كان للسيّدات رغم كل شيء، بعض فرص للخروج. وكان الذهاب إلى الحمام أحبّها إليهنّ. ورغم أن بعض الدّور كانت تحتوي على حمام خاص، ورغم أن أغلب المساكن جهّزت اليوم ببيوت استحمام، فإن الحمام كان ولا يزال المكان الذي يستطاب الذهاب إليه عشيّة كل عيد أو فرح، يذهب إليه للتطهّر وللاسترخاء، أو لمعالجة برد أو قطان. وتنسب للحمام معجزات: أفلم يحدث أن حملت نساء عاقرات بعد حصص حمام منتظمة؟.
وإذا كان الرجال يستطيبون أن يمسّدوا بشدّة فيلجئون إلى “الطيّاب” ليعركهم ويمدّدهم حتى تطقطق مفاصلهم، فإن النساء يستعنّ بـ”الحارزة” في غسل شعورهن أو ظهورهن أو لتجلب لهن الماء من الحوض، في تلك الأسطل المسطحة الكبير المصنوعة من نحاس مقصدر التي لا تخلو منها جهاز عروس.
وكانت نساء البورجوازية العليا، فيما مضى، يكترين الحمام، كلّه، حتى يكنّ فيه في جوّ عائلي صرف، مع كنّاتهن وبناتهن ووصيفاتهن العديدات. أمّا اليوم، فهنّ يحجزن “المقصورة”، وهي حجرة مفروشة حشايا يلففنها بعناية بألحفة نظيفة ويسترحن فيها عند انتهائهن من الاستحمام.
في حين تلتقي النساء المتواضعات الحال على “الدكّانة” الخشبية، التي لا يغطيّها إلا الحصر، أين يستمتعن وهنّ يرتدين ثيابهن بعض أجمل ما عندهنّ من الملابس الداخلية ويهدين لبعضهن البعض “ماء الكولونيا” والعطر ويثرثرن ويتبادلن النصائح وطرق إعداد الأطعمة. وأثناء ذلك يتمزّزن مشروبات باردة.
لا نجد في المعاجم المعنى الدقيق لمصطلح “الحمّام” في البلدان العربية والإسلامية بيد أن خيط الربط لهذا المعنى في كل المجتمعات عربية إسلامية كانت أو أجنبية يظل واضحا ومتفقا عليه وهو معنى الاستحمام بالماء أو بالسوائل.
وتونس التي تزخر بحوالي ثلاثين ألف معلم وموقع أثري ظلّ “الحمّام” فيها بارزا بالمئات وربّما بالآلاف ضمن هذه الآثار، بل أن مدنا بأكملها اقترن اسمها وانصهر في “الحمّام” على غرار مدن “حمام الأنف” بالضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية و”حمام الأغزاز” بالشمال الشرقي و”حمام بورقيبة” بالشمال الغربي للبلاد التونسية.
وبصرف النظر عما استحدث من حمّامات جديدة في المدن والأحياء والمركبات السكنية الجديدة التي ولّدتها الطفرة السكانية التي تلت استقلال تونس سنة 1956، هناك حمّامات ظلّت صامدة قرونا وقد تظلّ كذلك لاسيما تلك التي تستمد ماءها من المنابع الطبيعية الساخنة من باطن الأرض، فلهذه الحمامات مزاياها ومنافعها على صحة الإنسان، وإلى حدّ اليوم ينصح الأطباء مرضاهم ويعدون لهم وصفة محدّدة للاستحمام فيها للتخلّص من بعض الأمراض الجلدية وداء المفاصل أو الروماتيزم أو أوجاع العمود الفقري وغير ذلك من الأمراض.
والتداوي في مثل هذه الحمّامات مكلّف جدّا بالنسبة للمواطن العادي وقد يصل إلى آلاف الدولارات في الأسبوع الواحد لأن حصص التداوي يباشرها أطباء مختصون وطاقم شبه طبي على مدار اليوم وتتخلّل فترات الاستحمام عمليات تدليك وأحيانا عمليات طلاء بالطين الساخن وغيره من المستحضرات الطبيعية والصناعية ونظرا لارتفاع الكلفة فإن المواطنين الذين تشملهم التغطية الاجتماعية يسترجعون مقابل ما أنفقوه من شركات التأمين أو من الصندوق الوطني للتضامن الاجتماعي أو الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية تماما شأنهم شأن نزلاء المستشفيات العمومية أو المصحات الخاصة.
* الحمام التونسي التقليدي:
وبصرف النظر عن الحمّامات ذات المزايا الإكلينيكية والصحية صاحبة الشهرة العريقة لا يخلو اليوم حي سكني في تونس من حمّام بل أن الحي الواحد الذي لا يتعدّى تعداد سكانه خمسة آلاف نسمة تجد به حمّامات تعمل أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين ساعة نصفها مخصص للرجال والنصف الآخر للنساء.
والذهاب إلى الحمام بالنسبة للمواطنة والمواطن التونسيين تقليد قديم تمسكت به الأجيال وتداولته بما في ذلك أجيال اليوم التي تملك في مساكنها الخاصة بيوت استحمام.
فالحمام بالنسبة للتونسيين جزء لا يتجزّأ من التراث والهوية.
ولكل حمام في كل حي تونسي قصّة وتاريخ تمتزج فيهما الأسطورة بالواقع بما يجعل مرتاد الحمام خلال فترة الاسترخاء فيه يستعيد توازنه الذهني والجسدي.
* حمام النساء وحمام الرجال:
الطقوس في الحمّام واحدة بالنسبة للرجال وللنساء.
بالنسبة للرجال تبدأ عادة الذهاب للحمّام منذ الصغر أي من سن الرابعة حيث يصطحب الأب ابنه إلى هذا المكان للنظافة والتطهر، وزائر الحمّام للمرّة الأولى يجد هندسته واحدة منذ أقدم العصور سواء كان الحمّام عصريا يستخدم ماء الحنفية والتدفئة بالطاقة أو طبيعيا تقليديا مزودا بالماء الطبيعي المعدني.
وعند الدخول يجد الزائر نفسه في مدخل الحمام أمام ما يسمى بـ”الحارز” أي المشرف على هذه المؤسسة فهو الذي يأخذ المقابل الذي لا يتعدّى معدله دولارا واحدا كما يسلم الزائر الأشياء النفيسة لهذا “الحارز” للحفظ سواء كانت ساعة أو نقود أو ذهبا أو فضة ويسلم المشرف على الحمام بدوره مفتاحا للزائر يحمل رقم أحد الرفوف أو الخزائن الصغيرة المعلقة على جدران الحمّام يحفظ فيها ثيابه وحذائه من التلف. وبعدما يخلع الزائر ثيابه يستر عورته بخرقة أو قطعة قماش ويضع في رجليه ما يعرف في تونس بـ”القبقاب” وهو عبارة عن حذاء خشبي لتفادي الانزلاق على أرضية الحمّام المبلّلة والمغطاة بالرخام أو بما شابهه.
وبناية الحمام مجزّأة إلى ثلاثة أقسام درجة الحرارة في جزءها الأوّل تتعدّى ما هو موجود في الخارج أو الشارع بخمس درجات وتصل في الجزء الثاني إلى أربعين درجة وتبلغ ذروتها في الجزء الثالث الذي يسمى في تونس بـ”بيت السخون” حيث تصل إلى ستين درجة مائوية.
وعادة ما يقصد المستحم “بيت السخون” مباشرة ويظل هناك مدة تتراوح بين 15 و30 دقيقة حسب طاقة تحمّل جسده إذ بعد دقائق يبدأ العرق يتصبّب من جسده بدون انقطاع إلى أن يعود إلى الجزء الثاني من الحمام ويكون أمامه اختياران إما أن يتكفّل هو بنفسه بتمسيد وتنظيف جسده وإمّا أن يطلب من الحارز “طيّابا”.
و”الطيّاب” هو شخص يعمل باستمرار في الحمّام حرفته التكفّل بأجساد الحرفاء وتمسيدها وتدليكها وتنظيفها.
يُجلس “الطيّاب” حريفه على الأرض باسطا رجليه أمامه ثم يبدأ عملية التدليك والتمسيد من أعلى الرأس والجبين والرقبة إلى أسفل الرجلين.
بعد ذلك يتمدّد الحريف على ظهره ثم على بطنه بعد أن يكون “الطيّاب” قد ضغط وعصر كل جزء من جسمه والعرق يتصبّب من الجسم المتروك لتقنيات وفنيات “الطيّاب”.
وقد أحصى بعض الأطباء كمية العرق الذي يفرزه الجسم في الحمّام بأكثر من لتر نسبة كبيرة منها من الدهون والسموم.
وإن مكث الحريف في “بيت السخون” فترة أكثر من اللزوم فقد يغمى عليه وأحيانا تكون الكارثة إذا كان يعاني من بعض الأمراض مثل السكري وضغط الدم أو فقره… ويعرف كافة التونسيين بـ”السليقة” مدّة الزمن المخصص للمكوث في “بيت السخون”.
بعد أن ينظف الحريف جسده بنفسه أو بواسطة “طيّاب” يدخل إلى غرفة صغيرة بها حنفية ماء بارد وأخرى تعمل بالماء الساخن تصبان في حوض واحد ويغسل شعره إمّا بالطفل وإمّا بالمستحضرات العصرية كما يدلّك جسده بالصابون بعد أن يكون البعض من الحرفاء قد استعملوا مستحضرات النباتات والأعشاب الطبيعية إما للتطيّب أو للتطبيب. إثر ذلك يلفّ زائر الحمّام كامل جسده بمنشفة أو بمنديل كبير يكون قد وفّره لنفسه وجلبه معه من بيته ثم يخرج ويعود إلى الجزء الأوّل من الحمام ويتمدّد على الحشايا إلى أن يجف العرق بالكامل وعندها يشعر زائر الحمّام بأنه يحمل جسدا آخر غير جسده، إنه جسد طاهر ونقي تخلّص من رواسب الدهون وتدفّق الدم في كل شرايينه بعد أن حظيت كل عضلة من عضلاته بالتمسيد والتدليك.
وعادة لا يقصد التونسيون والتونسيات الحمّام فرادى بل جماعات ليدلّك ويمسّد بعضهم البعض الآخر متى وقع الاستغناء عن خدمات “الطيّاب” الذي يتعدّى ما يدفع إليه مقابل الحمّام.
ويعرف كلّ زائر حمّام إن “الطيّاب” خدوم وماكر في نفس الوقت، يكون خدوما لحرفائه الذين يمدونه بالزائد عن المقابل المادي الذي يتقاضاه ويكون ماكرا وجاحدا ومختصرا لحصة التنظيف لمن لا يعطيه الزائد وعادة ما يعرض عن تنظيف حرفاء لا عهد له بهم بذريعة أنه مرهق من فرط الحرارة وسرعان ما تزول هذه الذريعة بعرض مادي سخي من الحريف.
وما يقال عن حمّام الرجال ينطبق بالكامل عن حمّام النساء لأن الفضاء هو نفس الفضاء.
وبعض الحمّامات تتوفّر فيها أماكن للحلاقة بالنسبة للرّجال وأماكن أخرى للتجميل بالنسبة للنساء.
وفي كل المدن والأحياء السكنية التونسية مازال الحمّام يعد المكان الملائم للعريس والعروس إذ داخله تقع عملية الحلاقة واللباس والزينة والتطيب ومنه مباشرة يقصد العريس قاعة الأفراح لإعلان العرس ثم بيت الزوجية.
كما أن الحمام أيضا هو المكان الملائم للرجال على غرار المقاهي للقاء صديق أو لتبادل الحديث أو لعقد صفقة تجارية.
أما بالنسبة للمرأة فإنه أفضل وسيلة إعلام إذ منه تبث المرة ما تريد إبلاغه لبنات جنسها ومن فضائه تلتقط كل المعلومات وخفايا الحي أو المدينة التي تقطن.
وبالنسبة لبعض الصبايا فإن الحمّام يوفر لهنّ في كثير من الأحيان فرص الخطوبة ثم الزواج لأن بعض الأمهات يقصدن الحمّام لغرض البحث عن الأنثى التي تلائم أبناءهن على مستوى الجسد ثم يقع التعرّف في وقت لاحق على الطباع والأخلاق والسلوك.
كما أن الحمّام ظلّ مصدر إلهام للفنانين والمبدعين التونسيين، فمن فضائه استمدوا رسوماتهم ولوحاتهم على غرار الفنان التشكيلي عثمان الخضراوي الذي جمع كل لوحاته ذات العلاقة بالحمام وأصدرها في كتاب ومازالت الذاكرة الشعبية التونسية تحتفظ بالمسرحية الإذاعية التي أضحكت من الأعماق الملايين بعد أن اختار المسرحي المبدع القدير البشير الرحّال أن تكون فصول المسرحية تدور داخل فضاء الحمّام.
وإذا كان الرجال يستطيبون أن يمسّدوا بشدّة فيلجئون إلى “الطيّاب” ليعركهم ويمدّدهم حتى تطقطق مفاصلهم، فإن النساء يستعنّ بـ”الحارزة” في غسل شعورهن أو ظهورهن أو لتجلب لهن الماء من الحوض، في تلك الأسطل المسطحة الكبير المصنوعة من نحاس مقصدر التي لا تخلو منها جهاز عروس.
وكانت نساء البورجوازية العليا، فيما مضى، يكترين الحمام، كلّه، حتى يكنّ فيه في جوّ عائلي صرف، مع كنّاتهن وبناتهن ووصيفاتهن العديدات. أمّا اليوم، فهنّ يحجزن “المقصورة”، وهي حجرة مفروشة حشايا يلففنها بعناية بألحفة نظيفة ويسترحن فيها عند انتهائهن من الاستحمام.
في حين تلتقي النساء المتواضعات الحال على “الدكّانة” الخشبية، التي لا يغطيّها إلا الحصر، أين يستمتعن وهنّ يرتدين ثيابهن بعض أجمل ما عندهنّ من الملابس الداخلية ويهدين لبعضهن البعض “ماء الكولونيا” والعطر ويثرثرن ويتبادلن النصائح وطرق إعداد الأطعمة. وأثناء ذلك يتمزّزن مشروبات باردة.
لا نجد في المعاجم المعنى الدقيق لمصطلح “الحمّام” في البلدان العربية والإسلامية بيد أن خيط الربط لهذا المعنى في كل المجتمعات عربية إسلامية كانت أو أجنبية يظل واضحا ومتفقا عليه وهو معنى الاستحمام بالماء أو بالسوائل.
وتونس التي تزخر بحوالي ثلاثين ألف معلم وموقع أثري ظلّ “الحمّام” فيها بارزا بالمئات وربّما بالآلاف ضمن هذه الآثار، بل أن مدنا بأكملها اقترن اسمها وانصهر في “الحمّام” على غرار مدن “حمام الأنف” بالضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية و”حمام الأغزاز” بالشمال الشرقي و”حمام بورقيبة” بالشمال الغربي للبلاد التونسية.
وبصرف النظر عما استحدث من حمّامات جديدة في المدن والأحياء والمركبات السكنية الجديدة التي ولّدتها الطفرة السكانية التي تلت استقلال تونس سنة 1956، هناك حمّامات ظلّت صامدة قرونا وقد تظلّ كذلك لاسيما تلك التي تستمد ماءها من المنابع الطبيعية الساخنة من باطن الأرض، فلهذه الحمامات مزاياها ومنافعها على صحة الإنسان، وإلى حدّ اليوم ينصح الأطباء مرضاهم ويعدون لهم وصفة محدّدة للاستحمام فيها للتخلّص من بعض الأمراض الجلدية وداء المفاصل أو الروماتيزم أو أوجاع العمود الفقري وغير ذلك من الأمراض.
والتداوي في مثل هذه الحمّامات مكلّف جدّا بالنسبة للمواطن العادي وقد يصل إلى آلاف الدولارات في الأسبوع الواحد لأن حصص التداوي يباشرها أطباء مختصون وطاقم شبه طبي على مدار اليوم وتتخلّل فترات الاستحمام عمليات تدليك وأحيانا عمليات طلاء بالطين الساخن وغيره من المستحضرات الطبيعية والصناعية ونظرا لارتفاع الكلفة فإن المواطنين الذين تشملهم التغطية الاجتماعية يسترجعون مقابل ما أنفقوه من شركات التأمين أو من الصندوق الوطني للتضامن الاجتماعي أو الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية تماما شأنهم شأن نزلاء المستشفيات العمومية أو المصحات الخاصة.
* الحمام التونسي التقليدي:
وبصرف النظر عن الحمّامات ذات المزايا الإكلينيكية والصحية صاحبة الشهرة العريقة لا يخلو اليوم حي سكني في تونس من حمّام بل أن الحي الواحد الذي لا يتعدّى تعداد سكانه خمسة آلاف نسمة تجد به حمّامات تعمل أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين ساعة نصفها مخصص للرجال والنصف الآخر للنساء.
والذهاب إلى الحمام بالنسبة للمواطنة والمواطن التونسيين تقليد قديم تمسكت به الأجيال وتداولته بما في ذلك أجيال اليوم التي تملك في مساكنها الخاصة بيوت استحمام.
فالحمام بالنسبة للتونسيين جزء لا يتجزّأ من التراث والهوية.
ولكل حمام في كل حي تونسي قصّة وتاريخ تمتزج فيهما الأسطورة بالواقع بما يجعل مرتاد الحمام خلال فترة الاسترخاء فيه يستعيد توازنه الذهني والجسدي.
* حمام النساء وحمام الرجال:
الطقوس في الحمّام واحدة بالنسبة للرجال وللنساء.
بالنسبة للرجال تبدأ عادة الذهاب للحمّام منذ الصغر أي من سن الرابعة حيث يصطحب الأب ابنه إلى هذا المكان للنظافة والتطهر، وزائر الحمّام للمرّة الأولى يجد هندسته واحدة منذ أقدم العصور سواء كان الحمّام عصريا يستخدم ماء الحنفية والتدفئة بالطاقة أو طبيعيا تقليديا مزودا بالماء الطبيعي المعدني.
وعند الدخول يجد الزائر نفسه في مدخل الحمام أمام ما يسمى بـ”الحارز” أي المشرف على هذه المؤسسة فهو الذي يأخذ المقابل الذي لا يتعدّى معدله دولارا واحدا كما يسلم الزائر الأشياء النفيسة لهذا “الحارز” للحفظ سواء كانت ساعة أو نقود أو ذهبا أو فضة ويسلم المشرف على الحمام بدوره مفتاحا للزائر يحمل رقم أحد الرفوف أو الخزائن الصغيرة المعلقة على جدران الحمّام يحفظ فيها ثيابه وحذائه من التلف. وبعدما يخلع الزائر ثيابه يستر عورته بخرقة أو قطعة قماش ويضع في رجليه ما يعرف في تونس بـ”القبقاب” وهو عبارة عن حذاء خشبي لتفادي الانزلاق على أرضية الحمّام المبلّلة والمغطاة بالرخام أو بما شابهه.
وبناية الحمام مجزّأة إلى ثلاثة أقسام درجة الحرارة في جزءها الأوّل تتعدّى ما هو موجود في الخارج أو الشارع بخمس درجات وتصل في الجزء الثاني إلى أربعين درجة وتبلغ ذروتها في الجزء الثالث الذي يسمى في تونس بـ”بيت السخون” حيث تصل إلى ستين درجة مائوية.
وعادة ما يقصد المستحم “بيت السخون” مباشرة ويظل هناك مدة تتراوح بين 15 و30 دقيقة حسب طاقة تحمّل جسده إذ بعد دقائق يبدأ العرق يتصبّب من جسده بدون انقطاع إلى أن يعود إلى الجزء الثاني من الحمام ويكون أمامه اختياران إما أن يتكفّل هو بنفسه بتمسيد وتنظيف جسده وإمّا أن يطلب من الحارز “طيّابا”.
و”الطيّاب” هو شخص يعمل باستمرار في الحمّام حرفته التكفّل بأجساد الحرفاء وتمسيدها وتدليكها وتنظيفها.
يُجلس “الطيّاب” حريفه على الأرض باسطا رجليه أمامه ثم يبدأ عملية التدليك والتمسيد من أعلى الرأس والجبين والرقبة إلى أسفل الرجلين.
بعد ذلك يتمدّد الحريف على ظهره ثم على بطنه بعد أن يكون “الطيّاب” قد ضغط وعصر كل جزء من جسمه والعرق يتصبّب من الجسم المتروك لتقنيات وفنيات “الطيّاب”.
وقد أحصى بعض الأطباء كمية العرق الذي يفرزه الجسم في الحمّام بأكثر من لتر نسبة كبيرة منها من الدهون والسموم.
وإن مكث الحريف في “بيت السخون” فترة أكثر من اللزوم فقد يغمى عليه وأحيانا تكون الكارثة إذا كان يعاني من بعض الأمراض مثل السكري وضغط الدم أو فقره… ويعرف كافة التونسيين بـ”السليقة” مدّة الزمن المخصص للمكوث في “بيت السخون”.
بعد أن ينظف الحريف جسده بنفسه أو بواسطة “طيّاب” يدخل إلى غرفة صغيرة بها حنفية ماء بارد وأخرى تعمل بالماء الساخن تصبان في حوض واحد ويغسل شعره إمّا بالطفل وإمّا بالمستحضرات العصرية كما يدلّك جسده بالصابون بعد أن يكون البعض من الحرفاء قد استعملوا مستحضرات النباتات والأعشاب الطبيعية إما للتطيّب أو للتطبيب. إثر ذلك يلفّ زائر الحمّام كامل جسده بمنشفة أو بمنديل كبير يكون قد وفّره لنفسه وجلبه معه من بيته ثم يخرج ويعود إلى الجزء الأوّل من الحمام ويتمدّد على الحشايا إلى أن يجف العرق بالكامل وعندها يشعر زائر الحمّام بأنه يحمل جسدا آخر غير جسده، إنه جسد طاهر ونقي تخلّص من رواسب الدهون وتدفّق الدم في كل شرايينه بعد أن حظيت كل عضلة من عضلاته بالتمسيد والتدليك.
وعادة لا يقصد التونسيون والتونسيات الحمّام فرادى بل جماعات ليدلّك ويمسّد بعضهم البعض الآخر متى وقع الاستغناء عن خدمات “الطيّاب” الذي يتعدّى ما يدفع إليه مقابل الحمّام.
ويعرف كلّ زائر حمّام إن “الطيّاب” خدوم وماكر في نفس الوقت، يكون خدوما لحرفائه الذين يمدونه بالزائد عن المقابل المادي الذي يتقاضاه ويكون ماكرا وجاحدا ومختصرا لحصة التنظيف لمن لا يعطيه الزائد وعادة ما يعرض عن تنظيف حرفاء لا عهد له بهم بذريعة أنه مرهق من فرط الحرارة وسرعان ما تزول هذه الذريعة بعرض مادي سخي من الحريف.
وما يقال عن حمّام الرجال ينطبق بالكامل عن حمّام النساء لأن الفضاء هو نفس الفضاء.
وبعض الحمّامات تتوفّر فيها أماكن للحلاقة بالنسبة للرّجال وأماكن أخرى للتجميل بالنسبة للنساء.
وفي كل المدن والأحياء السكنية التونسية مازال الحمّام يعد المكان الملائم للعريس والعروس إذ داخله تقع عملية الحلاقة واللباس والزينة والتطيب ومنه مباشرة يقصد العريس قاعة الأفراح لإعلان العرس ثم بيت الزوجية.
كما أن الحمام أيضا هو المكان الملائم للرجال على غرار المقاهي للقاء صديق أو لتبادل الحديث أو لعقد صفقة تجارية.
أما بالنسبة للمرأة فإنه أفضل وسيلة إعلام إذ منه تبث المرة ما تريد إبلاغه لبنات جنسها ومن فضائه تلتقط كل المعلومات وخفايا الحي أو المدينة التي تقطن.
وبالنسبة لبعض الصبايا فإن الحمّام يوفر لهنّ في كثير من الأحيان فرص الخطوبة ثم الزواج لأن بعض الأمهات يقصدن الحمّام لغرض البحث عن الأنثى التي تلائم أبناءهن على مستوى الجسد ثم يقع التعرّف في وقت لاحق على الطباع والأخلاق والسلوك.
كما أن الحمّام ظلّ مصدر إلهام للفنانين والمبدعين التونسيين، فمن فضائه استمدوا رسوماتهم ولوحاتهم على غرار الفنان التشكيلي عثمان الخضراوي الذي جمع كل لوحاته ذات العلاقة بالحمام وأصدرها في كتاب ومازالت الذاكرة الشعبية التونسية تحتفظ بالمسرحية الإذاعية التي أضحكت من الأعماق الملايين بعد أن اختار المسرحي المبدع القدير البشير الرحّال أن تكون فصول المسرحية تدور داخل فضاء الحمّام.