دخلوا عليه بعد أن اقتحموا الباب الموصد بالأقفال فوجدوه مسبلاً ذراعيه المشعرتين على مؤخرتها الفسيحة العريضة وهو يبكي ويضرب بوجهه على لحم ردفيها المعطر الميت فنهره أبوها: كان عليك أن تيمم وجهها شطر القبلة، وأن تبكي عند رأسها لا عند كفلها، فرد عليه بعد نشقة طويلة: لم أجد من رأسها إلا الأذى بينما وجدت في أسفلها الحب والسعادة ويضرب لهم بيده على عجيزتها فيرتج اللحم الميت من تحت لباس الحرير وتنتشر في الغرفة رائحة العطر الأخير.
تعاونوا على إبعاده عنها، ونزعها من حضنه، وأخلوا الغرفة لفريق النسوة المؤمن، كي يجهز العنود لاحتضان الثرى، وارتحلوا خفافاً إلى الجبانة، وصلت العنود إلى الجبانة، ووصل معها موكب عظيم من النسوة شيّعها حتى باب الجبانة ثم مكث يذرف الدموع عليها حيث يحظر عليه الدخول، شكل جسد العنود وهو محمول على الآلة الحدباء قاطرة خشبية تفصل موكب النسوة عن موكب الرجال لحظة تسليمه عند مدخل الجبانة، فتشوا عنه في زحام المصلين ليتقدم الجموع في الصلاة عليها فلم يجدوه وحين طال بهم الانتظار صلوا عليها في يوم الجمعة، فتشوا عنه ثانية ليحملها على ذراعيه إلى جوف اللحد فلم يلقوه بين الإخوة وأبناء العمومة والخؤولة الذين طوّقوا حفرة القبر بانتصابهم على حوافها، نادوا عليه فَعَلَا نداؤهم وسط التسابيح والتهاليل والتكبيرات فلم يجب النداء، فرد على انتظارهم له أبوها الذي بعثر أجسادهم المتراصة فالتقطها من على النعش وهبط بها إلى القبر، ووارى جسدها الثقيل في اللحد الضيق الذي غص به، حثا الأخوة وأبناء العمومة والخؤولة التراب على جثمانها مكرهين مترددين وما غادروا الجبانة إلا وقبرها قد ركزت فيه علامات متنوعة. ركزها أبناء العمومة والخؤولة والأخوة ليزوروها في العيدين، وكانت أكثر العلامات لفتاً للنظر غصن شجرة رمان، وسيخ حديد صدئ، وإناءً من الفخار، وسف لقاح نخل أجوف، وفسيلة صغيرة ميتة، وبشتاً بني اللون.
زحفت جموع المعزين إليه غادين من الجبانة فهالهم ما رأوا في مجلس عزاء العنود، أنوار نيون معلقة تومض بالكهرباء، وزينة فرح تزين بها، وإذاعة تبث موسيقى رومانسية حالمة، ترددوا في تقديم العزاء له واستغربوا منه أخذ عزائها على هذا النحو فكان أن قادهم أبوها إليه فانقادوا مبهوتين من ركاض العميري ومما يفعل!!.
قال الأب: أحسن الله عزاءك في العنود!
رد ركاض العميري وهو يبتسم: أعلمُ أن ابنتك كانت عاهرة تخونني مع أخي الأصغر مني والأكثر جمالاً مني ومنك ولكني لم أطلقها!
أعقب أباها في الأقبال عليه أخوها قبلان العميري فقال له معزياً: أخلف الله عليك بمن هي أحسن منها، فما كان منه إلا أن يرد عليه التعزية بقوله: أعلمُ أن أختك عذبتك وستعذب ذريتك وذريتي في حياتنا وبعد حياتنا، ولكن لم نشأ لا أنا ولا أنت ولا أصحاب خمس وستين لحية منا على قتلها، لقد كنا وسنظل نحبها ما حيينا!.
خلف قبلان العميري في تعزيته أخوها الأصغر ركاب العميري فأخفض له الصوت وهو يعزيه: البقاء في رأسك يا بو مسلط.
فرد عليه وهو يشير إلى الخدم ليرفعوا من صوت إذاعة الموسيقى: لست أنت الوحيد الذي يقدم لها الهدايا، نساء البلدة كلهن يقصدن مجلسها ويهدينها الحلي والأساور والتمر واللبن، والسمن، والملابس والعطور، وملابس المواليد إذا ولدت.
هبّ إليه أخوه وافي العميري وهو يبكي فاحتضه، فقال وافي بعد الحضن الطويل لأخيه: إن كنت تحبها فادع لها واستغفر لها وحج عنها ولا تعذبها في قبرها ببكائك عليها!
فرد ركاض العميري وقد استحالت ابتسامته الطويلة إلى دمع يجري متقطعا على خديه: أعلمُ يا وافي أنك تركبها قبلي كل ليلة ولكني لم أقدر أن أخاصمك أو أخاصمها. بل كنت أنتظر انتهائك منها وأنا متحمس لركوبها بعدك غير غاضب عليك ولا عليها!
تثاقل ابن عمه شويش العميري في تعزيته فما كان من ركاض إلا أن زايل مكانه من مجلس العزاء وحث الخطى سريعاً إلى شويش وباح بما كنّه شويش في صدره سنين عديدة: أدركُ جيداً يا شويش أن نفسك فيها، وأن خاطرك معلق بها، وأنك تحسدني على الزواج منها، وأنك دخلت منزلي من النافذة وسمعتك تبكي على ثدييها، ورأيتك بعيني هاتين تقبل قدميها وتخلع الحلي من ذراعيها وتصيح والجيران يسمعون صياحك: أنا عيني فيك يالعنود، أنا عيني فيك يالعنود، أخاف عليك تمرضين من عيني!
ويعلو فوق صوت الموسيقى الرومانسية الحالمة صوت ابن خالها هلال العسعوسي والرجال لتوهم يقربون مؤخراتهم من الكراسي ليحطوا بها عليها في مجلس العزاء بعد أن تعبت مؤخراتهم من الوقوف في الجبانة: طلبتك يا بو مسلط وقيمة الشيء طلبته إنك تعطيني حجة العنود. قل تم! قال ركاض العميري: تم كما تمت من قبل عمرة العنود علي يدك وتم في مكة حملها منك بمسلط!!.
أراد أبوها أن يقول شيئاً وفنجان القهوة يرتج في يده وحرارتها تسيح على أصابعه ذات العروق النافرة، ولكن ركاض العميري سبقه إلى القول فقال ولحوم الذبائح في الصحون محمولة على أذرع الخدم، وأذرع الخدم ليست كالأذرع المفتولة المشعرة التي حملت العنود على النعش ولاهي في كثرتها، ولاهي كذراعي العنود المثقلين دوماً بالحلي، ولا لحم الذبائح كلحم العنود الأبيض حين كانت حية، ولا حركة الذبائح في المرعى حين كانت حية ترعى كحركة العنود فوق الأسرة وهي حية والرجال يرعون من جسدها، ولا أثداء الذبائح وهي حية يرضع منها صغارها في المرعى كثديي العنود وهي حية وأطفال البلدة يرضعون منها في البيوت، لقد قال ركاض العميري: العنود كخمرة الكاهن كلما عتقت صارت أشهى وألذ وإن هي أصابت الرؤوس بالأذى!.
ناصر سالم الجاسم
* عن مدونة ناصر الجاسم
تعاونوا على إبعاده عنها، ونزعها من حضنه، وأخلوا الغرفة لفريق النسوة المؤمن، كي يجهز العنود لاحتضان الثرى، وارتحلوا خفافاً إلى الجبانة، وصلت العنود إلى الجبانة، ووصل معها موكب عظيم من النسوة شيّعها حتى باب الجبانة ثم مكث يذرف الدموع عليها حيث يحظر عليه الدخول، شكل جسد العنود وهو محمول على الآلة الحدباء قاطرة خشبية تفصل موكب النسوة عن موكب الرجال لحظة تسليمه عند مدخل الجبانة، فتشوا عنه في زحام المصلين ليتقدم الجموع في الصلاة عليها فلم يجدوه وحين طال بهم الانتظار صلوا عليها في يوم الجمعة، فتشوا عنه ثانية ليحملها على ذراعيه إلى جوف اللحد فلم يلقوه بين الإخوة وأبناء العمومة والخؤولة الذين طوّقوا حفرة القبر بانتصابهم على حوافها، نادوا عليه فَعَلَا نداؤهم وسط التسابيح والتهاليل والتكبيرات فلم يجب النداء، فرد على انتظارهم له أبوها الذي بعثر أجسادهم المتراصة فالتقطها من على النعش وهبط بها إلى القبر، ووارى جسدها الثقيل في اللحد الضيق الذي غص به، حثا الأخوة وأبناء العمومة والخؤولة التراب على جثمانها مكرهين مترددين وما غادروا الجبانة إلا وقبرها قد ركزت فيه علامات متنوعة. ركزها أبناء العمومة والخؤولة والأخوة ليزوروها في العيدين، وكانت أكثر العلامات لفتاً للنظر غصن شجرة رمان، وسيخ حديد صدئ، وإناءً من الفخار، وسف لقاح نخل أجوف، وفسيلة صغيرة ميتة، وبشتاً بني اللون.
زحفت جموع المعزين إليه غادين من الجبانة فهالهم ما رأوا في مجلس عزاء العنود، أنوار نيون معلقة تومض بالكهرباء، وزينة فرح تزين بها، وإذاعة تبث موسيقى رومانسية حالمة، ترددوا في تقديم العزاء له واستغربوا منه أخذ عزائها على هذا النحو فكان أن قادهم أبوها إليه فانقادوا مبهوتين من ركاض العميري ومما يفعل!!.
قال الأب: أحسن الله عزاءك في العنود!
رد ركاض العميري وهو يبتسم: أعلمُ أن ابنتك كانت عاهرة تخونني مع أخي الأصغر مني والأكثر جمالاً مني ومنك ولكني لم أطلقها!
أعقب أباها في الأقبال عليه أخوها قبلان العميري فقال له معزياً: أخلف الله عليك بمن هي أحسن منها، فما كان منه إلا أن يرد عليه التعزية بقوله: أعلمُ أن أختك عذبتك وستعذب ذريتك وذريتي في حياتنا وبعد حياتنا، ولكن لم نشأ لا أنا ولا أنت ولا أصحاب خمس وستين لحية منا على قتلها، لقد كنا وسنظل نحبها ما حيينا!.
خلف قبلان العميري في تعزيته أخوها الأصغر ركاب العميري فأخفض له الصوت وهو يعزيه: البقاء في رأسك يا بو مسلط.
فرد عليه وهو يشير إلى الخدم ليرفعوا من صوت إذاعة الموسيقى: لست أنت الوحيد الذي يقدم لها الهدايا، نساء البلدة كلهن يقصدن مجلسها ويهدينها الحلي والأساور والتمر واللبن، والسمن، والملابس والعطور، وملابس المواليد إذا ولدت.
هبّ إليه أخوه وافي العميري وهو يبكي فاحتضه، فقال وافي بعد الحضن الطويل لأخيه: إن كنت تحبها فادع لها واستغفر لها وحج عنها ولا تعذبها في قبرها ببكائك عليها!
فرد ركاض العميري وقد استحالت ابتسامته الطويلة إلى دمع يجري متقطعا على خديه: أعلمُ يا وافي أنك تركبها قبلي كل ليلة ولكني لم أقدر أن أخاصمك أو أخاصمها. بل كنت أنتظر انتهائك منها وأنا متحمس لركوبها بعدك غير غاضب عليك ولا عليها!
تثاقل ابن عمه شويش العميري في تعزيته فما كان من ركاض إلا أن زايل مكانه من مجلس العزاء وحث الخطى سريعاً إلى شويش وباح بما كنّه شويش في صدره سنين عديدة: أدركُ جيداً يا شويش أن نفسك فيها، وأن خاطرك معلق بها، وأنك تحسدني على الزواج منها، وأنك دخلت منزلي من النافذة وسمعتك تبكي على ثدييها، ورأيتك بعيني هاتين تقبل قدميها وتخلع الحلي من ذراعيها وتصيح والجيران يسمعون صياحك: أنا عيني فيك يالعنود، أنا عيني فيك يالعنود، أخاف عليك تمرضين من عيني!
ويعلو فوق صوت الموسيقى الرومانسية الحالمة صوت ابن خالها هلال العسعوسي والرجال لتوهم يقربون مؤخراتهم من الكراسي ليحطوا بها عليها في مجلس العزاء بعد أن تعبت مؤخراتهم من الوقوف في الجبانة: طلبتك يا بو مسلط وقيمة الشيء طلبته إنك تعطيني حجة العنود. قل تم! قال ركاض العميري: تم كما تمت من قبل عمرة العنود علي يدك وتم في مكة حملها منك بمسلط!!.
أراد أبوها أن يقول شيئاً وفنجان القهوة يرتج في يده وحرارتها تسيح على أصابعه ذات العروق النافرة، ولكن ركاض العميري سبقه إلى القول فقال ولحوم الذبائح في الصحون محمولة على أذرع الخدم، وأذرع الخدم ليست كالأذرع المفتولة المشعرة التي حملت العنود على النعش ولاهي في كثرتها، ولاهي كذراعي العنود المثقلين دوماً بالحلي، ولا لحم الذبائح كلحم العنود الأبيض حين كانت حية، ولا حركة الذبائح في المرعى حين كانت حية ترعى كحركة العنود فوق الأسرة وهي حية والرجال يرعون من جسدها، ولا أثداء الذبائح وهي حية يرضع منها صغارها في المرعى كثديي العنود وهي حية وأطفال البلدة يرضعون منها في البيوت، لقد قال ركاض العميري: العنود كخمرة الكاهن كلما عتقت صارت أشهى وألذ وإن هي أصابت الرؤوس بالأذى!.
ناصر سالم الجاسم
* عن مدونة ناصر الجاسم