رؤوف مسعد - في المعتقل.. عريي وعري الآخرين

السجن جعلني اكتشف عريٌ: اكتشفه بخجل من جسدي العاري المستخذي أمام نظرات السجان ونظرات الآخرين. اشعر بالخزي ولا أستطيع تجاهل خزي الآخرين.
بعد الإفراج عني كنت اكتشف عريٌ الجديد ببعض الخجل في غرف مغلقة. فعريٌ القديم كان بيني وبين جسدي منذ سن الثامنة وحتي السجن في الثالثة والعشرين، تأملته مع عري الآخرين في شواطئ العراة الأوربية. اكتشف جسدي مجددا بدون خجل ولا خزي منه او من اجساد الآخرين.

جسدي في السجن ليس جسدي بل هو احيانا ملك السجان وأحيانا تمتلكه الكوابيس وفي النادر يصبح جسدي حينما يمتزج بدون خزي مع جسد آخر.

منذ طفولتي المسيحية المتطهرة البروتستنتية تعلمت الخزي من الجسد وتعلمت أيضا التمرد سرا علي الخزي. تقول الآية السادسة والعشرون، الإصحاح الأول، سفر التكوين وقال الله لنصنع الإنسان علي صورتنا كمثالنا.. فخلق الإنسان علي صورته علي صورة الله خلق البشر ذكرا وأنثي خلقهم وباركهم الله¢ وفي الفصل الثاني المعنون: السقوط¢ يحكي القصة الشهيرة عن التفاحة وإغواء حواء لآدم. تقول الآية فانفتحت أعينهما وعرفا انهما عريانان فخاطا من ورق التين وصنعا لهما مآزر¢ وقول آدم للرب سمعت صوتك في الجنة فخفت ولأني عريان فاختبأت
الرب أيضا يؤكد خزي عريهما¢ وصنع الرب الإله لآدم وامرأته ثيابا من جلد وكساهما¢

العري صنو الاختباء من الأعين. عين الرب واعين البشر.

***
السجن يفرض علي المساجين عريا صنو الخزي.

هذا هو خزي السجين: ان يتعري دون رغبة، ممتثلا لأمر السجان.ان يقف في الصف عاريا ينتظر دوره في الحمام الأسبوعي.. حمام مدته لا تزيد علي خمس دقائق يحاول فيها ان يغسل خزي جسده العاري من اهانات لحقته طوال اسبوع كامل وتلحقه الآن في اغتساله الملهوج بصابونة لها رائحة الفنيك: لا تقدم رغوة بل رائحة تذكره بالمراحيض. يحاول ان يستر عريه برغاوي الصابون.

(ما ان تبلغ الصبا حتي تختبئ خلف الثياب: لا تتعري بعد ذلك امام الأهل وتجترك لعريك في وحدتك وطلاسم المراهقة وأحاسيس حارقة بذنوب غامضة كانت في سبيلها إلي التحقق)

في العري الأول في السجن وقفت عاريا بجسد لم يعد يتذكر عريه الطفولي ولم يتعر امام انثي ولم يكشف عن عريه مثل آدم امام الرب.. بل امام السجان بثيابه الكالحة وسحنته الغاضبة المتربصة دوما للعقاب وعينه الفاحصة الباحثة في أجساد التحفت داخل عريها المفاجيء بصمت ثقيل تريد ان تغطي خزيها تحت ستار اللامبالاة المزيف.

عصر الخميس الأول في سجن القناطر. وعصر كل خميس لسنوات: فبدلا من طابور العصر الذي يفرج عن المساجين لمدة اقل من ساعة بعد طابور الصباح المماثل وحبسة الليل الأطول، يعلن السجانون عن الحمام وتدور المفاتيح في ابواب الزنازين.

يلقي إلينا بالثياب الداخلية المصروفة من السجن. ثياب خشنة من الدمور، ارتداها مساجين آخرون، غجسلت بالأحماض، لتدور دورتها العجائبية، كل أسبوع، فليست هناك ثياب داخلية خاصة بك في السجن.
تشارك الآخرين ثيابهم الداخلية مثلما تشاركهم الحمام والمرحاض الذي نجزعت ابوابه عن عمد.

يزداد اللغط بين المساجين يحاولون ان يستردوا ثيابهم الداخلية الخاصة بهم بعد ان وضعوا عليها علاماتهم السرية (في البحث عن خصوصية مستلبة) ينجح البعض في استرداد ثيابهم ويفشل الآخرون. نسير في طوابير: حفاة حليقي الرؤوس، الي مبني آخر به الأدشاش معلقة في عنابر طويلة مفتوحة بدون ابواب او سواتر. تتم الاتفاقات السريعة بين الأصدقاء الذين سيتشاركون في دش واحد: اثنان علي الأقل أو ثلاثة أو اربعة.يكون احدنا قد اخترع لوفة من فضلة ثياب قديمة.

***

اقف عاريا في حمامي الأول (انك تخرج من جديد من رحم الأم الي عالم بالغ القسوة يقجذف بك، ليس إلي صدر الأم بل الي جسد السجان وثيابه الكالحة الخشنة) لا أعرف سوي عدد محدود من الزملاء. لم أكون صداقات بعد. في الثالثة والعشرين، لم تلمس يداي جسد انثي عارية من قبل. لم اشاهد جسدا انثويا عاريا بعد.لم اتعر امام احد منذ الثامنة.

في بيتنا في السودان اتحمم مع ابي وأخي حتي بلغت الثامنة ثم قالوا تحمم لوحدك وللحمام وللمرحاض ابواب وترابيس في بيت يعج بالأهل والضيوف. شققنا الصغيرة ­ في مصر ­ نسخن الماء في حلل كبيرة نحملها الي الحمام نتحمم علي انفراد. اسرة تغلق علي خصوصيتها بالرتاج.

اقف عاريا مع العراة ،انتظر دوري في حمام سجن القناطر. اتجاهل نظرات السجان الوقحة فوق جسدي العشريني.اتجاهل نظرات الزملاء المختلسة الخجولة. انظر أيضا نظرات مختلسة لأجساد الآخرين. يهولني بياضها المفتقد للشمس والضوء. الندوب من التعذيب الذي نفذت انا منه، توقف قبل اعتقالي نتيجة فضيحة مقتل شهدي عطية الشافعي.

المعتقلون الذين سبقوني الي سجن أوردي ابو زعبل هم الذين عبروا الجحيم. خرجوا منه بتذكارات لا تجمحي من اجسادهم ومن ذاكرتهم ومن حياتهم حتي موتهم.

ما أكاد اتصبن حتي يصيح السجان يللا يا مساجين زميلي يهمس ما يهمش.. اكمل حمامك ويعطيني لوفته ويدعك لي ظهري (اول اتصال حميم انساني منذ ان قذفوا بي في سيارة الترحيلة والأقسام ومكاتب المباحث قبل اسبوعين. تدمع عيناي)

حمام ذكوري بامتياز. سجن الرجال مجتمع ذكوري.

في مراكش ­بعد الإفراج بسنوات طويلة ­ ذهبت اكثر من مرة الي الحمام العام. تجربة لطيفة وإنسانية وذكورية أيضا. لكنها لطيفة: تختار ما تريد ويعاملونك كضيف عزيز.

هناك رأيت اجساد الآخرين وشاهدوا جسدي ولم أحس بخزي أو خجل.

ذهبت اكثر من مرة إلي السونا والسونا المشتركة في امستردام ولم اشعر بخجل او خزي ولا حتي بالرغبة الجنسية وانا اشاهد اجساد النساء

استمتعت بالاستلقاء عاريا علي شواطئ العراة . الإحساس الوحيد الذي احسسته اني إنسان وان جسدي هذا المترهل الكهل يخصني واني سعيد به وقابل لتغيراته واني: حتي في عري الكامل هذا، ما أزال انا: محتفظا بخصوصيتي.

***

(حينما كنت مع امرأة للمرة الأولي بعد الإفراج وللمرة الأولي أيضا لي، لم استطع ان اتعري. طلبت منها لو سمحتي ممكن نطفي النور؟)

المساجين القدماء تعاملوا مع تجربة السجن كأمر واقع مثل الطقس. تتجهز له نفسيا وجسديا. فبعد مرات متكررة من الحمام الأسبوعي تعلمتج ان اتجاهل السجان، تعلمت أن استمتع ­في حدود ­ بتجربة الماء الساخن وتعلمت أن اتقبل عريٌ متحدا بعري الآخرين. تجربة العري الغليظة في السجن للذكور، تختلف عن تجربة العري للذكور الآخرين الأحرار: الفرق بين السجن والحرية.

ذات مرة كنت استمع الي برنامج عن تاريخ رقصة السامبا. قال المعلق انها رقصة خاصة بالعبيد الأرقاء جلبوها معهم من أفريقيا و من الكاريبي وطوروها: يرقصونها والأغلال تقيد اقدامهم: لذا تبدو حركة الأقدام حاليا كأنها مقيدة: حركة قصيرة، حذرة ومحسوبة بدقة.

أيضا حسية للغاية!

ومثلما هزم الأرقاء سجانيهم الغلاظ، استطعنا نحن السجناء ان نهزم سجانينا: ان نستمتع بحمامنا وان نتبادل غسل ظهور بعضنا البعض وان نسخر من عرينا وان نفاخر بندوبنا: تعلمت أن الخزي في السجن هو خزي السجان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى