إثر كتابتي مقال: "صور العين كنوافذ لقلب لا تنغلق أبوابه" في عدد الهلال رقم 154 لشهر مايو 2017، اقترح علي أحد النقاد السينمائيين أن أتوسّع في موضوعة »العين"بوصفها، من جانب، آلة النظر والرؤية، ومنفذًا للرؤية إلي العالم وإدراكه، وبوصفها، من جانب آخر، عنصرا أو مظهرا جماليا جاذبا، بل نافذة عبور إلي قلب الآخر وفهمه، محاورا كان أم مصغيًا.
تتكشّف العين، إذ ذاك، ذاتا فاعلة، وموضوعا، أي فضاءً للتلقي والمفعولية. وفي كلا الحالين يسود الانفعال بالعالم حولنا، والانخراط فيه، وينشأ جسر تواصل بين الكائنات من طريق العين والعقل؛ فلحظة تشرّب العين لما تقع عليه من مشاهد هي لحظة انصهار في ثنايا العالم بالتعبير الفينومنولوجي.
سيميائية اللحظ تشي بدلالات عديدة، لا تنفك تتكشف وتُفك شفراتها. للعينين بلاغة، وقد يكون أرقي تعبير في مغازلة امرأة أنها »بليغة العينين". والعيون تتبادل الحوار وتتهامس، وتفضح مكنونات القلب وتفصح عما يجول في الفكر والوجدان؛ وفي هذه التبادلية الحواريّة تفاعل وتشارك حيث تستحيل النفوس مرايا يغدو الرّائي والمرئي فيها حاضرين بطريقة »تاريخيّة"بوصف التاريخيّة جزءًا لا يتجزّأ من كينونة أيّ خلق، بحسب ما يذهب هيجل (1770_1831) بقوله بأنّ العين يبصر بها الإنسان ويكون مبصَرا، يري ويُري، فالتأمل نظر انعكاسي في المرآة.
أصغيت إلي ما يطفو من حديث ينمّ عن استغراق في ثيمة العين إبصارًا وبصيرة، نقلني من عالم الصورة السينمائي خاصة محدثي ومحور اهتمامه، ومن عالم الأغنية، حيث الشعر المغنّي الذي قلّما يخلو من إشاره إلي جماليات اللحظ، إلي عالم الميثولوجيا والتراث الإنساني الأدبي، لأستحضر صورة أوديب ملكا ومعاقبته لنفسه بسَمل عينيه حالما اكتشف خطيئته بانتهاك قداسة الأمومة. هذه الظاهرة تستدعي الأسئله حول أهمية هذا المكوّن من هيكل الإنسان. فلِمَ اختار أوديب سمل عينيه وليس إعطاب جزء آخر، عادَّا أنه العقاب الأقصي الذي يستحقه؟! هو القدر الأعمي الذي رسم مساره سقوطًا في عمي البصيرة. لم يكن لديه تفسير سوي وضع المعادلة التي تقترب من مفهوم القصاص في شريعة حمورابي »الكسر بالكسر والسن بالسن والعين بالعين". فظلامية عمل لا تشفي النفس من مفاعيلها إلا بظلامية تقابلها، من انعزال عن العالم الخارجي في بهجة النظر إلي بدائعه.
يوضّح الفيلسوف الفينومنولوجي الفرنسي ميرلوبونتي (1908-1961) مفهوم النظر وأبعاد الرؤية في علاقتها الجدلية بما يُري من خلال رسم العالم بأنه صورة »للّحم» الذي يحسّ أنّ الأشياء تنظر إليه، وليس هو من ينظر إليها، فيعكسها بكامل أبعادها بعينه، والعين لحم، ومرآة تستجيب لنداءات الأشياء اللامرئية لتحولها إلي مرئيات؛ واللحم بتمييز ميرلوبونتي يتخذ دلالة الالتحام والاندغام بالحياة والتداخل مع لحم العالم. فكثير من المصورين قالوا إنّ الأشياء تنظر إليهم وإن العالم يخترقهم وليسوا هم من يخترقونه، كأنّ الأشياء تنظر إلي العين وتنتظر أن تبادلها العين النظرة نفسها. فهذه العين البيولوجية تسكن قرب الأشياء لا تفارقها. وبحسب أندريه مارستن الذي ينقل تجربته في هذا الخصوص، أنه أحس وهو في الغابة بأنه لم يكن هو الناظر إليها بل إن الأشجار هي التي تنظر إليه وتكلمه، كان هناك يسمع... هذا القول يحيل إلي مفهوم »نداء الكينونة» لدي الفيلسوف الألماني هيدجر (1889- 1976). ويغدو الموجود الإنساني قطعة من لحم العالم/ أديمه، قادر علي عملية الإظهار والكشف للمختفي في كينونتنا، أي علي الخروج عن أنويتنا إلي رحابة الكون بقصد اختبار التجربة.
حينما أري شيئا ما، فإما أن أركّز عليه أو أبقيه هامشيا؛ إذ إنّ رؤية الشيء تعني الغوص فيه. فالرؤية إذن، أشبه بآله تصوير تلتقط الصورة من بعيد ثم تكبرها لتنبهنا إلي شيء ما يستقرّ في المكان نفسه الذي نسكنه، ويمتدّ فيه، وفي المقابل تهمّش أشياء أخري فتتراجع إلي دائرة اللامرئي.
لم يتوقف محدثي الناقد عند سرده لمناسبة قول أحد أصدقائه، في أثناء مشاهدته فيلمًا لممثلة جميلة العينين وخشنة الصوت: »نشنّف آذاننا بعينيها»، بل تعداه في إشارات لمّاحة إلي »عين حورس.
قد يبدو تناول الطرح بسيطًا يوجز في كتاب، والحال أنّ علم الظواهر قائم بذاته علي الرؤية في وصف الظاهرات، منطلقا منها إلي القصدية لتأويل ما يقع الإبصارعليه بغية فهمه. فلكل اتجاه باب، وفي كل باب فصل يفتح آفاقا لا تحدّ في دراسة أو مقال؛ فماذا عن التواصل والألفة، وكسر الغربة من خلال النظر؟ وماذا عن مفهوم الوحي، وحجاب المعني، ورمزية المرآة، والخفي المتواري فيما يُري؟ وماذا عن الأبعاد المفهوميّة للآية الكريمة
»سنريهم آياتنا في الآفاق"؟
لتكن هذه المقالة نافذة مشرّعة علي تأويلات أخري ترمي إلي فهم الحياة.
سمية عزام
4/14/2018
* لكل فائدة عن جريدة اخبار الاادب
تتكشّف العين، إذ ذاك، ذاتا فاعلة، وموضوعا، أي فضاءً للتلقي والمفعولية. وفي كلا الحالين يسود الانفعال بالعالم حولنا، والانخراط فيه، وينشأ جسر تواصل بين الكائنات من طريق العين والعقل؛ فلحظة تشرّب العين لما تقع عليه من مشاهد هي لحظة انصهار في ثنايا العالم بالتعبير الفينومنولوجي.
سيميائية اللحظ تشي بدلالات عديدة، لا تنفك تتكشف وتُفك شفراتها. للعينين بلاغة، وقد يكون أرقي تعبير في مغازلة امرأة أنها »بليغة العينين". والعيون تتبادل الحوار وتتهامس، وتفضح مكنونات القلب وتفصح عما يجول في الفكر والوجدان؛ وفي هذه التبادلية الحواريّة تفاعل وتشارك حيث تستحيل النفوس مرايا يغدو الرّائي والمرئي فيها حاضرين بطريقة »تاريخيّة"بوصف التاريخيّة جزءًا لا يتجزّأ من كينونة أيّ خلق، بحسب ما يذهب هيجل (1770_1831) بقوله بأنّ العين يبصر بها الإنسان ويكون مبصَرا، يري ويُري، فالتأمل نظر انعكاسي في المرآة.
أصغيت إلي ما يطفو من حديث ينمّ عن استغراق في ثيمة العين إبصارًا وبصيرة، نقلني من عالم الصورة السينمائي خاصة محدثي ومحور اهتمامه، ومن عالم الأغنية، حيث الشعر المغنّي الذي قلّما يخلو من إشاره إلي جماليات اللحظ، إلي عالم الميثولوجيا والتراث الإنساني الأدبي، لأستحضر صورة أوديب ملكا ومعاقبته لنفسه بسَمل عينيه حالما اكتشف خطيئته بانتهاك قداسة الأمومة. هذه الظاهرة تستدعي الأسئله حول أهمية هذا المكوّن من هيكل الإنسان. فلِمَ اختار أوديب سمل عينيه وليس إعطاب جزء آخر، عادَّا أنه العقاب الأقصي الذي يستحقه؟! هو القدر الأعمي الذي رسم مساره سقوطًا في عمي البصيرة. لم يكن لديه تفسير سوي وضع المعادلة التي تقترب من مفهوم القصاص في شريعة حمورابي »الكسر بالكسر والسن بالسن والعين بالعين". فظلامية عمل لا تشفي النفس من مفاعيلها إلا بظلامية تقابلها، من انعزال عن العالم الخارجي في بهجة النظر إلي بدائعه.
يوضّح الفيلسوف الفينومنولوجي الفرنسي ميرلوبونتي (1908-1961) مفهوم النظر وأبعاد الرؤية في علاقتها الجدلية بما يُري من خلال رسم العالم بأنه صورة »للّحم» الذي يحسّ أنّ الأشياء تنظر إليه، وليس هو من ينظر إليها، فيعكسها بكامل أبعادها بعينه، والعين لحم، ومرآة تستجيب لنداءات الأشياء اللامرئية لتحولها إلي مرئيات؛ واللحم بتمييز ميرلوبونتي يتخذ دلالة الالتحام والاندغام بالحياة والتداخل مع لحم العالم. فكثير من المصورين قالوا إنّ الأشياء تنظر إليهم وإن العالم يخترقهم وليسوا هم من يخترقونه، كأنّ الأشياء تنظر إلي العين وتنتظر أن تبادلها العين النظرة نفسها. فهذه العين البيولوجية تسكن قرب الأشياء لا تفارقها. وبحسب أندريه مارستن الذي ينقل تجربته في هذا الخصوص، أنه أحس وهو في الغابة بأنه لم يكن هو الناظر إليها بل إن الأشجار هي التي تنظر إليه وتكلمه، كان هناك يسمع... هذا القول يحيل إلي مفهوم »نداء الكينونة» لدي الفيلسوف الألماني هيدجر (1889- 1976). ويغدو الموجود الإنساني قطعة من لحم العالم/ أديمه، قادر علي عملية الإظهار والكشف للمختفي في كينونتنا، أي علي الخروج عن أنويتنا إلي رحابة الكون بقصد اختبار التجربة.
حينما أري شيئا ما، فإما أن أركّز عليه أو أبقيه هامشيا؛ إذ إنّ رؤية الشيء تعني الغوص فيه. فالرؤية إذن، أشبه بآله تصوير تلتقط الصورة من بعيد ثم تكبرها لتنبهنا إلي شيء ما يستقرّ في المكان نفسه الذي نسكنه، ويمتدّ فيه، وفي المقابل تهمّش أشياء أخري فتتراجع إلي دائرة اللامرئي.
لم يتوقف محدثي الناقد عند سرده لمناسبة قول أحد أصدقائه، في أثناء مشاهدته فيلمًا لممثلة جميلة العينين وخشنة الصوت: »نشنّف آذاننا بعينيها»، بل تعداه في إشارات لمّاحة إلي »عين حورس.
قد يبدو تناول الطرح بسيطًا يوجز في كتاب، والحال أنّ علم الظواهر قائم بذاته علي الرؤية في وصف الظاهرات، منطلقا منها إلي القصدية لتأويل ما يقع الإبصارعليه بغية فهمه. فلكل اتجاه باب، وفي كل باب فصل يفتح آفاقا لا تحدّ في دراسة أو مقال؛ فماذا عن التواصل والألفة، وكسر الغربة من خلال النظر؟ وماذا عن مفهوم الوحي، وحجاب المعني، ورمزية المرآة، والخفي المتواري فيما يُري؟ وماذا عن الأبعاد المفهوميّة للآية الكريمة
»سنريهم آياتنا في الآفاق"؟
لتكن هذه المقالة نافذة مشرّعة علي تأويلات أخري ترمي إلي فهم الحياة.
سمية عزام
4/14/2018
* لكل فائدة عن جريدة اخبار الاادب