ولن أحكي هنا عن حمامات أوروبا، وعن الجاكوزي والتدليك بالماء وعما أضافته من خبرات جديدة لمتعة الاستحمام، ولا عن الساونا السويدية وما أدراك ما السونا السويدية، ولكني أحب ألا اختم هذا المقال عن الحمام دون أن أحكي تجربة الحمام المغربية التي أردت الكتابة عنها حينما طلب مني عزت القمحاوي الإسهام في عدد الحمام الخاص. كان ذلك عام 1991 وكنت قد حصلت من عملي في جامعة لندن علي إجازة بحثية لقضائها في بلدان المغرب العربي للتعرف عن كثب علي المشهد الأدبي والمسرحي فيه. وقررت السفر بالسيارة إلي تونس حيث كانت نيتي أن أقضي بها شهرين، ثم اواصل الرحلة البرية للجزائر لقضاء شهرين آخرين، وانتقل بعدها للمغرب لشهرين ثالثين. ولكن حالت أحداث الجزائر وقتها دون حصولي علي تأشيرة دخول للجزائر، وكان علي السفر مع سيارتي بالباخرة من تونس إلي الدار البيضاء. وحينما وصلتها ذات صباح اتصلت بالصديق العزيز محمد زفزاف، وسألته أن يرشدني إلي فندق معقول لقضاء يومين أو ثلاثة في البيضاء، قبل سفري إلي الرباط حيث كنت سأقيم هناك في بيت الصديق محمد برادة أثناء غيابه عنه في فرنسا وقتها.
فما كان من زفزاف إلا أن رفض بشدة، وطلب مني الانتظار في مقهي قرب الميناء، وسيبعث بمن يأتي بي إلي بيته. ولم يفلح جهدي في إثنائه عن هذه الدعوة، فلم أكن قد التقيت زفزاف إلا مرة واحدة أو مرتين من قبل، وإن كنا نعرف بعضنا منذ كنا ننشر معا في (الآداب) في فترة ازدهارها في الستينات، وكان قد بعث لي قبل أن ألتقيه بمخطوطة (المرأة والوردة) علي ورق خفيف لاتزال حتي اليوم بين أوراقي، كي أكتب لها مقدمة حالت ظروف سفري دون كتابتها. ومع ذلك كان ثمة إحساس بأن هناك أواصر قوية تجمعنا، وقد أمضيت معه في تلك الزيارة ثلاثة أيام لاتنسي، أرجو أن أعود يوما للكتابة عنها بشيء من التفصيل، ولم أزر البيضاء بعدها دون التعريج عليه في شقته الصغيرة تلك بحي المعارف، بل وزرته أكثر من مرة في باريس إبان علاجه بها. فليتغمدك الله برحمته الواسعة يا صديقي العزيز.
المهم جاء من أخذني إلي شقة محمد زفزاف، وهي شقة صغيرة في الدور الثاني من بيت صغير. بها غرفة معيشة كبيرة مؤسسة علي الطريقة المغربية بكنب عريض يمتد حول حوائطها الأربعة للجلوس نهارا ويمكن استخدامه للنوم ليلا. وبها غرفة نوم واحدة هي غرفة زفزاف الذي كان ينام فيها ويكتب فيها أيضا، وبها مرحاض صغير ومطبخ صغير وبينهما حوض للاغتسال. وقد استغربت لأنه لم يكن في الشقة حمام، ولما عبرت لزفزاف عن استغرابي ذاك، قال ولماذا الحمام. أنا أذهب إلي الحمام العمومي مرتين في الأسبوع، أو كلما عن لي الاستحمام، وسأذهب غدا وأصحبك معي. وكانت هذه هي المرة الأولي في حياتي التي أذهب فيها إلي مثل هذا الحمام. فأحسست بفداحة الخسارة التي خسرناها في مصر حينما تركنا تلك الحمامات للانقراض. صحيح أنني كنت قد شاهدت مشاهد أكزوتيكية للحمام العمومي في أفلام سينمائية، أو زرت نماذج منه بين أطلال الأندلس التليدة، ولكن تجربة هذا الحمام، حمام محمد زفزاف ذاك كانت شيئا فريدا.
كان حماما تقليديا ولكنه استفاد من وسائل نقل المياه الحديثة والمواسير، لم أشعر معه أنني أدخل إلي حمام عمومي، مع أنه حمام عمومي، وإنما إلي فضاء اجتماعي مألوف للجميع وحميم. فقد كانت دائرة معارف زفزاف في الحمام لاتقل أهمية عن دائرة معارفه من المثقفين الذين يلتقون كل مساء في مقهي قريب من منزله. ليس فقط لأن الجميع كانوا يحيونه بالاسم والتبجيل المغربي المؤدب 'سي زفزاف'، وكأنه عاد بعد غياب وهو الذي كان هناك من يومين، ولكن أيضا لأن جلسة الحمام وقد تحرر فيها الإنسان من ملابسه ورسمياته كانت حميمية وديموقراطية بالمعني العميق والمحترم لهذا المصطلح. يناقش فيها كل فرد همومه وقضايا أسرته، ويتبادل مع الآخرين آخر الأخبار، وتناقش فيها قضايا عديدة ومشاكل تبدأ مما يحدث في الحمام، وما جري لمدلكه العجوز، ولا تنتهي عندما يحدث في القصر الملكي.
وقد لفت زفزاف نظري إلي أن هذه الحميمية التي تسود مناخ الحمام، تعود في تحليله إلي أن كل الرجال الذين تراهم هنا فقد كنا في حمام للرجال، وهناك حمامات خاصة للنسوان بدأوا تجربتهم في الحمام في حمام النسوان. لأن الصبيان الصغار يذهبون للاستحمام مع أمهاتهم في حمام النسوان، حتي يبلغوا الحلم فيمنعون عنه. ولذلك فإنهم عندما أصبح لهم حمامهم الرجالي الخاص جلبوا إليه تلك الحميمية ومناخ الثرثرة والتآزر من حمام النسوان. فقد كان الحمام مؤسسة اجتماعية حميمية بالمعني الأصيل لهذه الكلمة، أو إطارا لمجتمع مدني بالمعني العميق لهذا المصطلح الذي ابتذل كثيرا. وكان الجدل الذي دار في الحمام طوال أكثر من ساعة يستدعي في ذهني جدل الساسة في حمامات روما القديمة التي كانت تحاك فيها المؤامرات، ولكنه هنا جدل اجتماعي أكثر منه سياسيا. كان هذا الحمام مؤسسة حية تنهض بعدة أدوار للفرد وللمجتمع علي السواء. وأظن أنه مازال حتي الآن يمارس هذه الأدوار في المجتمع المغربي الذي حافظ علي كل ما له قيمه في تراثه القديم.
فما كان من زفزاف إلا أن رفض بشدة، وطلب مني الانتظار في مقهي قرب الميناء، وسيبعث بمن يأتي بي إلي بيته. ولم يفلح جهدي في إثنائه عن هذه الدعوة، فلم أكن قد التقيت زفزاف إلا مرة واحدة أو مرتين من قبل، وإن كنا نعرف بعضنا منذ كنا ننشر معا في (الآداب) في فترة ازدهارها في الستينات، وكان قد بعث لي قبل أن ألتقيه بمخطوطة (المرأة والوردة) علي ورق خفيف لاتزال حتي اليوم بين أوراقي، كي أكتب لها مقدمة حالت ظروف سفري دون كتابتها. ومع ذلك كان ثمة إحساس بأن هناك أواصر قوية تجمعنا، وقد أمضيت معه في تلك الزيارة ثلاثة أيام لاتنسي، أرجو أن أعود يوما للكتابة عنها بشيء من التفصيل، ولم أزر البيضاء بعدها دون التعريج عليه في شقته الصغيرة تلك بحي المعارف، بل وزرته أكثر من مرة في باريس إبان علاجه بها. فليتغمدك الله برحمته الواسعة يا صديقي العزيز.
المهم جاء من أخذني إلي شقة محمد زفزاف، وهي شقة صغيرة في الدور الثاني من بيت صغير. بها غرفة معيشة كبيرة مؤسسة علي الطريقة المغربية بكنب عريض يمتد حول حوائطها الأربعة للجلوس نهارا ويمكن استخدامه للنوم ليلا. وبها غرفة نوم واحدة هي غرفة زفزاف الذي كان ينام فيها ويكتب فيها أيضا، وبها مرحاض صغير ومطبخ صغير وبينهما حوض للاغتسال. وقد استغربت لأنه لم يكن في الشقة حمام، ولما عبرت لزفزاف عن استغرابي ذاك، قال ولماذا الحمام. أنا أذهب إلي الحمام العمومي مرتين في الأسبوع، أو كلما عن لي الاستحمام، وسأذهب غدا وأصحبك معي. وكانت هذه هي المرة الأولي في حياتي التي أذهب فيها إلي مثل هذا الحمام. فأحسست بفداحة الخسارة التي خسرناها في مصر حينما تركنا تلك الحمامات للانقراض. صحيح أنني كنت قد شاهدت مشاهد أكزوتيكية للحمام العمومي في أفلام سينمائية، أو زرت نماذج منه بين أطلال الأندلس التليدة، ولكن تجربة هذا الحمام، حمام محمد زفزاف ذاك كانت شيئا فريدا.
كان حماما تقليديا ولكنه استفاد من وسائل نقل المياه الحديثة والمواسير، لم أشعر معه أنني أدخل إلي حمام عمومي، مع أنه حمام عمومي، وإنما إلي فضاء اجتماعي مألوف للجميع وحميم. فقد كانت دائرة معارف زفزاف في الحمام لاتقل أهمية عن دائرة معارفه من المثقفين الذين يلتقون كل مساء في مقهي قريب من منزله. ليس فقط لأن الجميع كانوا يحيونه بالاسم والتبجيل المغربي المؤدب 'سي زفزاف'، وكأنه عاد بعد غياب وهو الذي كان هناك من يومين، ولكن أيضا لأن جلسة الحمام وقد تحرر فيها الإنسان من ملابسه ورسمياته كانت حميمية وديموقراطية بالمعني العميق والمحترم لهذا المصطلح. يناقش فيها كل فرد همومه وقضايا أسرته، ويتبادل مع الآخرين آخر الأخبار، وتناقش فيها قضايا عديدة ومشاكل تبدأ مما يحدث في الحمام، وما جري لمدلكه العجوز، ولا تنتهي عندما يحدث في القصر الملكي.
وقد لفت زفزاف نظري إلي أن هذه الحميمية التي تسود مناخ الحمام، تعود في تحليله إلي أن كل الرجال الذين تراهم هنا فقد كنا في حمام للرجال، وهناك حمامات خاصة للنسوان بدأوا تجربتهم في الحمام في حمام النسوان. لأن الصبيان الصغار يذهبون للاستحمام مع أمهاتهم في حمام النسوان، حتي يبلغوا الحلم فيمنعون عنه. ولذلك فإنهم عندما أصبح لهم حمامهم الرجالي الخاص جلبوا إليه تلك الحميمية ومناخ الثرثرة والتآزر من حمام النسوان. فقد كان الحمام مؤسسة اجتماعية حميمية بالمعني الأصيل لهذه الكلمة، أو إطارا لمجتمع مدني بالمعني العميق لهذا المصطلح الذي ابتذل كثيرا. وكان الجدل الذي دار في الحمام طوال أكثر من ساعة يستدعي في ذهني جدل الساسة في حمامات روما القديمة التي كانت تحاك فيها المؤامرات، ولكنه هنا جدل اجتماعي أكثر منه سياسيا. كان هذا الحمام مؤسسة حية تنهض بعدة أدوار للفرد وللمجتمع علي السواء. وأظن أنه مازال حتي الآن يمارس هذه الأدوار في المجتمع المغربي الذي حافظ علي كل ما له قيمه في تراثه القديم.