق أمامي؛ أبواب متراصة إلى مالا نهاية, قباب ومآذن، وأتربة كثيرة تملأ الجو، وذباب يطن. هل هذا ما أردت أن أراه؟ ماذا لو قام كل هؤلاء؟ ياإلهى. طردت الفكرة بسرعة،
ورددت السلام وراءهم ، قبل أن أعبر العتبة، ورحت أقرأ الفاتحة كما فعلوا، وكما أوصتني جدتي.
دخلت إلى الحوش متوجسة قليلا، ليس من الموتى، فقد عرفت اللحود صغيرة في المقابر القريبة من بيتنا، في مصراتة، لكن من رهبة ما. بحثت بعيني عن المقامات، لم أجدها. رأيت مصاطب عريضة وقد اصطفت تحت الشجر، في الهواء الطلق، جلست جدتي فوق إحداها، وهى تعطي تعليماتها بدخول السلال إلى الغرفة ، ربما هى وراء هذا الباب، قمت لاستطلع الأمر، دخلت وراء الخادمات، لم أجد في الغرفة أي شىء، مجرد مقاعد خشبية خفيفة، ينقلونها إلى الحوش في الخارج . تأملت المكان؛ هل يكون هذا هو مكان نوم جدتي وأقربائها؟ أين الصالون، الذى كانت جدتي تحكي عنه؟ لم تقل لنا إن كانت هناك أسّرة. فيما مضى.
عدت وقد هدأ المعسكر، وبدأت التلاوة، الكل صامت. أين الموتى؟
أعرف أن مقابر القاهرة مختلفة عن كل المقابر التى رأيتها من قبل في القرى، وفي ليبيا، وفي الأسكندرية، وفي كل مكان ذهبت إليه.أعرف أنها أرض رملية تحتفظ بالجثث طويلاً، وأن القاهريين يحافظون على الكثير من تقاليد الموت الفرعونية. وأن أقراص الرحمة خبزت على شكل قرص الشمس الإله رع، وأنها هى نفسها ما كان الفراعنة يقدمونها قربانا للإله. لكن أين الموتى؟
توالى دخول المقرئين. أحب التلاوة، وأعشق الأصوات الجميلة التى يذيعها الراديو في الصباح الباكر.أسمعها أثناء الاستعداد للخروج إلى المدرسة.
راحت أصواتهم تتقاطع في متتالية متداخلة، وكأنهم يغنون في كورس المدرسة، أو الأوبرا. لم أسمع هذا من قبل . كنت أظنه فناً غربياً فحسب، تعالى صوت عمتي فايزة التي تبكي زوجها المتوفى منذ عشر سنوات، وبكت جدتي أختها سنية. وزوجة عمي ابنها هانئ. تقاطرت دموع كثيرة، أسالت الدمع الغزير من عيني. ثم توقفت التلاوة. وبقدرة قادرمسح الجميع دموعهم ، فجفت فجأة كما انهمرت فجأة. ساد الهرج عند فتح السلال. انزرع عشرات الأطفال أمام باب الحوش يقولون:
رحمة ياست.
قالت عمتي سلوى: على مهل .مازال النهار طويلاً.
وضعوا الطعام أمامنا، وراحوا يتناقشون في جودة القرص التى خبزوها بالأمس، والشريك الذى جاء خصيصاً من مخبز سميراميس.
تعالت الضحكات والنوادر، طالب الأطفال بالنقود للذهاب إلى المراجيح، وأخذوها وهم يركضون.
تساءلت: مراجيح هنا؟
قالت عمتي زينب: خذيها ياشادية.
خرجنا إلى ممرات متشابهة، وأفضى الطريق الضيق الذى دخلناه إلى ساحة عريضة، اصطف بها باعة جائلون، يبيعون ألعابا ملونة من البلاستيك، زمامير وطراطير،غزل بنات، وفشارا، وجلست النسوة على الأرض أمام صوان من الحلوى الملونة، يبعدن الذباب من فوقها، ثم ظهرت عن بعد عربة مراجيح كبيرة ومن ورائها اصطفت مراجيح أصغر، وتراست الدراجات للإيجار، ثم جاء صوت الأراجوز. قلت لنفسي؛ هذا مولد بالكامل. وشادية تجذبني نحو بيانولا يقف وراءها رجل يوناني عجوز.
دفعنا له قرش صاغ، ودخلنا تحت الستارة، ثم وقفنا أمام الأراجوز والبت اللى اسمها كركليوز، وكاد أن يدهسنا حصان، ونحن نعبر الطريق إلى حيث رجل طويل، يقف فوق سيقان خشب عالية ويرقص، وربحنا كرة من المطاط، من ضرب الطارة، ونسينا أمر الأموات تماماً، حتى عدنا إلى الحوش.
قالت عمتي فايزة: أين كنتما طوال النهار؟
جلسنا نلهث نريد الماء، بعد أن كشفت الشمس عن وجودها القوي.لم ترو عطشنا زجاجات السينالكو الملونة التي عبيناها عباً.
قالت جدتي: ماذا سنفعل في حر جهنم؟
قلت: أين الأموات؟
قالوا ضاحكين في صوت واحد: تحت الكرسي الذى تجلسين فوقه.