كتب إ. ش. غومبريتش "أ ن ا أ ق رأ"، ثم يجمعها "أنا أستطيع أن اقرأ"، أليس هذا مذهلاً؟ فقط بستة وعشرين رمزاً، رمز لكل صوت، لا يزيد كل منها على زوج من الانحناءات، نستطيع أن نكتب كل ما نريد!
القراءة أهم الاختراعات التي جاء بها الإنسان. إنها محطة كبرى في تاريخ البشرية؛ فبواسطة الستة والعشرين رمزاً تلك يمكن كتابة كل كلمة تخطر بالبال. إنه اختراع جديد تماماً.
قبل اختراع طباعة الكتب لم تكن القراءة رائجة خارج جدران الأديرة، والأغنياء فقط يمكنهم اقتناؤها. ومن كان يريد التعرف على كتاب معين أو كاتب ما، لن يمكنه سوى حضور جلسات المحاضرات العامة. الكتب كانت صعبة المنال لندرتها ما دامت تنسخ بخط اليد. الطباعة جعلت الكتاب في متناول الجميع. القراءة ساهمت في نشر المعرفة والوعي ما مهد للديمقراطية.
يكتب آلبرتو مانغويل عن تجربته مع القراءة ما يأتي:
"وما أن تمكنت من ربط العلامات السوداء بعضها مع بعض وتحويلها إلى حقائق حية، حتى أصبحت إنساناً جباراً. كنت أستطيع أن أقرأ. كان الأمر بمثابة اكتشاف مفاجئ لحاسة سادسة". فالقراءة امتداد لحواسنا لأنها تسمح لنا بعبور عوالم لا متناهية ونحن في مقاعدنا. كل فعل نقوم به هو قراءة: عالم الفلك يقرأ السماء والصياد والباحث في الطبيعة يقرآن آثار الحيوانات ويقرأ لاعب الورق وجوه اللاعبين ويقرأ المشاهد حركات الراقصين وهكذا... حياتنا قائمة على قراءة الإشارات التي يقدمها لنا البشر. إشارات تقودنا إلى إشارات وهذه إلى معرفة أعمق. القراءة كالتنفس، نمارسها دون انقطاع. إنها الحرية، فهي تسمح لنا بالنفاذ من الرقابة الصارمة حول النصوص الممنوعة، وتخلصنا من محاكاة الآخرين عندما نستمع إلى الحكواتي مثلا، فنضحك عندما يضحكون ونحزن معهم. يصبح لنا رأينا الشخصي لتفاعلنا مع النص بحرية فيتكون لدينا الحس النقدي.
مكنت القراءة الصامتة القارئ من إقامة علاقة مباشرة مع الكتاب والكلمة. القراءة تنتشر في مكان داخلي وتقبع هناك. يكسب القارئ الصامت وقتاً للتمعن بالكلمات وإعادة قراءتها والتلذذ بها والإنصات إلى إيقاعاتها. النص المحروس من أعين الدخلاء والمتطفلين هو مخزن معلومات القارئ وكنزه السري.
الأحرف تسمح لنا بالتخاطب مع الغائبين أيضاً.
شرح الإله ثوث الكتابة للفرعون المصري كما يلي: "فرع من التعلّم سيحسن ذاكرة شعبك؛ إن اختراعي وصفة تخدم الذاكرة والحكمة". إلا أن الملك رد قائلاً: "عندما يحصل الناس على هذه القدرات، فإنها ستزرع النسيان في قلوبهم، وسيتوقفون عن تدريب ذاكرتهم. إن ما اخترعته ليس وصفة للذاكرة وإنما للتذكر".
لكن الصور والكلمات لا تدخل إلى عقل القارئ دون إحداث تغيير متبادل. بل يعاد خلقها من جديد، كما أنها بدورها تقوم بإحداث تبدل أو تغيير عند قارئها. سبق لمالك بن نبي أن وصف الأثر الذي تحدثه عند من يتعلم القراءة. فوصف تغير وجوه فريق من العمال الجزائريين الذين قام بتعليمهم دروساً لمحو الأمية: "كانت الوجوه ذات وميض وحشي، وقد تأنسنت تدريجياً. لقد اختفى بريقها الحيواني ليحل محله شيء ما، ينم عن حضور فكرة ما داخلية. فالشفاه أطبقت أو زاد تقاربها. الرأس الذي تلقّى فكرة شغّل عضلات الصدغ؛ التي تعمل كنابض يشد نحو الفك الأسفل الذي يغلق الفم". اختلف تعبير الوجه وتحوّل بسبب الألفبائية.
لهذا يخاف الديكتاتور من الكتب ومن قراءتها. من هنا قائمة الكتب الممنوعة والكتّاب مهدوري الدم.
إن النظم الشمولية ليست الوحيدة التي تخشى القراءة. بل تجري الرقابة على الكتب في ساحات المدارس وفي خزائن الملابس وفي دوائر الدولة والسجون خوفاً من سلطانها وقوتها الكامنة.
إن الخوف الأزلي مما قد يفعله القارئ بكتابه يشبه الخوف الأزلي الذي يبديه الرجال مما قد تفعله النساء بأجسادهن.
(باحثة لبنانية)
القراءة أهم الاختراعات التي جاء بها الإنسان. إنها محطة كبرى في تاريخ البشرية؛ فبواسطة الستة والعشرين رمزاً تلك يمكن كتابة كل كلمة تخطر بالبال. إنه اختراع جديد تماماً.
قبل اختراع طباعة الكتب لم تكن القراءة رائجة خارج جدران الأديرة، والأغنياء فقط يمكنهم اقتناؤها. ومن كان يريد التعرف على كتاب معين أو كاتب ما، لن يمكنه سوى حضور جلسات المحاضرات العامة. الكتب كانت صعبة المنال لندرتها ما دامت تنسخ بخط اليد. الطباعة جعلت الكتاب في متناول الجميع. القراءة ساهمت في نشر المعرفة والوعي ما مهد للديمقراطية.
يكتب آلبرتو مانغويل عن تجربته مع القراءة ما يأتي:
"وما أن تمكنت من ربط العلامات السوداء بعضها مع بعض وتحويلها إلى حقائق حية، حتى أصبحت إنساناً جباراً. كنت أستطيع أن أقرأ. كان الأمر بمثابة اكتشاف مفاجئ لحاسة سادسة". فالقراءة امتداد لحواسنا لأنها تسمح لنا بعبور عوالم لا متناهية ونحن في مقاعدنا. كل فعل نقوم به هو قراءة: عالم الفلك يقرأ السماء والصياد والباحث في الطبيعة يقرآن آثار الحيوانات ويقرأ لاعب الورق وجوه اللاعبين ويقرأ المشاهد حركات الراقصين وهكذا... حياتنا قائمة على قراءة الإشارات التي يقدمها لنا البشر. إشارات تقودنا إلى إشارات وهذه إلى معرفة أعمق. القراءة كالتنفس، نمارسها دون انقطاع. إنها الحرية، فهي تسمح لنا بالنفاذ من الرقابة الصارمة حول النصوص الممنوعة، وتخلصنا من محاكاة الآخرين عندما نستمع إلى الحكواتي مثلا، فنضحك عندما يضحكون ونحزن معهم. يصبح لنا رأينا الشخصي لتفاعلنا مع النص بحرية فيتكون لدينا الحس النقدي.
مكنت القراءة الصامتة القارئ من إقامة علاقة مباشرة مع الكتاب والكلمة. القراءة تنتشر في مكان داخلي وتقبع هناك. يكسب القارئ الصامت وقتاً للتمعن بالكلمات وإعادة قراءتها والتلذذ بها والإنصات إلى إيقاعاتها. النص المحروس من أعين الدخلاء والمتطفلين هو مخزن معلومات القارئ وكنزه السري.
الأحرف تسمح لنا بالتخاطب مع الغائبين أيضاً.
شرح الإله ثوث الكتابة للفرعون المصري كما يلي: "فرع من التعلّم سيحسن ذاكرة شعبك؛ إن اختراعي وصفة تخدم الذاكرة والحكمة". إلا أن الملك رد قائلاً: "عندما يحصل الناس على هذه القدرات، فإنها ستزرع النسيان في قلوبهم، وسيتوقفون عن تدريب ذاكرتهم. إن ما اخترعته ليس وصفة للذاكرة وإنما للتذكر".
لكن الصور والكلمات لا تدخل إلى عقل القارئ دون إحداث تغيير متبادل. بل يعاد خلقها من جديد، كما أنها بدورها تقوم بإحداث تبدل أو تغيير عند قارئها. سبق لمالك بن نبي أن وصف الأثر الذي تحدثه عند من يتعلم القراءة. فوصف تغير وجوه فريق من العمال الجزائريين الذين قام بتعليمهم دروساً لمحو الأمية: "كانت الوجوه ذات وميض وحشي، وقد تأنسنت تدريجياً. لقد اختفى بريقها الحيواني ليحل محله شيء ما، ينم عن حضور فكرة ما داخلية. فالشفاه أطبقت أو زاد تقاربها. الرأس الذي تلقّى فكرة شغّل عضلات الصدغ؛ التي تعمل كنابض يشد نحو الفك الأسفل الذي يغلق الفم". اختلف تعبير الوجه وتحوّل بسبب الألفبائية.
لهذا يخاف الديكتاتور من الكتب ومن قراءتها. من هنا قائمة الكتب الممنوعة والكتّاب مهدوري الدم.
إن النظم الشمولية ليست الوحيدة التي تخشى القراءة. بل تجري الرقابة على الكتب في ساحات المدارس وفي خزائن الملابس وفي دوائر الدولة والسجون خوفاً من سلطانها وقوتها الكامنة.
إن الخوف الأزلي مما قد يفعله القارئ بكتابه يشبه الخوف الأزلي الذي يبديه الرجال مما قد تفعله النساء بأجسادهن.
(باحثة لبنانية)