علي السوداني - مكاتيب عراقية.. قراءة في جواز سفري

سأُبحوش الليلة في أوراق ثبوت واثبات شخصية ، منها ما انولد هذه الأيام ، وآخر كان صدر قبل أزيد من ثلاثين سنة . سأبدأ بشهادة الجنسية التي حصلت عليها بصورة مريحة جداً نهاية سبعينيات القرن البائد ، أيام كنت فيها طالباً بإعدادية النضال في منطقة السنك من أعمال شارع الرشيد ببغداد العباسية الجميلة . أتى الموظفون إلى المدرسة وطلبوا من كل واحد منا صورة شخصية ومن دون رسوم أو ضرائب ، حتى تسلمنا الوثيقة في اليوم التالي . في هذه الوثيقة وأختها الجنسية أو وثيقة الأحوال المدنية وفي ثالثتهما جواز السفر ، ثمة حقول وكتابات ودمغات وبصمات وتواقيع وفسفورات ، وفيها أيضاً توصيفات الشكل والحال . في حقل الديانة تقول وثائقي بأنني مسلم وأرجو أن يصمد هذا التوصيف من دون فتنة ودم . وفي الحقل الذي يعلوهُ ، ينبت جذر عراقيتي ، أما حقل العلامات الفارقة فلقد ظلّ فارغاً بسبب من صفاء الوجه ولون البشرة مع انزراع شامة واضحة ومشعة في وسط المكان الذي صار الآن شارباً كثاً غليظاً . ألموظف ومن دون أن يرى عيني ، كان كتب أن لون عينيّ الفتى نرجسيتان ، والواقع هو أن عيناي لونهما أسود يقترب قليلاً من لون العسل يا عسل . طولي في جواز السفر هو مائة وستون سنتمتراً ، والصح هو أن طولي بعد توقف النمو يوم اخراج الجواز كان على حدود المائة وثمانين سنتمتراً . في حقل المهنة سألني ضابط الجوازات عن شغلتي فقلت له أنا أكتب قصة قصيرة ، ففهم الأمر وضحك وكتب قدام فراغ الحقل أن الولد صحفيّ ، والحق هو أنني لم أكُ صحفياً بل كنتُ أحبو على أول النشر الممتع في الصحافة . في أول أوراق جواز السفر الماجد ، ينكتب نداء ملطخ بلغة حميمة مهذبة تطالب من يهمهم الأمر بمعاونة حامل هذا الجواز والسماح له بالمرور وتقديم الاحترامات والمساعدات له حال الإقتضاء . في الحقيقة وفي أخيها الواقع ، فإنّ جواز السفر الصادر من بلاد ما بين القهرين ، لم يعد محترماً ولا معيناً لك ولا جناحاً تطير به أنى اشتهيت ورغبت ، بل صار شتلة في مخفر وتكشيرة من شرطي ، وموضع ريبة في منافذ البرّ والبحر والجوّ .
وعندك أيضاً وأيضاً جملة نائحة لاطمة مشتعلة على مؤخرة الجواز ، تطلب منك إن كنت واحداً من أبناء الشتات ، مراجعة سفارة بلادك أو قنصليتها في حال ركبتَ مركوباً أو سكرتَ في حانة ، أو تناطحتَ مع أبناء رصيف وأضعتَ جوازك العزيز ، من أجل استصدار جواز سفر جديد ، والحق الحق أن هذا النداء القويّ والقول الرحيم ينطوي على كثير من الحقيقة باستثناء انزراعك مثل شحاذ بباب السفارة ، وساعة يدري الموظف الذي بيده الأمر انك فقدت جوازك ، فإنه سينظر الى خلقتك الطبيعية نظرة شكّ وريبة ، وقد يذهب به الأمر إلى طقطوقة أنك لم تفقد الجواز حقاً ، وبسببٍ وجيهٍ من قوة شاربك وكثاثة لحيتك وتخدّد ناصيتك وتعرّج وجهك بجريرة ارتفاع منسوب القهر ، وسيلعبُ الفأر بعبّ الموظف الشمّام ، وسيعتبرك حيّالاً فهلوياً عيّاراً خندريساً من النوع الذي يضرب الناقة في كبدها وتحت أبطها ، مبتغياً بيع الجواز المستصدر إلى واحدٍ خلقتهُ تشبه خلقتك ، ووجهتهُ تورا بورا أو بوكو حرام أو دار الأوبرا والباليه في تيلتاوة الجديدة .
في جوازي الرافدينيّ القديم ، ثمة إجازة حاسمة مدموغة بالعربي وبالإنكليزي ، تقول أن بمستطاعك وأنت حامل هذه الوثيقة ، أن تسافر وتجول على كل بقاع الأرض مشرقها والمغرب ، ما عدا إسرائيل ، أما جواز اليوم فلقد انمحت من وريقاته هذه الجملة الحقّ ، بعد أن صارت اسرائيل اللملوم ، من حبال مضيف العراق الأمريكي الجديد .
أظنّ أن هذه الإشارة الأخيرة ، ستجلب عليَّ الكثير من الزعل والغضب والكراهية ، من أصدقاء أعدقاء ما زالت حلوقهم النهمة ، تمصّ حليباً مسموماً حراماً من صدر أمريكا الوغدة وصدور بناتها في الماخور الكبير .




* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى