أشرنا في مطلع مقالنا السابق إلى أساليب الشيوعيين في نشر مذهبهم على الطريقة الصريحة، وهي الإشادة بمحاسنه والقدح في نقائص النظم الأخرى، أو على الطريقة الخفية - غير الصريحة - وهي الإكثار من التهم والعيوب التي يلصقونها بالنظام القائم دون أن يشركوا الشيوعية في أمثال هذه التهم والعيوب
ونرى أننا نحن المصريين والشرقيين عامة بأشد الحاجة في الآونة الحاضرة إلى التنبيه بعد التنبيه إلى هذه الأساليب الخفية لأنها أضر من صراحتهم في التبشير بمذهبهم، ولأن الحيطة منها أقل، والحذر من عواقبها ضعيف مهمل لضعف المعرفة بمراميها ودروبها التي تتسلل منها
وجملة ما يقال في هذه الأساليب أنها تتلخص في تشجيع كل عامل من عوامل الهدم والانحلال في المجتمع الذي يحاربونه، وتحقير كل عامل من عوامل التماسك، والثبات في ذلك المجتمع، سواء تكلموا عن الأدب، أو عن الفن، أو عن السياسة، أو عن الأخلاق
ولهم في كل بلد من البلاد نغمة يخصونها بها ولا يزالون يرددونها، ولا يقرنونها بذكر الشيوعية الصريح حذراً من تنبيه الخواطر وإثارة الشكوك
ففي الأقطار العربية مثلاً هم أنصار الكتابة باللغة العامية حيثما وقعت المفاضلة بينها وبين اللغة الفصحى
لأن اللغة العامية توافق حملتهم على العقائد الدينية كلها، ومنها العقيدة الإسلامية التي هي قبل كل شيء عقيدة القرآن. ولأن اللغة العامية توافق دعوتهم إلى تغليب الطبقة العاملة التي يزعمون أنهم يهتمون بتعليمها، وهم يسجلون عليها الجهل والاكتفاء بلغة الجهلاء، ولأن اللغة العامية تقطع ما بين الحاضر والماضي، وهم يقرنون بين الماضي والنظم الاقتصادية التي يحاربونها
وإذا سألتهم في ذلك قالوا كما يقول أنصار العامية دائماً إن سواد الناس لا يفهمون الفصحى، وإن اللغة الحية هي اللغة التي يتكلم بها الناس كل يوم
وكل هذا خطأ ظاهر كما فصلنا القول فيه بما كتبناه عن الفصحى والعامية؛ لأن سواد الناس يجهلون المعاني العالية ولو كتبت باللغة التي يتكلمونها، كما يجهلون الرياضة والفلسفة ومباحث العلوم المختلفة. فالعقدة هنا هي عقدة المعاني وليست بعقدة الألفاظ. ومن السخف قولهم إن اللغة الحية هي لغة السوق والطريق، لأن اللغة الحية هي اللغة الخالدة التي تعيش مئات السنين، ولا تموت كل بضع سنوات كما تموت لغات الطرق والأسواق. ولا غنى للإنسانية عن هذه اللغة الخالدة ما دامت لها آداب مكتوب لها الخلود من جيل إلى جيل. وأسخف من دعواهم هذه قولهم إن الناس ينبغي أن يكتبوا كما يتكلمون كأنهم يريدون أن يلغوا الترجمة مثلاً، وهي تنقل إلينا كلام الروسيين والبولونيين، ونحن لا نتكلم لغة هؤلاء ولا هؤلاء، سواء بألفاظ الأسواق أو ألفاظ الجامعات
ذلك أسلوب من أساليبهم الخفية في الأدب، وهم هنا يشاركون المبشرين، ويشاركون المستعمرين، ويشاركون كل من يكره معالم القومية في بلاد الشرق، وهم كثيرون
أما الفن فهم لا يدينون بآراء الغلاة من المصورين والموسيقيين كأنها آراء الشيوعية والشيوعيين، ولكنهم يشجعون هذه الآراء في البلاد الديمقراطية، لأنها خروج على القواعد والأصول واندفاع مع الفوضى والاختلال، أو مع الهدم والانحلال، وهم أنصار كل عامل من عوامل الهدم بين الشعوب الديمقراطية
فلا يلزم - شيوعياً - أن يكون المصور من القائلين بالسريالزم و (الفيوشرزم) والكيوبزم وغيرها من المدارس التي تبطل قواعد التصوير كما عرفها أساتذة الفن في جميع العصور، ولكن هذه المدارس تعفي المصور من قواعد الرسم والتلوين والتشبيه، وأصول الإضاءة والتظليل، وترسله في عالم من الفوضى لا توجد فيها قاعدة يتفق عليها رأيان
وهذه الإباحة هي المقصودة لأنها تفضي إلى هدم القواعد والقوانين، وتزلزل أركان الفكر والذوق والاعتقاد في المجتمع الذي يقصدونه بالخلط والتخريب
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يسمون إحدى مدارس الإباحة هذه بمدرسة (المستقلين)، وهي في حقيقتها رجوع إلى الهمجية التي تركناها منذ آلاف السنين. فإن صورهم وتماثيلهم لتشبه كل الشبه تلك الصور والتماثيل التي كشفت حديثاً في حفائر الكهوف من بلاد نيجيريا وبورنيو وجنوبي الهند، وسائر الأقطار التي كان يعمرها الإنسان الأول، ولا يزال فيها إلى اليوم من الهمج المتخلفين والعجيب في أذواقهم أنهم إذا قصدوا محاكاة تلك الفنون الهمجية تحروا مشابهتها في الرديء النافر الممسوخ، ولم يتحروا قط مشابهتها في مواضع الحسن والإتقان؛ لأنهم منحرفون في تكوينهم انحرافا يظهر في الخلقة إن لم يظهر في الأخلاق والطباع
وعلى هذه الشاكلة مذهبهم في الموسيقى والشعر والتمثيل، ولكنهم يعتدلون بعض الاعتدال في التمثيل لأنهم يريدونه لنشر الدعوة، ويخشون أن يفتحوا أبواب المسارح على مقاعد خاوية إذا هم عمدوا إلى تلك (التقاليع) والتهويشات
ومن أساليبهم التي نص عليها كارل ماركس في منشوراته أن (يشوهوا سمعة كل رجل مسموع الكلمة بين الديمقراطيين)
ولا حرج عندهم أن يختلقوا الأكاذيب، وأن يعرضوا لشؤونه الخاصة، وأن يذموا أعماله أقبح الذم، ولو لم يكن عندهم دليل واحد على ما يذمونه منها
وإذا تكلموا عن الأدباء والشعراء الذين لا يؤمنون بالشيوعية عابوا عليهم أنهم حالمون وأنهم خياليون لأنهم لا يكتبون عن المسائل الاقتصادية ولا يقفون أقلامهم على أسعار الطعام واللباس وشئون الأموال والعمال
والأدباء الديمقراطيون لا يحرمون هذه الموضوعات، ولا يزال منهم من يعرض لها من الناحية الفنية التي هو أقدر على تصويرها، وإنما يعلم الأدباء الديمقراطيون أن في الدنيا علماً اسمه علم الاقتصاد، وعلماء اسمهم العلماء الاقتصاديون، وإن هؤلاء أولى بدرس المسائل التي يفهمونها ويفرغون لها ويستطيعون الحكم فيها، لأن الأدب لم يخلق لإلغاء علم الاقتصاد
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يهدمون مذهبهم من أساسه بهذا الهراء الذي يلفظون به وهم لا يشعرون
لأنهم يستكثرون على العامل الفقير أن يقضي في اليوم ثماني ساعات في طلب الرغيف والكساء، وهم يفرضون على العمال وغير العمال ألا يكون لهم شاغل في ساعات العمل أو ساعات الفراغ إلا طلب الرغيف والكساء، فلا يبحث الفيلسوف إلا ليؤدي بحثه إلى الرغيف والكساء، ولا يحلم الشاعر إلا ليفسر حلمه بالرغيف والكساء، ولا يخترع المخترع إلا لينتفع باختراعه في الرغيف والكساء، ولا يخرج العامل من عمله اليومي ليقرأ أو يستمتع بالفن إلا أن تكون هذه القراءة وهذا الاستمتاع حول الرغيف والكساء
ودون هذا وتحلق لحية كارل ماركس وكل لحية يطلقها أمثاله من أعداء الفنون وأعداء الحرية الإنسانية كأرفع ما تصبو إليه القرائح والأرواح
أما هدم المجتمع من ناحية الأخلاق فخلاصة أسلوبهم فيه أنهم لا يعرفون شيئاً يسمى جريمة خلقية
وقد عرضنا في كتابنا (عبقرية محمد) لمسألة الزواج والطلاق فقلنا بعد إثبات رأي نابليون: (. . . كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث. فكيف اعترف بها (لنين) في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية؟ حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج؛ فلا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق. وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة إلا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات)
قلنا هذا فغضب بعض الأدعياء (أولاً) لأننا كتبنا عن محمد كتابة تعظيم وثناء، وغضبوا (ثانياً) لأننا ذكرنا (لنين) بغير ما ينبغي له عندهم من التعظيم والثناء
وقالوا فيما اتصل بنا أن الطلاق مكروه في روسيا الحديثة، وأن الزوجين المطلقين يعيشان بين الشيوعيين معيشة هوان واحتقار
والذي قال هذا لا يعقل ما قال
وإلا فلماذا يلوم الشيوعيون إذن تلك الآداب التي كرهت الطلاق أو قيدته ببعض القيود أو جعلته محلاً للمراجعة؟
وما هي إذن تلك الجرائم الخلقية التي يعترف بها قانون الشيوعيين ويفرض لها عقاباً يناسبها في الضرر والوخامة؟
إن الحكاية كلها تطاول لا أدب فيه، وكلام يقوله القائل وهو لا يعقل معنى ما يقول
ومما أراه أنا أن تنبيه الأذهان إلى مساوئ الدعوة الشيوعية أوجب واجب على الكاتب المصري في الآونة الحاضرة، لأنها تمس الكرامة الإنسانية كما تمسها الفاشية والنازية، ولأن الشيوعية ليست مسألة أغنياء وفقراء، وإلا لكنت أحق الناس بالدعوة إلى الشيوعية أو بالسكوت عنها لبعدي عن الغنى اليوم وبعد اليوم، ولكنها مسألة الإنسان وكرامة الإنسان، وهل هو من المخلوقات التي تخاطب بلسان الروح أو من المخلوقات التي تخاطب بلسان المعدة. وكفى دليلاً على فاقة الشيوعية في دواعي الكرامة أنها على احتقارها للوطنية لجأت إليها في الحرب الحاضرة لاستنهاض الهمم وشحذ العزائم، فسمتها (الحرب الوطنية) في المنشورات الرسمية. وما كان أغناها عن هذا التمسح بالوطنية لو كان في المذهب الكفاية لصد الأعداء عن البلاد.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 535
بتاريخ: 04 - 10 - 1943
ونرى أننا نحن المصريين والشرقيين عامة بأشد الحاجة في الآونة الحاضرة إلى التنبيه بعد التنبيه إلى هذه الأساليب الخفية لأنها أضر من صراحتهم في التبشير بمذهبهم، ولأن الحيطة منها أقل، والحذر من عواقبها ضعيف مهمل لضعف المعرفة بمراميها ودروبها التي تتسلل منها
وجملة ما يقال في هذه الأساليب أنها تتلخص في تشجيع كل عامل من عوامل الهدم والانحلال في المجتمع الذي يحاربونه، وتحقير كل عامل من عوامل التماسك، والثبات في ذلك المجتمع، سواء تكلموا عن الأدب، أو عن الفن، أو عن السياسة، أو عن الأخلاق
ولهم في كل بلد من البلاد نغمة يخصونها بها ولا يزالون يرددونها، ولا يقرنونها بذكر الشيوعية الصريح حذراً من تنبيه الخواطر وإثارة الشكوك
ففي الأقطار العربية مثلاً هم أنصار الكتابة باللغة العامية حيثما وقعت المفاضلة بينها وبين اللغة الفصحى
لأن اللغة العامية توافق حملتهم على العقائد الدينية كلها، ومنها العقيدة الإسلامية التي هي قبل كل شيء عقيدة القرآن. ولأن اللغة العامية توافق دعوتهم إلى تغليب الطبقة العاملة التي يزعمون أنهم يهتمون بتعليمها، وهم يسجلون عليها الجهل والاكتفاء بلغة الجهلاء، ولأن اللغة العامية تقطع ما بين الحاضر والماضي، وهم يقرنون بين الماضي والنظم الاقتصادية التي يحاربونها
وإذا سألتهم في ذلك قالوا كما يقول أنصار العامية دائماً إن سواد الناس لا يفهمون الفصحى، وإن اللغة الحية هي اللغة التي يتكلم بها الناس كل يوم
وكل هذا خطأ ظاهر كما فصلنا القول فيه بما كتبناه عن الفصحى والعامية؛ لأن سواد الناس يجهلون المعاني العالية ولو كتبت باللغة التي يتكلمونها، كما يجهلون الرياضة والفلسفة ومباحث العلوم المختلفة. فالعقدة هنا هي عقدة المعاني وليست بعقدة الألفاظ. ومن السخف قولهم إن اللغة الحية هي لغة السوق والطريق، لأن اللغة الحية هي اللغة الخالدة التي تعيش مئات السنين، ولا تموت كل بضع سنوات كما تموت لغات الطرق والأسواق. ولا غنى للإنسانية عن هذه اللغة الخالدة ما دامت لها آداب مكتوب لها الخلود من جيل إلى جيل. وأسخف من دعواهم هذه قولهم إن الناس ينبغي أن يكتبوا كما يتكلمون كأنهم يريدون أن يلغوا الترجمة مثلاً، وهي تنقل إلينا كلام الروسيين والبولونيين، ونحن لا نتكلم لغة هؤلاء ولا هؤلاء، سواء بألفاظ الأسواق أو ألفاظ الجامعات
ذلك أسلوب من أساليبهم الخفية في الأدب، وهم هنا يشاركون المبشرين، ويشاركون المستعمرين، ويشاركون كل من يكره معالم القومية في بلاد الشرق، وهم كثيرون
أما الفن فهم لا يدينون بآراء الغلاة من المصورين والموسيقيين كأنها آراء الشيوعية والشيوعيين، ولكنهم يشجعون هذه الآراء في البلاد الديمقراطية، لأنها خروج على القواعد والأصول واندفاع مع الفوضى والاختلال، أو مع الهدم والانحلال، وهم أنصار كل عامل من عوامل الهدم بين الشعوب الديمقراطية
فلا يلزم - شيوعياً - أن يكون المصور من القائلين بالسريالزم و (الفيوشرزم) والكيوبزم وغيرها من المدارس التي تبطل قواعد التصوير كما عرفها أساتذة الفن في جميع العصور، ولكن هذه المدارس تعفي المصور من قواعد الرسم والتلوين والتشبيه، وأصول الإضاءة والتظليل، وترسله في عالم من الفوضى لا توجد فيها قاعدة يتفق عليها رأيان
وهذه الإباحة هي المقصودة لأنها تفضي إلى هدم القواعد والقوانين، وتزلزل أركان الفكر والذوق والاعتقاد في المجتمع الذي يقصدونه بالخلط والتخريب
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يسمون إحدى مدارس الإباحة هذه بمدرسة (المستقلين)، وهي في حقيقتها رجوع إلى الهمجية التي تركناها منذ آلاف السنين. فإن صورهم وتماثيلهم لتشبه كل الشبه تلك الصور والتماثيل التي كشفت حديثاً في حفائر الكهوف من بلاد نيجيريا وبورنيو وجنوبي الهند، وسائر الأقطار التي كان يعمرها الإنسان الأول، ولا يزال فيها إلى اليوم من الهمج المتخلفين والعجيب في أذواقهم أنهم إذا قصدوا محاكاة تلك الفنون الهمجية تحروا مشابهتها في الرديء النافر الممسوخ، ولم يتحروا قط مشابهتها في مواضع الحسن والإتقان؛ لأنهم منحرفون في تكوينهم انحرافا يظهر في الخلقة إن لم يظهر في الأخلاق والطباع
وعلى هذه الشاكلة مذهبهم في الموسيقى والشعر والتمثيل، ولكنهم يعتدلون بعض الاعتدال في التمثيل لأنهم يريدونه لنشر الدعوة، ويخشون أن يفتحوا أبواب المسارح على مقاعد خاوية إذا هم عمدوا إلى تلك (التقاليع) والتهويشات
ومن أساليبهم التي نص عليها كارل ماركس في منشوراته أن (يشوهوا سمعة كل رجل مسموع الكلمة بين الديمقراطيين)
ولا حرج عندهم أن يختلقوا الأكاذيب، وأن يعرضوا لشؤونه الخاصة، وأن يذموا أعماله أقبح الذم، ولو لم يكن عندهم دليل واحد على ما يذمونه منها
وإذا تكلموا عن الأدباء والشعراء الذين لا يؤمنون بالشيوعية عابوا عليهم أنهم حالمون وأنهم خياليون لأنهم لا يكتبون عن المسائل الاقتصادية ولا يقفون أقلامهم على أسعار الطعام واللباس وشئون الأموال والعمال
والأدباء الديمقراطيون لا يحرمون هذه الموضوعات، ولا يزال منهم من يعرض لها من الناحية الفنية التي هو أقدر على تصويرها، وإنما يعلم الأدباء الديمقراطيون أن في الدنيا علماً اسمه علم الاقتصاد، وعلماء اسمهم العلماء الاقتصاديون، وإن هؤلاء أولى بدرس المسائل التي يفهمونها ويفرغون لها ويستطيعون الحكم فيها، لأن الأدب لم يخلق لإلغاء علم الاقتصاد
ومن مضحكاتهم ومضحكات نظرائهم في هذا الباب أنهم يهدمون مذهبهم من أساسه بهذا الهراء الذي يلفظون به وهم لا يشعرون
لأنهم يستكثرون على العامل الفقير أن يقضي في اليوم ثماني ساعات في طلب الرغيف والكساء، وهم يفرضون على العمال وغير العمال ألا يكون لهم شاغل في ساعات العمل أو ساعات الفراغ إلا طلب الرغيف والكساء، فلا يبحث الفيلسوف إلا ليؤدي بحثه إلى الرغيف والكساء، ولا يحلم الشاعر إلا ليفسر حلمه بالرغيف والكساء، ولا يخترع المخترع إلا لينتفع باختراعه في الرغيف والكساء، ولا يخرج العامل من عمله اليومي ليقرأ أو يستمتع بالفن إلا أن تكون هذه القراءة وهذا الاستمتاع حول الرغيف والكساء
ودون هذا وتحلق لحية كارل ماركس وكل لحية يطلقها أمثاله من أعداء الفنون وأعداء الحرية الإنسانية كأرفع ما تصبو إليه القرائح والأرواح
أما هدم المجتمع من ناحية الأخلاق فخلاصة أسلوبهم فيه أنهم لا يعرفون شيئاً يسمى جريمة خلقية
وقد عرضنا في كتابنا (عبقرية محمد) لمسألة الزواج والطلاق فقلنا بعد إثبات رأي نابليون: (. . . كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث. فكيف اعترف بها (لنين) في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية؟ حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج؛ فلا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق. وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة إلا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات)
قلنا هذا فغضب بعض الأدعياء (أولاً) لأننا كتبنا عن محمد كتابة تعظيم وثناء، وغضبوا (ثانياً) لأننا ذكرنا (لنين) بغير ما ينبغي له عندهم من التعظيم والثناء
وقالوا فيما اتصل بنا أن الطلاق مكروه في روسيا الحديثة، وأن الزوجين المطلقين يعيشان بين الشيوعيين معيشة هوان واحتقار
والذي قال هذا لا يعقل ما قال
وإلا فلماذا يلوم الشيوعيون إذن تلك الآداب التي كرهت الطلاق أو قيدته ببعض القيود أو جعلته محلاً للمراجعة؟
وما هي إذن تلك الجرائم الخلقية التي يعترف بها قانون الشيوعيين ويفرض لها عقاباً يناسبها في الضرر والوخامة؟
إن الحكاية كلها تطاول لا أدب فيه، وكلام يقوله القائل وهو لا يعقل معنى ما يقول
ومما أراه أنا أن تنبيه الأذهان إلى مساوئ الدعوة الشيوعية أوجب واجب على الكاتب المصري في الآونة الحاضرة، لأنها تمس الكرامة الإنسانية كما تمسها الفاشية والنازية، ولأن الشيوعية ليست مسألة أغنياء وفقراء، وإلا لكنت أحق الناس بالدعوة إلى الشيوعية أو بالسكوت عنها لبعدي عن الغنى اليوم وبعد اليوم، ولكنها مسألة الإنسان وكرامة الإنسان، وهل هو من المخلوقات التي تخاطب بلسان الروح أو من المخلوقات التي تخاطب بلسان المعدة. وكفى دليلاً على فاقة الشيوعية في دواعي الكرامة أنها على احتقارها للوطنية لجأت إليها في الحرب الحاضرة لاستنهاض الهمم وشحذ العزائم، فسمتها (الحرب الوطنية) في المنشورات الرسمية. وما كان أغناها عن هذا التمسح بالوطنية لو كان في المذهب الكفاية لصد الأعداء عن البلاد.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 535
بتاريخ: 04 - 10 - 1943