تندرج رواية "الشطار" ضمن الأدب البيكارسكي –Picaresque- الذي تعود جذوره إلى فن المقامة والأدب الإسباني. ويمكن اعتبار هذا النص كذلك سيرة ذاتية روائية أو رواية ذات ملامح أطوبيوغرافية لوجود ضمير المتكلم، وصيغة الحاضر، واسترجاع الماضي، واستعمال الكتابة النثرية، واعتماد تقنية التذكر، وتطابق الذات الكاتبة مع الذات المتحدث عنها (الشخصية المحورية).
ويعتبر محمد شكري – حسب الدكتور علي الراعي- رائد الأدب الشطاري أو الرواية الواقعية الاحتيالية: وذلك بروايته "الخبز الحافي" حيث يقول: " وفي أدبنا العربي الحديث ظهرت في السنوات الأخيرة سيرة ذاتية روائية بعنوان "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري. وهي تحكي المغامرات الاحتيالية واللصوصية والجنسية لشاب أمي في أدنى مراتب الفقر، ينتقل بين طنجة ومدن المغرب، بحثا عن لقمة الخبز الحاف.
والسيرة تعود بالكتابة الروائية عندنا إلى النقطة التي كان ينبغي أن تبدأ منها الرواية العربية، مستندة إلى المقامات مطورة إياها إلى فن روائي عربي الأساس، " ولعلها على المدى أن تقود إلى فن روائي عربي يكون أكثر صدقا وأحر طعما من كثير مما يكتب الآن في حقل الرواية العربية، شريطة أن تتلخص من بعض ما يصدم الشعور بلا مبرر فني، ويجعل السيرة في بعض أجزائها صراخ احتجاج طفولي ورغبة في تحطيم المواضعات لمجرد التحطيم.
ومن الطريف اللافت للنظر أن تظهر هذه السيرة الروائية في المغرب، البلد المجاور لإسبانيا، التي أخرجت رواية لازاريللو ذي تورميس، وأن تتحرك في أرجائها شخصيات من إسبانيا، ما بين شرطة ومحققين ومدنيين أوجدهم الحكم الإسباني وأوسع لهم ..(1)."
وتكمل رواية الشطار رواية الخبز الحافي. حيث ترصد هذه المرة مغامرات شكري المجونية والعبثية ما بين الريف مسقط رأسه وطنجة التي جعلها مكانا لإثبات ذاته الوجودية وشطارته الذهنية.
هذا، وقد ركزت الرواية على الكيفية التي ولج بها شكري عالم المدرسة لأول مرة، وهو كبير السن رغبة في الانسلاخ من الأمية ومحو الفقر. بيد أن المدير رفض قبوله أول مرة؛ ولكنه في الأخير استجاب لطلب مرسله الذي كانت له علاقة طيبة به.
وبعد امتحانات أولية في الحساب والإسبانية، تقرر ضم الكاتب إلى تلاميذ المدرسة الابتدائية، وبدأ حياته الدراسية بطريقة عصامية تعتمد على التعلم الذاتي على الرغم من كبر سنه وفقره المدفع. فقد كان الفتى من أسرة وضيعة جدا نزحت من الريف عام المجاعة لتستقر في كوخ بمدينة تطوان.
وشمر الكاتب التلميذ عن ساعده ليواجه عدة صعوبات مادية ومعنوية. ولكنه ذللها بالجد والمثابرة والمغامرات الاحتيالية والشطارية. وانتقل بعد حصوله على الشهادة الابتدائية إلى الثانوي ثم مركز تكوين المعلمين. وبعد ذلك سيعين معلما في طنجة على الرغم من عدم نجاحه في امتحان التخرج.
وتمتاز علاقة شكري بأفراد أسرته بالتنوع والاختلاف إذ يقسو على أبيه الذي كان يسخر منه ويود قتله والتخلص منه، ولا يحب فيه إلا جيبه. بينما علاقة الفتى بأمه أساسها المودة والمحبة والحنان والرأفة. وعلى العموم كان يطغى على هذه العلاقات الجفاء والبرود العاطفي لانعدام الانسجام بين أفراد الأسرة. وكان الكاتب شاطرا صعلوكا يرغب في الحياة، ويقبل عليها بنهم مجوني لإشباع الرغبات الجنسية والغرائز الجسدية ناهيك عن إقباله المفرط على الخمر والحشيش والكيف المخدر وغير ذلك من المخدرات التي كانت يتهافت عليها صعاليك الشمال المغربي إبان استقلال المغرب وانتصار الحركة الوطنية وطرد المستعمر الإسباني من البلاد.
هذا، وإن رواية "الشطار" رواية واقعية اجتماعية تصور طبقة الصعاليك والشطار الفقراء الذين لم يكونوا محظوظين في حياتهم ولم ينالوا الحنان الأسري. بل وجدوا أنفسهم في الشوارع يطاردهم الفقر، ويدغدغهم الجوع، وتنهشهم الأمية، ينتقلون من فندق إلى آخر باحثين عن لذة عابرة، ومن حانة إلى أخرى اقتناصا للذات وإشباعا للرغبات الواعية والمكبوتة. ويلاحظ أن الرواية ثورة على الظلم، وسخرية من الزيف الاجتماعي والنفاق الطبقي، والتشدق بالشرف والتمسك بشكل الاحترام لإخفاء الانهيار الخلقي للشرفاء المحترمين(1).
وتتداخل في هذه الرواية مجموعة من القيم المتناقضة كالعبثية والمجون والشبقية والرغبة في العلم والمعرفة. ويمكن إدراج هذه الرواية ضمن التيار الواقعي الانتقادي بمفهومه العام، وفي خانة الرواية الوجودية نظرا لكونها تطرح قضية العبث والحرية وفلسفة القلق والالتزام بالواقع والتحرر الذاتي من إسار التقاليد والتمرد على نواميس الأخلاق ومواضعات القانون وقيم الأعراف والعادات.
ويمكن كذلك استخلاص مجموعة من التيمات التي تجعل من هذه الرواية شطارية مادامت ترصد فئة المهمشين الذين يعيشون على هامش المجتمع. وهذه التيمات هي : الجنس، والدعارة، والمخدرات، والصعلكة، والمغامرات العبثية والمجونية والفقر، والاحتيال، وتملك المعرفة الأدبية والفنية ، ومصاحبة الشطار، والتمرد على الأخلاق والقوانين والأعراف الاجتماعية.
وتذكرنا هذه الرواية بالبيكارو Picaro في رواية المؤلف الإسباني المجهول "لازاريللوذي تورميس" (ق 16م) Lazarillo de Tormes، فنقط الالتقاء غير قليلة. كلاهما فقير مدقع، مضيق عليه في الرزق، وكلاهما مغامر جواب آفاق، يستخدم ذكاءه البين في طلب الرزق، لا يتردد في هذا السبيل أن يغش ويخدع ويسأل الناس، ويسرقهم أحيانا(1).
وينقل لنا محمد شكري في هذه الرواية الواقع بكل أمانة وصدق دون تزييف ولا مواربة. ويسجل سيرة ذاتية قائمة على ذكر الأخطاء والمساوئ بدلا من ذكر الإيجابيات واستعراض العضلات المعرفية والذهنية والوجدانية كما هو الشأن في الأيام لطه حسين، أو الطفولة لعبد المجيد بن جلون، أوأوراق لعبد الله العروي، أو حياتي لأحمد أمين. إنه يعبر بكل صدق عن فئة المشردين والمنبوذين في المجتمع المغربي بصفة خاصة، والعربي بصفة عامة، تلك الفئة التي تعيش وضعا هامشيا خارج تاريخ المجتمع ونواميسه الموضوعة، فئة منبوذة اجتماعيا وأدبيا.
وتتسم رواية الشطار بالجرأة في تناول قضايا الجنس والدعارة وإن كان ليس بالشكل الذي عرفناه في روايته الأولى (الخبز الحافي)، وربما يعود هذا إلى دور الرقابة العربية في منع كتاب يتناول قضايا جنسية بالمعنى "البورنوغرافي" العميق على غرار كتابات ألبرتو مورافيا الكاتب الجنسي الإيطالي.
وهكذا، يعبر شكري في سيرته الذاتية عن فئة الشطار التي لا تمتلك أدوات الإنتاج، وتعيش على حافة المدن بدون أي أمل في الدخول إلى المجتمع المحترم أو في مجرد الوصول إليه. ويعبر شكري خير تعبير عن إحساس أوشعور هذه الفئة بالنبذ(1).
ومن ثم، فرواية الشطار تعبير عن رفض للواقع الكائن ومواضعاته الزائفة، وتمرد على مبتذلات الحياة والفقر المدقع والجفاء الأسري وطغيان المادة على أخلاقيات البشر. وما الخمرة والجنس والمخدرات إلا مظاهر للتنفيس السيكولوجي اللاشعوري عن مكبوتات وعقد اجتماعية ونفسية نابعة من الإحساس بالدونية والتهميش والنقص والفقر والازدراء الطبقي. لذا، فالرواية شهادة ووثيقة تاريخية عن أوضاع مجتمعية وأقنعة مصطنعة وحديث صادق عن واقع مر يتسم بالفضاضة والصراع الطبقي وتآكل أفراده وسحق المنبوذين والمهمشين.
كما تصور الرواية فضاء طنجة باعتبارها منطقة دولية ومكانا للدعارة والعهارة وحانة للخمور ومغارات للجنس وفضاء للصعلكة والاحتيال وتجمعا للمنبوذين والفقراء والشطار وتصوير عالم السياح وبحثهم عن إشباع رغباتهم ونزواتهم الجنسية وغرائزهم الجسدية. وهكذا، تكون طنجة من خلال روايات محمد شكري رمزا للدنس والفضاء الموبوء. وهذا الرمز نجده عند مجموعة من الروائيين الآخرين كمحمد برادة في الضوء الهارب ومحمد عز الدين التازي في مغاراته ومحمد الدغمومي في بحر الظلمات وعبد الحي المودن في فراق في طنجة.
وتعتمد السيرة الروائية الشطارية عند شكري على المعايشة والصدق والحقيقة والتجربة والواقعية والعفوية والتلقائية في الكتابة والتسجيل دون ادعاء أو زيف أو كذب. ويلاحظ على رصده لواقع الفئات المنبوذة التي تعيش على هامش المجتمع العمق في التحليل ودقة النظر والملاحظة بطريقة لا تكلف فيها ولا تصنع .
وإذا كان الجزء الأول من سيرة محمد شكري الشطارية يقدم لنا تجربة الصبا والبلوغ وسنوات تفتح الوعي الأولى، "فإن الثاني يقدم لنا تجربة النضج وصقل الخبرة واستيعاب المعرفة؛ ولكن أيضا لأن بنية النص نفسها وقد اقتربت من ذروة اكتمالها أخذت تستخلص من التجارب تؤرقها، ومن اللحظات أغناها، ومن الشخصيات أثراها، ومن الأحداث أشدها حدة وتألقا، ومن الحالات أكثرها دلالة على الموقف والمزاج"(1).
هذا، وإن شخصيات رواية محمد شكري متنوعة. فهناك شخصيات محتالة، وشخصيات متنورة (محمد الصباغ)، وشخصيات شطارية من سماتها الصعلكة والتمرد على الواقع الاجتماعي، وشخصيات أجنبية معظمها سياح وسائحات همها الوحيد اقتناص اللذات والكتابة وتسجيل ذكرياتها في مدينة طنجة، وشخصيات عائلية (الأم – الأب- الإخوة- الأصهار...)، وشخصيات دينية وسياسية. وإلى جانب هذه الشخصيات نجد نساء عاهرات ومريضات وفقيرات منبوذات يعشن على هامش الواقع يتاجرن في أجسادهن من أجل لقمة الخبز أو تحقيق متعهن ورغباتهن الشبقية.
وتجري أحداث هذه الرواية في فضاءات متداخلة، منها فضاء الفقر والبطالة والجفاء (تطوان)، وفضاء المغامرات المدنسة (طنجة)، وفضاء العلم والمعرفة والتعليم (العرائش)، كما تتجاور في الرواية فضاءات مقدسة (المساجد- المقابر...)، وفضاءات مدنسة (الحانات، الفنادق، المقاهي...). وتؤكد هذه الأفضية جدلية الداخل والخارج، وصراع الروح والمادة، والحياة والموت. ويتضح من كل هذا أن رؤية محمد شكري للعالم رؤية أبيقورية قائمة على اللذة وإشباع رغبات الجسد وتحقيق نزواته. وهذه الرؤية تختلط برؤية وجودية قوامها العبث والحرية والتمرد.
وهكذا، فرؤية شكري رؤية شطارية وجودية وأبيقورية ترتكز على المتعة الجسدية والعقلية، ولا تبالي بالمتعة الروحية أو الأخلاقية. وبذلك، تحضر الدنيا وتغيب الآخرة. والمتعة العقلية هنا في خدمة الجسد وتحقيق اللذات الإيروسية والليبدية عن طريق توفير الإمكانات لإشباع "الهو" و"الأنا" معا.
ويبدو أن الهروب خارج البيت، والهروب من العنف، ومن الأب، ومن الموت " هو موضوع السيرة كله، وهو مدار رغبتها الملحة في التحرر من القهر الميتافيزيقي (الموت) والاجتماعي (الفقر المادي والمعنوي) والعضوي (الانتهاك الجسدي). والذي لن ينتهي الراوي منه حتى يحقق مصالحته الخاصة مع ذاته ومع المكان، ويوثق عرى علاقته الحميمة بهما معا في قصيدة "طنجة" التي تنتهي بها "الشطار"(1).
وعليه، فرواية الشطار سيرة روائية بيكارسكية واقعية تنقل واقع المنبوذين والمهمشين الصعالكة بطريقة مباشرة وصريحة قوامها الصدق الفني والتلقائية والعفوية المطبوعة ناهيك عن تشويه الواقع وتعريته بكل وقاحة وفضاضة.
ويستند بناء رواية الشطار إلى التسلسل الكرونولوجي من حيث الزمن، وتسلسل الأحداث منطقيا وترابطيا، وهذا ما يجعل هذه الرواية كلاسيكية النمط. وتهيمن الرؤية المصاحبة (الرؤية مع) على الرواية لوجود ضمير المتكلم وتداخل الكاتب / السارد والشخصية مطابقة ومشاركة في إنجاز البرنامج السردي، كما أن المعرفة متساوية بينهما. ومن ثم، فالتبئير داخلي، وقد يتحول المبأر إلى مبئر لرصد الشخصيات الأخرى داخليا وخارجيا.
وقد وظف الكاتب في روايته أساليب السرد المعروفة كالخطاب المسرود، والخطاب المعروض، والمنولوج أو المناجاة. ولكن الخطاب غير المباشر أو السرد يبقى الخطاب المهيمن، حيث يتدخل الكاتب في مسار السرد تعليقا، وتقويما، وتحريكا للشخصيات، وتبليغا لأطروحته الواقعية الانتقادية. ويتسم سجله اللغوي بالتنوع: إذ يوظف الكاتب كلمات من الإسبانية والريفية، وعامية الشمال (الجبلية)، والفصحى، وعبارات من اللغة الإنجليزية. وأغلب كلمات سجله اللغوي المتنوع ذات المصادر المحلية أو الأجنبية غير مفهومة بالنسبة لمن لا يعرفها، لذا أردف شكري متنه الروائي بهوامش لغوية أومعرفية تشرح مدلول الكلمات الصعبة وتوضح ما غمض من العبارات أوتفكك بعض المعلومات الأدبية والفنية والتاريخية بالتفسير والتأويل.
وظاهرة الهوامش تقنية جديدة في تذييل الرواية وتسويرها بالحواشي والمتون. وهي معروفة في الرواية المغربية لدى كل من عبد الله العروي في (أوراق)، ومبارك ربيع في (بدر زمانه)، وبنسالم حميش في (مجنون الحكم، وسماسرة السراب). وتحدث ميشل بوتور -Butor- عن هذه الظاهرة المناصية في كتابه القيم (بحوث عن الرواية الجديدة).
وتمتح لغة "الشطار" من معجم الواقع ومن قواميس الشطار والصعاليك، وتمتص مفاهيمها من لغة الشارع وعامية البدو القاطنين في جبالة أو الريف المغربي، وكذلك من لغة المحتالين والعاهرات الشاطرات سواء أكن مغربيات أم أجنبيات.
وعمد الكاتب إلى توليد الكلمات عن طريق الاشتقاق وتعريب "الدارجة"، وتفصيح العامية لتقريب الرواية من الواقع المعيش، وخلق المصداقية الفنية مع الواقع الحقيقي المتناقض في قيمه ومبادئه.
وتتفاعل الرواية تناصيا مع كثير من النصوص البيكارسكية الإسبانية والروايات العربية الجريئة في طرح تيمات الجنس والعهارة والصعلكة والسيرة الذاتية (روايات العربي باطما – روايات صنع الله إبراهيم- رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"- الوشم لعبد الرحمن مجيد الربيعي...)، دون أن ننسى استحضار روايات الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا المعروف برواياته الوردية أو البورنوغرافية (الجنسية).
ويكتب محمد شكري – أسلوبيا- وثيقة اجتماعية بلغة أدبية واقعية قوامها التشخيص الموضوعي والتقرير والصدق الذاتي والابتعاد عن التصنع والحذلقة الجمالية والتخييل البياني، واجتناب الصور البلاغية ذات الطابع الإنشائي، والميل إلى لغة الواقع وسجلات المنبوذين وصعالكة الحانات وشطار المواخير لنقل بلاغتهم في الكشف والعري وقواميسهم اللغوية على الرغم من سوقيتها وعفويتها وتمردها على قواعد الأخلاق ومعايير المجتمع.
ويلاحظ على الرواية اهتمامها بسرد الأحداث بدلا من تصوير الجوانب النفسية للشخصيات وتعميق فهمها وتفسيرها، والاقتصاد الكبير في الوصف إلى درجة انعدامه في كثير من الصفحات في الرواية. ويتميز إيقاع سرد الأحداث بالبساطة والوصفية الإثنوغرافية التي تغلب عليها الموضوعية والحياد العلمي، ولا تستحيي من عريها وصراحتها المكشوفة. وبلغت واقعيتها الوصفية حدا "جعلتها أقرب إلى النصوص العلمية الإثنوغرافية منها إلى النصوص الأدبية في الثقافة التي أنجبتها. لأن في كثير من النصوص الواقعية في الثقافة العربية المعاصرة قدرا كبيرا من التعمل، أو تعمد إيقاع الواقع في براثن الرؤى المسبقة والتصورات الجاهزة عنه. وهذا البعد عن مواضعات الحذلقة " الأدبية" التقليدية هو الذي يؤسس حداثة هذا النص الأدبي الجميل، بل ويوغل به في مغامرة الحداثة حتى يشارف تخوم ما يعرف الآن بما بعد الحداثة"(1).
ويلاحظ كذلك أن محمد شكري يبتعد عن التجريب المجاني وتمثل أساليب الرواية الجديدة الفرنسية أو الإنجليزية، واصطناع التقنيات التي انغمس فيها كثير من الروائيين المعاصرين لخلق حداثة مصطنعة تقتنص نتائج علم السرديات والسيموطيقا. بيد أن شكري أميل إلى السرد البيكارسكي الإسباني منه إلى السردين : الفرنسي أو الإنجليزي، إذ قرأ الكثير من النصوص السردية في هذا النوع من الأدب.
وقد استطاعت سيرة شكري "الشطار" أن تضع كاتبها باقتدار على "الخريطة الأدبية كواحد من الذين ساهموا في تأسيس الكتابة الحديثة بشكل عفوي وتلقائي ودون ادعاء بأنه يقدم أي جديد. وهذه العفوية الطالعة من قلب المعاناة والألم هي أولى سمات تلك الكتابة الحداثية الجديدة التي يقدمها لنا محمد شكري في سيرته الجريئة الصادمة. لأن حداثة الكتابة عنده ليست نتيجة رفض الكتابة القديمة، أو ثمرة بحث شكلي أو أسلوبي أو لغوي يستهدف التمايز والمغايرة، وإنما هي بنت الاستجابة العفوية لمتغيرات الواقع، ومحاولة تقديمه في بكارته وكليته وزحمته وحضوره المباشر"(1).
ولا ننسى أن نقول: إن محمد شكري وظف مجموعة من النصوص الشعرية يناجي فيها طنجة باعتبارها فضاء وجوديا لكل الشطار والمهمشين والصعالكة وقد عنون شكري فصول روايته بعد أن رقمها في "الخبز الحافي". وتتجاوز فصول الرواية الثلاثين فصلا. وتجمع هذه العناوين بين الجمل الاسمية والجمل الرابطية الناسخة، وتغيب الجمل الفعلية ليسود التقرير والتأكيد على حساب الفعل والحركة والصراع، وتحيل هذه العناوين على أمكنة قضائية وشخصيات وأعلام، إلى جانب وجود عناوين تؤشر على المكون الشيئي والعاطفي، وذكر الأحداث الدينامية والساكنة (العواطف، الحالات...)، ورصد الأوصاف والحالات.
ويوحي العنوان الخارجي بالنقلة النوعية من البعد الفردي (شكري باعتباره ذات شطارية مفردة في الخبز الحافي)، إلى البعد الجماعي (جماعة الشطار في الرواية الثانية). ويؤكد العنوان كذلك الصيغة النهائية لجنس الرواية بأنها سيرة بيكارسكية تصور فئة الشطار المنبوذين في هذا الواقع المنحط المليء بالتناقضات والقيم الزائفة المهترئة.
وتأسيسا على ما سبق، نصل إلى أن رواية "الشطار" كلاسيكية من حيث البناء، وواقعية من حيث الطرح والمعالجة، وأطبيوغرافية من حيث السرد، وبيكارسكية من حيث الشخصية المنجزة. وهي سيرة تحمل رؤية وجودية أبيقورية قوامها اللذة والمتعة والعبث والمجون. إلا أنها رواية تنتقد القمع والعنف والظلم والتفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي والاستغلال، وتفضح المستور، وتكشف المضمر وتعري الواقع المدنس وتناقضات القيم الإنسانية، وترصد الفضاءات الموبوءة المصحوبة بلعنة القدر ولسعات العبث والضياع الوجودي.
ويعتبر محمد شكري – حسب الدكتور علي الراعي- رائد الأدب الشطاري أو الرواية الواقعية الاحتيالية: وذلك بروايته "الخبز الحافي" حيث يقول: " وفي أدبنا العربي الحديث ظهرت في السنوات الأخيرة سيرة ذاتية روائية بعنوان "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري. وهي تحكي المغامرات الاحتيالية واللصوصية والجنسية لشاب أمي في أدنى مراتب الفقر، ينتقل بين طنجة ومدن المغرب، بحثا عن لقمة الخبز الحاف.
والسيرة تعود بالكتابة الروائية عندنا إلى النقطة التي كان ينبغي أن تبدأ منها الرواية العربية، مستندة إلى المقامات مطورة إياها إلى فن روائي عربي الأساس، " ولعلها على المدى أن تقود إلى فن روائي عربي يكون أكثر صدقا وأحر طعما من كثير مما يكتب الآن في حقل الرواية العربية، شريطة أن تتلخص من بعض ما يصدم الشعور بلا مبرر فني، ويجعل السيرة في بعض أجزائها صراخ احتجاج طفولي ورغبة في تحطيم المواضعات لمجرد التحطيم.
ومن الطريف اللافت للنظر أن تظهر هذه السيرة الروائية في المغرب، البلد المجاور لإسبانيا، التي أخرجت رواية لازاريللو ذي تورميس، وأن تتحرك في أرجائها شخصيات من إسبانيا، ما بين شرطة ومحققين ومدنيين أوجدهم الحكم الإسباني وأوسع لهم ..(1)."
وتكمل رواية الشطار رواية الخبز الحافي. حيث ترصد هذه المرة مغامرات شكري المجونية والعبثية ما بين الريف مسقط رأسه وطنجة التي جعلها مكانا لإثبات ذاته الوجودية وشطارته الذهنية.
هذا، وقد ركزت الرواية على الكيفية التي ولج بها شكري عالم المدرسة لأول مرة، وهو كبير السن رغبة في الانسلاخ من الأمية ومحو الفقر. بيد أن المدير رفض قبوله أول مرة؛ ولكنه في الأخير استجاب لطلب مرسله الذي كانت له علاقة طيبة به.
وبعد امتحانات أولية في الحساب والإسبانية، تقرر ضم الكاتب إلى تلاميذ المدرسة الابتدائية، وبدأ حياته الدراسية بطريقة عصامية تعتمد على التعلم الذاتي على الرغم من كبر سنه وفقره المدفع. فقد كان الفتى من أسرة وضيعة جدا نزحت من الريف عام المجاعة لتستقر في كوخ بمدينة تطوان.
وشمر الكاتب التلميذ عن ساعده ليواجه عدة صعوبات مادية ومعنوية. ولكنه ذللها بالجد والمثابرة والمغامرات الاحتيالية والشطارية. وانتقل بعد حصوله على الشهادة الابتدائية إلى الثانوي ثم مركز تكوين المعلمين. وبعد ذلك سيعين معلما في طنجة على الرغم من عدم نجاحه في امتحان التخرج.
وتمتاز علاقة شكري بأفراد أسرته بالتنوع والاختلاف إذ يقسو على أبيه الذي كان يسخر منه ويود قتله والتخلص منه، ولا يحب فيه إلا جيبه. بينما علاقة الفتى بأمه أساسها المودة والمحبة والحنان والرأفة. وعلى العموم كان يطغى على هذه العلاقات الجفاء والبرود العاطفي لانعدام الانسجام بين أفراد الأسرة. وكان الكاتب شاطرا صعلوكا يرغب في الحياة، ويقبل عليها بنهم مجوني لإشباع الرغبات الجنسية والغرائز الجسدية ناهيك عن إقباله المفرط على الخمر والحشيش والكيف المخدر وغير ذلك من المخدرات التي كانت يتهافت عليها صعاليك الشمال المغربي إبان استقلال المغرب وانتصار الحركة الوطنية وطرد المستعمر الإسباني من البلاد.
هذا، وإن رواية "الشطار" رواية واقعية اجتماعية تصور طبقة الصعاليك والشطار الفقراء الذين لم يكونوا محظوظين في حياتهم ولم ينالوا الحنان الأسري. بل وجدوا أنفسهم في الشوارع يطاردهم الفقر، ويدغدغهم الجوع، وتنهشهم الأمية، ينتقلون من فندق إلى آخر باحثين عن لذة عابرة، ومن حانة إلى أخرى اقتناصا للذات وإشباعا للرغبات الواعية والمكبوتة. ويلاحظ أن الرواية ثورة على الظلم، وسخرية من الزيف الاجتماعي والنفاق الطبقي، والتشدق بالشرف والتمسك بشكل الاحترام لإخفاء الانهيار الخلقي للشرفاء المحترمين(1).
وتتداخل في هذه الرواية مجموعة من القيم المتناقضة كالعبثية والمجون والشبقية والرغبة في العلم والمعرفة. ويمكن إدراج هذه الرواية ضمن التيار الواقعي الانتقادي بمفهومه العام، وفي خانة الرواية الوجودية نظرا لكونها تطرح قضية العبث والحرية وفلسفة القلق والالتزام بالواقع والتحرر الذاتي من إسار التقاليد والتمرد على نواميس الأخلاق ومواضعات القانون وقيم الأعراف والعادات.
ويمكن كذلك استخلاص مجموعة من التيمات التي تجعل من هذه الرواية شطارية مادامت ترصد فئة المهمشين الذين يعيشون على هامش المجتمع. وهذه التيمات هي : الجنس، والدعارة، والمخدرات، والصعلكة، والمغامرات العبثية والمجونية والفقر، والاحتيال، وتملك المعرفة الأدبية والفنية ، ومصاحبة الشطار، والتمرد على الأخلاق والقوانين والأعراف الاجتماعية.
وتذكرنا هذه الرواية بالبيكارو Picaro في رواية المؤلف الإسباني المجهول "لازاريللوذي تورميس" (ق 16م) Lazarillo de Tormes، فنقط الالتقاء غير قليلة. كلاهما فقير مدقع، مضيق عليه في الرزق، وكلاهما مغامر جواب آفاق، يستخدم ذكاءه البين في طلب الرزق، لا يتردد في هذا السبيل أن يغش ويخدع ويسأل الناس، ويسرقهم أحيانا(1).
وينقل لنا محمد شكري في هذه الرواية الواقع بكل أمانة وصدق دون تزييف ولا مواربة. ويسجل سيرة ذاتية قائمة على ذكر الأخطاء والمساوئ بدلا من ذكر الإيجابيات واستعراض العضلات المعرفية والذهنية والوجدانية كما هو الشأن في الأيام لطه حسين، أو الطفولة لعبد المجيد بن جلون، أوأوراق لعبد الله العروي، أو حياتي لأحمد أمين. إنه يعبر بكل صدق عن فئة المشردين والمنبوذين في المجتمع المغربي بصفة خاصة، والعربي بصفة عامة، تلك الفئة التي تعيش وضعا هامشيا خارج تاريخ المجتمع ونواميسه الموضوعة، فئة منبوذة اجتماعيا وأدبيا.
وتتسم رواية الشطار بالجرأة في تناول قضايا الجنس والدعارة وإن كان ليس بالشكل الذي عرفناه في روايته الأولى (الخبز الحافي)، وربما يعود هذا إلى دور الرقابة العربية في منع كتاب يتناول قضايا جنسية بالمعنى "البورنوغرافي" العميق على غرار كتابات ألبرتو مورافيا الكاتب الجنسي الإيطالي.
وهكذا، يعبر شكري في سيرته الذاتية عن فئة الشطار التي لا تمتلك أدوات الإنتاج، وتعيش على حافة المدن بدون أي أمل في الدخول إلى المجتمع المحترم أو في مجرد الوصول إليه. ويعبر شكري خير تعبير عن إحساس أوشعور هذه الفئة بالنبذ(1).
ومن ثم، فرواية الشطار تعبير عن رفض للواقع الكائن ومواضعاته الزائفة، وتمرد على مبتذلات الحياة والفقر المدقع والجفاء الأسري وطغيان المادة على أخلاقيات البشر. وما الخمرة والجنس والمخدرات إلا مظاهر للتنفيس السيكولوجي اللاشعوري عن مكبوتات وعقد اجتماعية ونفسية نابعة من الإحساس بالدونية والتهميش والنقص والفقر والازدراء الطبقي. لذا، فالرواية شهادة ووثيقة تاريخية عن أوضاع مجتمعية وأقنعة مصطنعة وحديث صادق عن واقع مر يتسم بالفضاضة والصراع الطبقي وتآكل أفراده وسحق المنبوذين والمهمشين.
كما تصور الرواية فضاء طنجة باعتبارها منطقة دولية ومكانا للدعارة والعهارة وحانة للخمور ومغارات للجنس وفضاء للصعلكة والاحتيال وتجمعا للمنبوذين والفقراء والشطار وتصوير عالم السياح وبحثهم عن إشباع رغباتهم ونزواتهم الجنسية وغرائزهم الجسدية. وهكذا، تكون طنجة من خلال روايات محمد شكري رمزا للدنس والفضاء الموبوء. وهذا الرمز نجده عند مجموعة من الروائيين الآخرين كمحمد برادة في الضوء الهارب ومحمد عز الدين التازي في مغاراته ومحمد الدغمومي في بحر الظلمات وعبد الحي المودن في فراق في طنجة.
وتعتمد السيرة الروائية الشطارية عند شكري على المعايشة والصدق والحقيقة والتجربة والواقعية والعفوية والتلقائية في الكتابة والتسجيل دون ادعاء أو زيف أو كذب. ويلاحظ على رصده لواقع الفئات المنبوذة التي تعيش على هامش المجتمع العمق في التحليل ودقة النظر والملاحظة بطريقة لا تكلف فيها ولا تصنع .
وإذا كان الجزء الأول من سيرة محمد شكري الشطارية يقدم لنا تجربة الصبا والبلوغ وسنوات تفتح الوعي الأولى، "فإن الثاني يقدم لنا تجربة النضج وصقل الخبرة واستيعاب المعرفة؛ ولكن أيضا لأن بنية النص نفسها وقد اقتربت من ذروة اكتمالها أخذت تستخلص من التجارب تؤرقها، ومن اللحظات أغناها، ومن الشخصيات أثراها، ومن الأحداث أشدها حدة وتألقا، ومن الحالات أكثرها دلالة على الموقف والمزاج"(1).
هذا، وإن شخصيات رواية محمد شكري متنوعة. فهناك شخصيات محتالة، وشخصيات متنورة (محمد الصباغ)، وشخصيات شطارية من سماتها الصعلكة والتمرد على الواقع الاجتماعي، وشخصيات أجنبية معظمها سياح وسائحات همها الوحيد اقتناص اللذات والكتابة وتسجيل ذكرياتها في مدينة طنجة، وشخصيات عائلية (الأم – الأب- الإخوة- الأصهار...)، وشخصيات دينية وسياسية. وإلى جانب هذه الشخصيات نجد نساء عاهرات ومريضات وفقيرات منبوذات يعشن على هامش الواقع يتاجرن في أجسادهن من أجل لقمة الخبز أو تحقيق متعهن ورغباتهن الشبقية.
وتجري أحداث هذه الرواية في فضاءات متداخلة، منها فضاء الفقر والبطالة والجفاء (تطوان)، وفضاء المغامرات المدنسة (طنجة)، وفضاء العلم والمعرفة والتعليم (العرائش)، كما تتجاور في الرواية فضاءات مقدسة (المساجد- المقابر...)، وفضاءات مدنسة (الحانات، الفنادق، المقاهي...). وتؤكد هذه الأفضية جدلية الداخل والخارج، وصراع الروح والمادة، والحياة والموت. ويتضح من كل هذا أن رؤية محمد شكري للعالم رؤية أبيقورية قائمة على اللذة وإشباع رغبات الجسد وتحقيق نزواته. وهذه الرؤية تختلط برؤية وجودية قوامها العبث والحرية والتمرد.
وهكذا، فرؤية شكري رؤية شطارية وجودية وأبيقورية ترتكز على المتعة الجسدية والعقلية، ولا تبالي بالمتعة الروحية أو الأخلاقية. وبذلك، تحضر الدنيا وتغيب الآخرة. والمتعة العقلية هنا في خدمة الجسد وتحقيق اللذات الإيروسية والليبدية عن طريق توفير الإمكانات لإشباع "الهو" و"الأنا" معا.
ويبدو أن الهروب خارج البيت، والهروب من العنف، ومن الأب، ومن الموت " هو موضوع السيرة كله، وهو مدار رغبتها الملحة في التحرر من القهر الميتافيزيقي (الموت) والاجتماعي (الفقر المادي والمعنوي) والعضوي (الانتهاك الجسدي). والذي لن ينتهي الراوي منه حتى يحقق مصالحته الخاصة مع ذاته ومع المكان، ويوثق عرى علاقته الحميمة بهما معا في قصيدة "طنجة" التي تنتهي بها "الشطار"(1).
وعليه، فرواية الشطار سيرة روائية بيكارسكية واقعية تنقل واقع المنبوذين والمهمشين الصعالكة بطريقة مباشرة وصريحة قوامها الصدق الفني والتلقائية والعفوية المطبوعة ناهيك عن تشويه الواقع وتعريته بكل وقاحة وفضاضة.
ويستند بناء رواية الشطار إلى التسلسل الكرونولوجي من حيث الزمن، وتسلسل الأحداث منطقيا وترابطيا، وهذا ما يجعل هذه الرواية كلاسيكية النمط. وتهيمن الرؤية المصاحبة (الرؤية مع) على الرواية لوجود ضمير المتكلم وتداخل الكاتب / السارد والشخصية مطابقة ومشاركة في إنجاز البرنامج السردي، كما أن المعرفة متساوية بينهما. ومن ثم، فالتبئير داخلي، وقد يتحول المبأر إلى مبئر لرصد الشخصيات الأخرى داخليا وخارجيا.
وقد وظف الكاتب في روايته أساليب السرد المعروفة كالخطاب المسرود، والخطاب المعروض، والمنولوج أو المناجاة. ولكن الخطاب غير المباشر أو السرد يبقى الخطاب المهيمن، حيث يتدخل الكاتب في مسار السرد تعليقا، وتقويما، وتحريكا للشخصيات، وتبليغا لأطروحته الواقعية الانتقادية. ويتسم سجله اللغوي بالتنوع: إذ يوظف الكاتب كلمات من الإسبانية والريفية، وعامية الشمال (الجبلية)، والفصحى، وعبارات من اللغة الإنجليزية. وأغلب كلمات سجله اللغوي المتنوع ذات المصادر المحلية أو الأجنبية غير مفهومة بالنسبة لمن لا يعرفها، لذا أردف شكري متنه الروائي بهوامش لغوية أومعرفية تشرح مدلول الكلمات الصعبة وتوضح ما غمض من العبارات أوتفكك بعض المعلومات الأدبية والفنية والتاريخية بالتفسير والتأويل.
وظاهرة الهوامش تقنية جديدة في تذييل الرواية وتسويرها بالحواشي والمتون. وهي معروفة في الرواية المغربية لدى كل من عبد الله العروي في (أوراق)، ومبارك ربيع في (بدر زمانه)، وبنسالم حميش في (مجنون الحكم، وسماسرة السراب). وتحدث ميشل بوتور -Butor- عن هذه الظاهرة المناصية في كتابه القيم (بحوث عن الرواية الجديدة).
وتمتح لغة "الشطار" من معجم الواقع ومن قواميس الشطار والصعاليك، وتمتص مفاهيمها من لغة الشارع وعامية البدو القاطنين في جبالة أو الريف المغربي، وكذلك من لغة المحتالين والعاهرات الشاطرات سواء أكن مغربيات أم أجنبيات.
وعمد الكاتب إلى توليد الكلمات عن طريق الاشتقاق وتعريب "الدارجة"، وتفصيح العامية لتقريب الرواية من الواقع المعيش، وخلق المصداقية الفنية مع الواقع الحقيقي المتناقض في قيمه ومبادئه.
وتتفاعل الرواية تناصيا مع كثير من النصوص البيكارسكية الإسبانية والروايات العربية الجريئة في طرح تيمات الجنس والعهارة والصعلكة والسيرة الذاتية (روايات العربي باطما – روايات صنع الله إبراهيم- رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"- الوشم لعبد الرحمن مجيد الربيعي...)، دون أن ننسى استحضار روايات الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا المعروف برواياته الوردية أو البورنوغرافية (الجنسية).
ويكتب محمد شكري – أسلوبيا- وثيقة اجتماعية بلغة أدبية واقعية قوامها التشخيص الموضوعي والتقرير والصدق الذاتي والابتعاد عن التصنع والحذلقة الجمالية والتخييل البياني، واجتناب الصور البلاغية ذات الطابع الإنشائي، والميل إلى لغة الواقع وسجلات المنبوذين وصعالكة الحانات وشطار المواخير لنقل بلاغتهم في الكشف والعري وقواميسهم اللغوية على الرغم من سوقيتها وعفويتها وتمردها على قواعد الأخلاق ومعايير المجتمع.
ويلاحظ على الرواية اهتمامها بسرد الأحداث بدلا من تصوير الجوانب النفسية للشخصيات وتعميق فهمها وتفسيرها، والاقتصاد الكبير في الوصف إلى درجة انعدامه في كثير من الصفحات في الرواية. ويتميز إيقاع سرد الأحداث بالبساطة والوصفية الإثنوغرافية التي تغلب عليها الموضوعية والحياد العلمي، ولا تستحيي من عريها وصراحتها المكشوفة. وبلغت واقعيتها الوصفية حدا "جعلتها أقرب إلى النصوص العلمية الإثنوغرافية منها إلى النصوص الأدبية في الثقافة التي أنجبتها. لأن في كثير من النصوص الواقعية في الثقافة العربية المعاصرة قدرا كبيرا من التعمل، أو تعمد إيقاع الواقع في براثن الرؤى المسبقة والتصورات الجاهزة عنه. وهذا البعد عن مواضعات الحذلقة " الأدبية" التقليدية هو الذي يؤسس حداثة هذا النص الأدبي الجميل، بل ويوغل به في مغامرة الحداثة حتى يشارف تخوم ما يعرف الآن بما بعد الحداثة"(1).
ويلاحظ كذلك أن محمد شكري يبتعد عن التجريب المجاني وتمثل أساليب الرواية الجديدة الفرنسية أو الإنجليزية، واصطناع التقنيات التي انغمس فيها كثير من الروائيين المعاصرين لخلق حداثة مصطنعة تقتنص نتائج علم السرديات والسيموطيقا. بيد أن شكري أميل إلى السرد البيكارسكي الإسباني منه إلى السردين : الفرنسي أو الإنجليزي، إذ قرأ الكثير من النصوص السردية في هذا النوع من الأدب.
وقد استطاعت سيرة شكري "الشطار" أن تضع كاتبها باقتدار على "الخريطة الأدبية كواحد من الذين ساهموا في تأسيس الكتابة الحديثة بشكل عفوي وتلقائي ودون ادعاء بأنه يقدم أي جديد. وهذه العفوية الطالعة من قلب المعاناة والألم هي أولى سمات تلك الكتابة الحداثية الجديدة التي يقدمها لنا محمد شكري في سيرته الجريئة الصادمة. لأن حداثة الكتابة عنده ليست نتيجة رفض الكتابة القديمة، أو ثمرة بحث شكلي أو أسلوبي أو لغوي يستهدف التمايز والمغايرة، وإنما هي بنت الاستجابة العفوية لمتغيرات الواقع، ومحاولة تقديمه في بكارته وكليته وزحمته وحضوره المباشر"(1).
ولا ننسى أن نقول: إن محمد شكري وظف مجموعة من النصوص الشعرية يناجي فيها طنجة باعتبارها فضاء وجوديا لكل الشطار والمهمشين والصعالكة وقد عنون شكري فصول روايته بعد أن رقمها في "الخبز الحافي". وتتجاوز فصول الرواية الثلاثين فصلا. وتجمع هذه العناوين بين الجمل الاسمية والجمل الرابطية الناسخة، وتغيب الجمل الفعلية ليسود التقرير والتأكيد على حساب الفعل والحركة والصراع، وتحيل هذه العناوين على أمكنة قضائية وشخصيات وأعلام، إلى جانب وجود عناوين تؤشر على المكون الشيئي والعاطفي، وذكر الأحداث الدينامية والساكنة (العواطف، الحالات...)، ورصد الأوصاف والحالات.
ويوحي العنوان الخارجي بالنقلة النوعية من البعد الفردي (شكري باعتباره ذات شطارية مفردة في الخبز الحافي)، إلى البعد الجماعي (جماعة الشطار في الرواية الثانية). ويؤكد العنوان كذلك الصيغة النهائية لجنس الرواية بأنها سيرة بيكارسكية تصور فئة الشطار المنبوذين في هذا الواقع المنحط المليء بالتناقضات والقيم الزائفة المهترئة.
وتأسيسا على ما سبق، نصل إلى أن رواية "الشطار" كلاسيكية من حيث البناء، وواقعية من حيث الطرح والمعالجة، وأطبيوغرافية من حيث السرد، وبيكارسكية من حيث الشخصية المنجزة. وهي سيرة تحمل رؤية وجودية أبيقورية قوامها اللذة والمتعة والعبث والمجون. إلا أنها رواية تنتقد القمع والعنف والظلم والتفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي والاستغلال، وتفضح المستور، وتكشف المضمر وتعري الواقع المدنس وتناقضات القيم الإنسانية، وترصد الفضاءات الموبوءة المصحوبة بلعنة القدر ولسعات العبث والضياع الوجودي.