ذكرنا في مقال سابق أن الصراع بين اللغات ينشأ عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله؛ وثانيهما أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة، فيتبادلا المنافع، ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي. ثم تكلمنا عن الحالات التي يؤدي فيها العامل الأول إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى وما يمتاز به هذا التغلب من خصائص وما يتصل به من شؤون
وسنعرض في هذه الكلمة للحالات التي يؤدي فيها العامل الثاني إلى مثل هذه النتيجة
يتيح تجاور شعبين مختلفي اللغة فرصاً كثيرة لاحتكاك لغتيهما فتشتبكان في صراع ينتهي أحياناً إلى تغلب واحدة منهما على الأخرى فتصبح لغة الشعبين؛ ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كانت نسبة النمو في أحد الشعبين كبيرة لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ على شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته. ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى من أهلها في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. وأكثرها دلالة بهذا الصدد ما كان من أمر اللغة الألمانية؛ فقد طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لألمانيا بأوربا الوسطى (بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا. . . الخ) وقضت على لهجاتها الأولى
الحالة الثانية: إذا تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له، وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ، على شريطة ألا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في مختلف مراحل التاريخ. فلغة شعوب (الباسك) قد أخذت تنهز أمام اللغة الفرنسية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الفرنسيين، وأمام اللغة الإسبانية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الإسبانيين حتى كادت تنقرض في كلتيهما. - واللهجات السلتية التي كان يتكلم بها معظم السكان بايرلندا واسكتلندا وويلز قد أخذت تنهزم أمام اللغة الإنجليزية منذ أن تغلغل نفوذ إنجلترا في هذه البلاد، حتى زالت من لغة الأدب والكتابة، وكادت تنقرض انقراضاً تاماً من لغة الحديث. وهكذا كان مصير اللهجة السلتية التي بقيت بمقاطعة البريتون (في القسم الغربي من فرنسا على سواحل الأطلانطيق)، فقد أخذت تنهزم أمام اللغة الفرنسية منذ أن تغلغل نفوذ فرنسا في هذه المقاطعة، حتى لم يبق لها إلا آثار ضئيلة في لغة الحديث بين الأميين من الشيوخ. - واللغة الفرنسية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها ببلجيكا وسويسرا؛ فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لجميع سكان والونيا ببلجيكا ولنحو 22 % من سكان سويسرا - واللغة الإيطالية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها بسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 5 , 3 % من سكان هذه الجمهورية
وعلى هذا الأساس نفسه تتغلب في المملكة الواحدة لغة المقاطعة التي تكون بها العاصمة أو يكون لأهلها السلطان والنفوذ؛ فلوقوع عاصمة بلجيكا (بروكسل) في مقاطعة والونيا ذات اللسان الفرنسي، ولأن سكان هذه المقاطعة يتمتعون بقسط كبير من النفوذ والسلطان في هذه المملكة، أخذت اللغة الفرنسية تتغلب على الفلامندية (لغة القسم الشمالي من بلجيكا المسمى (فلاندر)) وتنتقصها من أطرافها. ولوقوع عاصمة سويسرا (برن) في القسم الناطق بالألمانية، ولأن سكان هذا القسم يتمتعون بأكبر قسط من النفوذ والسلطان وتتألف منهم الأغلبية الساحقة (يتكلم الألمانية في سويسرا نحو 70 % من أهلها) أخذت اللغة الألمانية تطغي على ألسنة الناطقين بالفرنسية من السويسريين. وقد أخذت لغة قريش قبيل الإسلام تتغلب على اللغات المضرية الأخرى، لما كانت تتمتع به من سلطان أدبي، ويستأثر به أهلها من نفوذ ديني وسياسي
وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالبا لإحدى اللغتين إلا بعد أمد طويل يبلغ أحياناً بضعة قرون، فالصراع بين الألمانية والفرنسية بسويسرا قد بدأ منذ عهد سحيق؛ ومع ذلك لم يتم بعد للألمانية النصر النهائي. والصراع بين اللغة الفرنسية واللسان السلتي الذي يتكلم به البريتونيون (سكان مقاطعة البريتون قد نشب منذ عدة قرون؛ ومع ذلك لا يزال كثير من شيوخ البريتون في العصر الحاضر يتكلمون بهذا اللسان. ولا تزال اللهجة السلتية لغة محادثة بين عادة الايرلنديين في العصر الحاضر، مع أن تغلب الإنجليزية عليها قد بدأ في هذه البلاد منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وقد أخذت لغة قريش تطغي على اللغات المضرية الأخرى منذ العصر الجاهلي؛ ومع ذلك ظلت هذه اللغات حية في كثير من المواطن إلى أواخر العصر العباسي
وغني عن البيان أن انتصاراً لا يتم إلا بعد أمد طويل لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة التي كان عليها من قبل. فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع. بل أن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في بعض مظاهرها وبخاصة في مفرداتها كما سبقت الإشارة إلى ذلك في العامل الأول. غير أن تجرد العامل الذي نحن بصدد الكلام عنه من عنف النزاع وشدة المقاومة، وحدوث نتائجه في صورة سلمية متدرجة بطيئة، كل ذلك يعمل على وقاية اللغة الغالبة، ويخفف من مبلغ تأثرها باللغة المغلوبة
والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة، ينالها بعض التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً)، فتختلف بعض الاختلاف في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى.
والكلمات الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك بعض التحريف في حروفها ومعانيها وأساليب نطقها فتبعد في جميع هذه النواحي عن شكلها القديم
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها نفس المراحل التي أشرنا إليها في العامل الأول فينفذ الانحلال أولاً إلى مفرداتها ثم إلى أصواتها ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات ويتم الإجهاز عليها بالقضاء على قواعدها.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
مجلة الرسالة - العدد 349
بتاريخ: 11 - 03 - 1940
وسنعرض في هذه الكلمة للحالات التي يؤدي فيها العامل الثاني إلى مثل هذه النتيجة
يتيح تجاور شعبين مختلفي اللغة فرصاً كثيرة لاحتكاك لغتيهما فتشتبكان في صراع ينتهي أحياناً إلى تغلب واحدة منهما على الأخرى فتصبح لغة الشعبين؛ ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كانت نسبة النمو في أحد الشعبين كبيرة لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ على شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته. ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى من أهلها في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. وأكثرها دلالة بهذا الصدد ما كان من أمر اللغة الألمانية؛ فقد طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لألمانيا بأوربا الوسطى (بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا. . . الخ) وقضت على لهجاتها الأولى
الحالة الثانية: إذا تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له، وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ، على شريطة ألا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في مختلف مراحل التاريخ. فلغة شعوب (الباسك) قد أخذت تنهز أمام اللغة الفرنسية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الفرنسيين، وأمام اللغة الإسبانية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الإسبانيين حتى كادت تنقرض في كلتيهما. - واللهجات السلتية التي كان يتكلم بها معظم السكان بايرلندا واسكتلندا وويلز قد أخذت تنهزم أمام اللغة الإنجليزية منذ أن تغلغل نفوذ إنجلترا في هذه البلاد، حتى زالت من لغة الأدب والكتابة، وكادت تنقرض انقراضاً تاماً من لغة الحديث. وهكذا كان مصير اللهجة السلتية التي بقيت بمقاطعة البريتون (في القسم الغربي من فرنسا على سواحل الأطلانطيق)، فقد أخذت تنهزم أمام اللغة الفرنسية منذ أن تغلغل نفوذ فرنسا في هذه المقاطعة، حتى لم يبق لها إلا آثار ضئيلة في لغة الحديث بين الأميين من الشيوخ. - واللغة الفرنسية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها ببلجيكا وسويسرا؛ فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لجميع سكان والونيا ببلجيكا ولنحو 22 % من سكان سويسرا - واللغة الإيطالية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها بسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 5 , 3 % من سكان هذه الجمهورية
وعلى هذا الأساس نفسه تتغلب في المملكة الواحدة لغة المقاطعة التي تكون بها العاصمة أو يكون لأهلها السلطان والنفوذ؛ فلوقوع عاصمة بلجيكا (بروكسل) في مقاطعة والونيا ذات اللسان الفرنسي، ولأن سكان هذه المقاطعة يتمتعون بقسط كبير من النفوذ والسلطان في هذه المملكة، أخذت اللغة الفرنسية تتغلب على الفلامندية (لغة القسم الشمالي من بلجيكا المسمى (فلاندر)) وتنتقصها من أطرافها. ولوقوع عاصمة سويسرا (برن) في القسم الناطق بالألمانية، ولأن سكان هذا القسم يتمتعون بأكبر قسط من النفوذ والسلطان وتتألف منهم الأغلبية الساحقة (يتكلم الألمانية في سويسرا نحو 70 % من أهلها) أخذت اللغة الألمانية تطغي على ألسنة الناطقين بالفرنسية من السويسريين. وقد أخذت لغة قريش قبيل الإسلام تتغلب على اللغات المضرية الأخرى، لما كانت تتمتع به من سلطان أدبي، ويستأثر به أهلها من نفوذ ديني وسياسي
وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالبا لإحدى اللغتين إلا بعد أمد طويل يبلغ أحياناً بضعة قرون، فالصراع بين الألمانية والفرنسية بسويسرا قد بدأ منذ عهد سحيق؛ ومع ذلك لم يتم بعد للألمانية النصر النهائي. والصراع بين اللغة الفرنسية واللسان السلتي الذي يتكلم به البريتونيون (سكان مقاطعة البريتون قد نشب منذ عدة قرون؛ ومع ذلك لا يزال كثير من شيوخ البريتون في العصر الحاضر يتكلمون بهذا اللسان. ولا تزال اللهجة السلتية لغة محادثة بين عادة الايرلنديين في العصر الحاضر، مع أن تغلب الإنجليزية عليها قد بدأ في هذه البلاد منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وقد أخذت لغة قريش تطغي على اللغات المضرية الأخرى منذ العصر الجاهلي؛ ومع ذلك ظلت هذه اللغات حية في كثير من المواطن إلى أواخر العصر العباسي
وغني عن البيان أن انتصاراً لا يتم إلا بعد أمد طويل لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة التي كان عليها من قبل. فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع. بل أن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في بعض مظاهرها وبخاصة في مفرداتها كما سبقت الإشارة إلى ذلك في العامل الأول. غير أن تجرد العامل الذي نحن بصدد الكلام عنه من عنف النزاع وشدة المقاومة، وحدوث نتائجه في صورة سلمية متدرجة بطيئة، كل ذلك يعمل على وقاية اللغة الغالبة، ويخفف من مبلغ تأثرها باللغة المغلوبة
والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة، ينالها بعض التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً)، فتختلف بعض الاختلاف في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى.
والكلمات الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك بعض التحريف في حروفها ومعانيها وأساليب نطقها فتبعد في جميع هذه النواحي عن شكلها القديم
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها نفس المراحل التي أشرنا إليها في العامل الأول فينفذ الانحلال أولاً إلى مفرداتها ثم إلى أصواتها ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات ويتم الإجهاز عليها بالقضاء على قواعدها.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
مجلة الرسالة - العدد 349
بتاريخ: 11 - 03 - 1940