مع أوّل كتاب لمسته يداي -غير كتب المدرسة- فغمت أنفي رائحة التبغ الخام ممتزجة برائحة الكتب الصفراء، الورق الهشّ والطباعة الحجرية، مزيج من روائح كانت تفور من نبع سريّ في حجرة معتمة تسلّلت إليها ذات ظهيرة صيف أنا الصبية بنت التاسعة التي تتصبّب عرقا وترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفها الأولى لتمزق أوّل الحجب..
مفارقة جعلتني وأنا صبية أتمزق بين أشواق أرضية ونزوع سماوي، فدخلت ظلال الأفكار وترحلّت في خفاء الحلم دون أن أفقد ظلي.. أبي كان ماركسيا حالما باليوتوبيا والعدالة مسحورا -شأنه شأن الكثيرين- بالنظرية التي فتنتهم وعودها الفردوسية.
كان وصحبه يتداولون كتبا تعذر عليّ -أنا ابنة التاسعة- فهم مضامينها، وكانوا يغرونني بقراءتها فكنت أقلبها بعجالة وأهجرها إلى أحلامي وقصصي الطفولية التي كنت أكتبها وأرسم أحداثها في الصفحة المقابلة وأتمتع بخلق شخصيات لا وجود لها في عالم الكبار المضجر..
مقابل ضلال أبي الماركسي -كما كان يقال- كان زوج خالتي تاجر التبغ المتدّين يحظى باحترام العامة ونفور المتعلمين والمثقفين، ومقابل كتب أبي التي تتخطّى فضاء المقدس إلى مديات الحرية، كان زوج خالتي يقيم أذكارا دينية، ويؤمّ الذكر دراويش ومشرّدون ومتصوّفة ومشايخ وجياع ولصوص وكان يرقّي المرضى والمصروعين ويعوّذ الأطفال بالأحجبة..
ذات ظهيرة والكل نيام في قيلولة الصيف سقط عصفور صغير من عشّه في نخلة تتوسط فناء بيت الخالة، ودخل نافذة حجرة كانوا يحرمون علينا ولوجها نحن البنات الصغيرات، وهي مخزن لغلة التبغ التي يأتون بها من بلدة راوندوز في جبال الشمال، رأيت حزما كبيرة من أوراق التبغ المجفّفة بعروقها الخشنة معلقة على الجدران، التبغ الناعم كان معبأ في أكياس الجوت الكبيرة، سلال أخرى كانت ترصّ فيها كميات من التبغ الخشن وعلى الجدار المقابل للباب كانت عشرات الدفوف التي تستخدم في الطقوس الدينية معلقة هناك. قفز العصفور ما بين تلال التبغ وجدار الدفوف ولاحقته وهو يقف على إطار دف عملاق. مددت يدي، فارتطمت ذراعي بالدف وسقط على الأرض محدثا ضجة مجلجلة حسب ما أوهمني خوفي، وطار العصفور من النافذة.
ولبثت هناك سجينة مغامرتي وفضولي، رأيت قبالتي خزانة كتب، كانت مجمع الغوايات كلها، ولهذا حظروا على البنات دخول الغرفة، مددت يدي إلى أكبر الكتب حجما، كان كتابا أصفر الغلاف وقد تبقع بضوء الكوة السماوية إنه «ألف ليلة وليلة»، قرأت الاسم وأنا في رعبي أتخيل حشدا من الليالي السود تضغط على قلبي الراعش، فيسقط في الظلمات. ألف ليلة من الليل الذي كان يرعبني بأشباحه وغيلانه المنبثقة من كهوف الحكايا. كيف تكون هذه الآلاف من الليالي؟
تصفحت الكتاب الذي تمزقت حافات أوراقه الهشة، وتضافرت رائحة التبغ ورائحة الورق العتيق وعبق الظلمة ورائحة الجلد المشدود على أطر الدفوف في صنع جوّ من الغرابة للصبيّة الخائفة، ولكي أتجاوز خوفي المركّب من دخول الغرفة واكتشاف الكنز المحرّم خطفت ورقة تبغ ومضغتها فلذعني مذاقها المرّ الحارق والتهبت شفتاي..
في هذه البرهة الخارجة من سياق زمن الطفولة، تعرفت إلى لذّة المحرّم المجهول وأنا أقلب صفحات سفر الحكايات وألج باب الخيال الجامح في مطاردتي لطائر صغير وأنغمر في لجج من روائح متنافرة «عبق التبغ المرّ وشذى ماء الورد ورائحة الجلد والخشب وأوراق الكتب العتيقة وغبارها الشهيّ ورائحة البسط الصوفية المنقوشة بموتيفات سومرية وبدوية».
قرأت وتسمرت أمام أحداث الحكاية-الإطار لألف ليلة ودفعني فضولي لمواصلة القراءة وملاحقة مصير الفتاة التي اختارت المجازفة بحياتها لتكشف سر الملك الفاتك قاتل النساء وترجئ موتها وموت البنات المضحّى بهنّ على مذبح شهوات ملك عاجز..
أصابني الدوار وأنا أتوغل في النص ورائحة التبغ تفغم حواسي. كنت قد شهدت ليلة الأذكار الصوفية بالأمس وأرهفت السمع للأناشيد الدينية ينشدها مغنّ ضرير مع فرقته على إيقاع نقر الدفوف، كان الدراويش ينودون برؤوسهم ويتحركون على الإيقاع المتسارع ويهمهمون بكلمات مبهمة، حتى إذا تعالى صوت المنشد بالمدائح النبوية وهاجت مشاعر المنصتين وقفت مجموعة منهم وتحركت الأجساد النحيلة حركات مترنّحة وتمايلت على وقع النقر الرتيب.
في تلك اللحظة كانت صورة العالم قد تغيرت في وجدان ابنة التاسعة وتحدد مصير الكاتبة ووعيها وبدأت تتشكل بذور غدها الموصول إلى عالم الخيال بعد اكتشاف كتاب ألف ليلة ومتعة السماع، وامتزجت الحكاية بالموسيقى وسحر الكلمات وارتبطت معرفة خفايا النساء والجنس وحكايات العشق العجيبة بروائح التبغ ونقر الدفوف وأشذاء ماء الورد والزعفران، وكلما ذكر كتاب ألف ليلة وليلة فغمت أنفي تلك الرائحة واستعادت حواسّي غبطة الكشف الأول لمعارفي الجديدة عن البشر والسلطة والمكائد وهشاشة الحياة الانسانية.
ولبثت مأخوذة بغواية القصّ وشخصية القاصة البارعة شهرزاد وخصوبة مخيلتها، حتى كتبت عنها فيما بعد أقصوصة معاصرة بعنوان «ما لم يقله الرواة» وظهرت في كتاب حمل اسم القصة ذاتها..
لطفية الدليمي
مفارقة جعلتني وأنا صبية أتمزق بين أشواق أرضية ونزوع سماوي، فدخلت ظلال الأفكار وترحلّت في خفاء الحلم دون أن أفقد ظلي.. أبي كان ماركسيا حالما باليوتوبيا والعدالة مسحورا -شأنه شأن الكثيرين- بالنظرية التي فتنتهم وعودها الفردوسية.
كان وصحبه يتداولون كتبا تعذر عليّ -أنا ابنة التاسعة- فهم مضامينها، وكانوا يغرونني بقراءتها فكنت أقلبها بعجالة وأهجرها إلى أحلامي وقصصي الطفولية التي كنت أكتبها وأرسم أحداثها في الصفحة المقابلة وأتمتع بخلق شخصيات لا وجود لها في عالم الكبار المضجر..
مقابل ضلال أبي الماركسي -كما كان يقال- كان زوج خالتي تاجر التبغ المتدّين يحظى باحترام العامة ونفور المتعلمين والمثقفين، ومقابل كتب أبي التي تتخطّى فضاء المقدس إلى مديات الحرية، كان زوج خالتي يقيم أذكارا دينية، ويؤمّ الذكر دراويش ومشرّدون ومتصوّفة ومشايخ وجياع ولصوص وكان يرقّي المرضى والمصروعين ويعوّذ الأطفال بالأحجبة..
ذات ظهيرة والكل نيام في قيلولة الصيف سقط عصفور صغير من عشّه في نخلة تتوسط فناء بيت الخالة، ودخل نافذة حجرة كانوا يحرمون علينا ولوجها نحن البنات الصغيرات، وهي مخزن لغلة التبغ التي يأتون بها من بلدة راوندوز في جبال الشمال، رأيت حزما كبيرة من أوراق التبغ المجفّفة بعروقها الخشنة معلقة على الجدران، التبغ الناعم كان معبأ في أكياس الجوت الكبيرة، سلال أخرى كانت ترصّ فيها كميات من التبغ الخشن وعلى الجدار المقابل للباب كانت عشرات الدفوف التي تستخدم في الطقوس الدينية معلقة هناك. قفز العصفور ما بين تلال التبغ وجدار الدفوف ولاحقته وهو يقف على إطار دف عملاق. مددت يدي، فارتطمت ذراعي بالدف وسقط على الأرض محدثا ضجة مجلجلة حسب ما أوهمني خوفي، وطار العصفور من النافذة.
ولبثت هناك سجينة مغامرتي وفضولي، رأيت قبالتي خزانة كتب، كانت مجمع الغوايات كلها، ولهذا حظروا على البنات دخول الغرفة، مددت يدي إلى أكبر الكتب حجما، كان كتابا أصفر الغلاف وقد تبقع بضوء الكوة السماوية إنه «ألف ليلة وليلة»، قرأت الاسم وأنا في رعبي أتخيل حشدا من الليالي السود تضغط على قلبي الراعش، فيسقط في الظلمات. ألف ليلة من الليل الذي كان يرعبني بأشباحه وغيلانه المنبثقة من كهوف الحكايا. كيف تكون هذه الآلاف من الليالي؟
تصفحت الكتاب الذي تمزقت حافات أوراقه الهشة، وتضافرت رائحة التبغ ورائحة الورق العتيق وعبق الظلمة ورائحة الجلد المشدود على أطر الدفوف في صنع جوّ من الغرابة للصبيّة الخائفة، ولكي أتجاوز خوفي المركّب من دخول الغرفة واكتشاف الكنز المحرّم خطفت ورقة تبغ ومضغتها فلذعني مذاقها المرّ الحارق والتهبت شفتاي..
في هذه البرهة الخارجة من سياق زمن الطفولة، تعرفت إلى لذّة المحرّم المجهول وأنا أقلب صفحات سفر الحكايات وألج باب الخيال الجامح في مطاردتي لطائر صغير وأنغمر في لجج من روائح متنافرة «عبق التبغ المرّ وشذى ماء الورد ورائحة الجلد والخشب وأوراق الكتب العتيقة وغبارها الشهيّ ورائحة البسط الصوفية المنقوشة بموتيفات سومرية وبدوية».
قرأت وتسمرت أمام أحداث الحكاية-الإطار لألف ليلة ودفعني فضولي لمواصلة القراءة وملاحقة مصير الفتاة التي اختارت المجازفة بحياتها لتكشف سر الملك الفاتك قاتل النساء وترجئ موتها وموت البنات المضحّى بهنّ على مذبح شهوات ملك عاجز..
أصابني الدوار وأنا أتوغل في النص ورائحة التبغ تفغم حواسي. كنت قد شهدت ليلة الأذكار الصوفية بالأمس وأرهفت السمع للأناشيد الدينية ينشدها مغنّ ضرير مع فرقته على إيقاع نقر الدفوف، كان الدراويش ينودون برؤوسهم ويتحركون على الإيقاع المتسارع ويهمهمون بكلمات مبهمة، حتى إذا تعالى صوت المنشد بالمدائح النبوية وهاجت مشاعر المنصتين وقفت مجموعة منهم وتحركت الأجساد النحيلة حركات مترنّحة وتمايلت على وقع النقر الرتيب.
في تلك اللحظة كانت صورة العالم قد تغيرت في وجدان ابنة التاسعة وتحدد مصير الكاتبة ووعيها وبدأت تتشكل بذور غدها الموصول إلى عالم الخيال بعد اكتشاف كتاب ألف ليلة ومتعة السماع، وامتزجت الحكاية بالموسيقى وسحر الكلمات وارتبطت معرفة خفايا النساء والجنس وحكايات العشق العجيبة بروائح التبغ ونقر الدفوف وأشذاء ماء الورد والزعفران، وكلما ذكر كتاب ألف ليلة وليلة فغمت أنفي تلك الرائحة واستعادت حواسّي غبطة الكشف الأول لمعارفي الجديدة عن البشر والسلطة والمكائد وهشاشة الحياة الانسانية.
ولبثت مأخوذة بغواية القصّ وشخصية القاصة البارعة شهرزاد وخصوبة مخيلتها، حتى كتبت عنها فيما بعد أقصوصة معاصرة بعنوان «ما لم يقله الرواة» وظهرت في كتاب حمل اسم القصة ذاتها..
لطفية الدليمي