632 - فافطن لأمرك. . .
قال أبو حيان التوحيدي: جرى بيني وبين أبي على مسكويه شيء: قال لي مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا - وهو يعني ابن العميد - في إعطائه فلاناً ألف دينار ضربة واحدة: لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق.
فقلت - بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف -: أيها الشيخ! أسألك عن شيء واحد فاصدق فإنه لا مدبَّ للكذب بيني وبينك، لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه أكنت تتخيله في نفسك مخطئا ومبذراً ومفسداً أو جاهلاً بحق المال، أو كنت تقول: ما أحسن ما فعل، ويا ليته أربى عليه. فان كان الذي نسمع على حقيقته فاعلم أن الذي يرد ورد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، وأنت تدعي الحكمة وتتكلف في الأخلاق، وتزيف الزائف، وتختار المختار؛ فافطن لأمرك.
633 - وأكره أن يكون على دين
خطب أعرابي إلى قوم فقالوا: ما تبذل من الصداق؟ وارتفع السَّجْف فرأى شيئاً كرهه؛ فقال والله ما عندي نقد، وإني لأكره أن يكون علىْ دين. . .
634 - نحن إلى إمام فعال أحوج منا إلى إمام قوال
في (محاضرات الراغب):
كان أبو بكر بن قريعة (قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد) من عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالأجوبة عن جميع ما يسأل عنه في أفصح لفظ، وأملح سجع. وكان رؤساء ذلك العصر والعلماء يداعبونه ويكتبون له المسائل الغريبة المضحكة فيكتب الأجوبة من غير توقف ولا يكتب إلا مطابقاً لما سألوه. فمن ذلك ما كتب به بعض الفضلاء: ما يقول القاضي (أيده الله تعالى) في رجل سمّى ولده مداماً، وكنّاه أبا الندامى، وسمى ابنته الراح، وكناها أم الأفراح، وسمى عبده الشراب، وكناه أبا الإطراب، وسمى وليدته القهوة، وكناها أم النشوة، أينهى عن بطالته، أم يؤدب على خلاعته؟ فكتب تحت السؤال: لو نُعت هذا لأبي حنيفة، لأقعده خليفة، وعقد له رأيه، وقاتل تحتها من خالف رأيه. ولو علمنا مكانه، لقلبنا أركانه. فان أتبع هذه الأسماء أفعالا، وهذه الكنى استعمالا، علمنا أنه أحيا دولة المجون، وأقام لواء ابنه الزرجون، فبايعناه وشايعناه. وإن تكن أسماء سماها ماله بها من سلطان خلعنا طاعته، وفرقنا جماعته؛ فنحن إلى إمام فعال، أحوج منا إلى إمام قوال.
635 - يمشي في جنازته
في (معجم البلدان) لياقوت:
مسعر بن مهلهل في رحلته: بلغنا أن نصر بن أحمد السعيد الساماني (صاحب خراسان وما وراء النهر) عمل قبره قبل وفاته بعشرين سنة، وذلك أنه حدّ له في يوم مولده مبلغ عمره، وأن موته يكون بالسل، وعرف اليوم الذي يموت فيه، فخرج يوم موته إلى خارج بخارا، وقد أعلم الناس أنه ميت في يومه ذلك، وأمرهم أن يتجهزوا له بجهاز التعزية والمصيبة، فسار بين يديه ألوف من الغلمان وقد ظاهروا اللباس بالسواد، ثم تبعهم نحو ألف جارية، ثم جاء عامة الجيش والأولياء حاثين التراب على رؤوسهم، واتصلت بهم الرعية والتجار في بكاء شديد. وشهر هو نفسه بضرب من اللباس، ثم جاء أولاده يمشون بين يديه حفاة وبين أيديهم وجوه كتابه وخدمه وقواده، ثم أقبل القضاة والعلماء يسايرونه في غم وكآبة، وأحضر سجلا كبيراً ملفوفاً فأمر القضاة والكتاب بختمه، وأمر نوحاً ابنه أن يعمل بما فيه. واستدعى شيئاً من حساء في زبدية من الصيني ثم تناول منه شيئاً ثم تغرغرت عيناه بالدموع وتشهد، وقال: هذا آخر زاد نصر من دنياكم، وسار إلى قبره ودخله وقرأ عشراً فيه، واستقر به مجلسه، ومات. . .!!!
636 - يحب البلاء لماش كريم
أبو سعيد المخزومي:
إذا كنت في بلدة نازلا ... وحل الشتاء حلول المقيم
فلا تبرزن إلى أن ترى ... من الصحو يوماً صحيح الأديم
فكم زلقة في حواش الطريق ... ترد الثياب بخزي عظيم
وكم من لئيم غدا راكباً ... يحب البلاء لماش كريم
637 - لولا المشقة
قال ابن خلكان: بلغني أن ابن مطروح كتب - قبل ارتفاع درجته - رقعة تتضمن شفاعةً في قضاء لبعض أصحابه أرسلها إلى أحد الرؤساء، فكتب إليه ذلك الرئيس في جوابه: هذا الأمر علي فيه مشقة.
فكتب أبن مطروح جوابه ثانياً: (لولا المشقة)
فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغلَه وفهم ما قصده وهو قول المتنبي:
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ ... الجودُ يُفقرُ، والإقدام قتّالُ
638 - لا جرم أن اثر الحسد فيك. . .
قال إسحق الموصلي: أنشدت الأصمعي شعراً لي، على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيلُ ... يروَ منها الصدى ويشف الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من الحبيب القليل
قال لي: هذا - والله - الديباج الخُسرواني.
فقلت له: لا جرم أن أثر الحسد فيك. . .
639 - أشم نسيم قرطبة
قال ابن بشكوال: دخل الشيخ أبو بكر بن سعادة مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي فسألنا:
من أين؟
فقلنا: من قرطبة!
فقال: متى عهدكما بها؟
فقلنا: الآن وصلنا منها!
فقال: اقربا إلى أشم نسيم قرطبة. فقربنا منه فشم رأسي وقبله وقال في اكتب:
أقرطبة الغراء هل لي أوبة ... إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد
سقى الجانب الغربي منك غمامة ... وقعقع في ساحات روضتك الرعد
لياليك أسحار وأرضك روضة ... وتربك في استنشاقها عنبر ورد
640 - سكارى. . .
السري الرفاء:
وفتية زَهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين
مشوا إلى الراح مشىَ الرُّخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
غدوا إليها كأمثال السهام مضت ... عن القسيّ وراحوا كالعراجين
وكان شربهم في صدر مجلسهم ... شرب الملوك وناموا كالمساكين
مجلة الرسالة - العدد 611
بتاريخ: 19 - 03 - 1945
قال أبو حيان التوحيدي: جرى بيني وبين أبي على مسكويه شيء: قال لي مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا - وهو يعني ابن العميد - في إعطائه فلاناً ألف دينار ضربة واحدة: لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق.
فقلت - بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف -: أيها الشيخ! أسألك عن شيء واحد فاصدق فإنه لا مدبَّ للكذب بيني وبينك، لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه أكنت تتخيله في نفسك مخطئا ومبذراً ومفسداً أو جاهلاً بحق المال، أو كنت تقول: ما أحسن ما فعل، ويا ليته أربى عليه. فان كان الذي نسمع على حقيقته فاعلم أن الذي يرد ورد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، وأنت تدعي الحكمة وتتكلف في الأخلاق، وتزيف الزائف، وتختار المختار؛ فافطن لأمرك.
633 - وأكره أن يكون على دين
خطب أعرابي إلى قوم فقالوا: ما تبذل من الصداق؟ وارتفع السَّجْف فرأى شيئاً كرهه؛ فقال والله ما عندي نقد، وإني لأكره أن يكون علىْ دين. . .
634 - نحن إلى إمام فعال أحوج منا إلى إمام قوال
في (محاضرات الراغب):
كان أبو بكر بن قريعة (قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد) من عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالأجوبة عن جميع ما يسأل عنه في أفصح لفظ، وأملح سجع. وكان رؤساء ذلك العصر والعلماء يداعبونه ويكتبون له المسائل الغريبة المضحكة فيكتب الأجوبة من غير توقف ولا يكتب إلا مطابقاً لما سألوه. فمن ذلك ما كتب به بعض الفضلاء: ما يقول القاضي (أيده الله تعالى) في رجل سمّى ولده مداماً، وكنّاه أبا الندامى، وسمى ابنته الراح، وكناها أم الأفراح، وسمى عبده الشراب، وكناه أبا الإطراب، وسمى وليدته القهوة، وكناها أم النشوة، أينهى عن بطالته، أم يؤدب على خلاعته؟ فكتب تحت السؤال: لو نُعت هذا لأبي حنيفة، لأقعده خليفة، وعقد له رأيه، وقاتل تحتها من خالف رأيه. ولو علمنا مكانه، لقلبنا أركانه. فان أتبع هذه الأسماء أفعالا، وهذه الكنى استعمالا، علمنا أنه أحيا دولة المجون، وأقام لواء ابنه الزرجون، فبايعناه وشايعناه. وإن تكن أسماء سماها ماله بها من سلطان خلعنا طاعته، وفرقنا جماعته؛ فنحن إلى إمام فعال، أحوج منا إلى إمام قوال.
635 - يمشي في جنازته
في (معجم البلدان) لياقوت:
مسعر بن مهلهل في رحلته: بلغنا أن نصر بن أحمد السعيد الساماني (صاحب خراسان وما وراء النهر) عمل قبره قبل وفاته بعشرين سنة، وذلك أنه حدّ له في يوم مولده مبلغ عمره، وأن موته يكون بالسل، وعرف اليوم الذي يموت فيه، فخرج يوم موته إلى خارج بخارا، وقد أعلم الناس أنه ميت في يومه ذلك، وأمرهم أن يتجهزوا له بجهاز التعزية والمصيبة، فسار بين يديه ألوف من الغلمان وقد ظاهروا اللباس بالسواد، ثم تبعهم نحو ألف جارية، ثم جاء عامة الجيش والأولياء حاثين التراب على رؤوسهم، واتصلت بهم الرعية والتجار في بكاء شديد. وشهر هو نفسه بضرب من اللباس، ثم جاء أولاده يمشون بين يديه حفاة وبين أيديهم وجوه كتابه وخدمه وقواده، ثم أقبل القضاة والعلماء يسايرونه في غم وكآبة، وأحضر سجلا كبيراً ملفوفاً فأمر القضاة والكتاب بختمه، وأمر نوحاً ابنه أن يعمل بما فيه. واستدعى شيئاً من حساء في زبدية من الصيني ثم تناول منه شيئاً ثم تغرغرت عيناه بالدموع وتشهد، وقال: هذا آخر زاد نصر من دنياكم، وسار إلى قبره ودخله وقرأ عشراً فيه، واستقر به مجلسه، ومات. . .!!!
636 - يحب البلاء لماش كريم
أبو سعيد المخزومي:
إذا كنت في بلدة نازلا ... وحل الشتاء حلول المقيم
فلا تبرزن إلى أن ترى ... من الصحو يوماً صحيح الأديم
فكم زلقة في حواش الطريق ... ترد الثياب بخزي عظيم
وكم من لئيم غدا راكباً ... يحب البلاء لماش كريم
637 - لولا المشقة
قال ابن خلكان: بلغني أن ابن مطروح كتب - قبل ارتفاع درجته - رقعة تتضمن شفاعةً في قضاء لبعض أصحابه أرسلها إلى أحد الرؤساء، فكتب إليه ذلك الرئيس في جوابه: هذا الأمر علي فيه مشقة.
فكتب أبن مطروح جوابه ثانياً: (لولا المشقة)
فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغلَه وفهم ما قصده وهو قول المتنبي:
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ ... الجودُ يُفقرُ، والإقدام قتّالُ
638 - لا جرم أن اثر الحسد فيك. . .
قال إسحق الموصلي: أنشدت الأصمعي شعراً لي، على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيلُ ... يروَ منها الصدى ويشف الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من الحبيب القليل
قال لي: هذا - والله - الديباج الخُسرواني.
فقلت له: لا جرم أن أثر الحسد فيك. . .
639 - أشم نسيم قرطبة
قال ابن بشكوال: دخل الشيخ أبو بكر بن سعادة مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي فسألنا:
من أين؟
فقلنا: من قرطبة!
فقال: متى عهدكما بها؟
فقلنا: الآن وصلنا منها!
فقال: اقربا إلى أشم نسيم قرطبة. فقربنا منه فشم رأسي وقبله وقال في اكتب:
أقرطبة الغراء هل لي أوبة ... إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد
سقى الجانب الغربي منك غمامة ... وقعقع في ساحات روضتك الرعد
لياليك أسحار وأرضك روضة ... وتربك في استنشاقها عنبر ورد
640 - سكارى. . .
السري الرفاء:
وفتية زَهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين
مشوا إلى الراح مشىَ الرُّخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
غدوا إليها كأمثال السهام مضت ... عن القسيّ وراحوا كالعراجين
وكان شربهم في صدر مجلسهم ... شرب الملوك وناموا كالمساكين
مجلة الرسالة - العدد 611
بتاريخ: 19 - 03 - 1945