لم تراوح قضية العامية كلهجة مكانها؛ ففي أدبيات علماء العربية الفصيحة وكذلك الذين ينافحون عن الإسلام اتهام ثابت رسَّخوه في أذهاننا منذ مطالع الصبا أنه ليس هناك من خطرٍ أكبر وأقدر على اللغة العربية ودين الإسلام من تلك العامية اللعينة، فعشنا ونحن نحس بالذنب يوميًا من اعتياد الحديث بها، فجعلنا جُل اجتهادنا في التحدث بالفصحى إلى درجة الدخول في حوارات يومية بالفصيحة البليغة بيني وبين أصدقائي بالساعات ونحن نتهارش باللفظ الحوشي المستغرب المستهجن، وكلما أغرقنا كلما أثبتنا جدارة الاصطفاء لشرف الانتساب إلى أهل تلك اللغة.
غير أن الأيام مرت ولم يثبت لنا أن العامية أو العاميات العربية في أساسها كانت وحدها هي الخطر الداهم على زحف الفصحى والمتسبب في ضعفها، ذلك بعد أن رأينا وسمعنا وصُدمنا في من يتحدثون العربية من أهل الاختصاص ويمارسون مهنة النقد كأستاذ جامعي، وما زالت تلك السيدة التي تتصدر المشهد الثقافي ولا تفرق بين الثُبات والسُبات وتقصد النوم، والخطأ نفسه يصدر عن صحفية بنت إعلامي شهير تتصدر كبريات المجلات الأسبوعية، مع أن هذا الخطأ صدر عن السيدة أم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنها بدلت الثاء سينًا حين دعت له يوم حُنيْن بالثبات، وعُذرها أنها حبشية وكانت مع هذا تقرض الشعر، وتتوجع المنابر من مشايخ يلبسون العمائم يحسنون قراءة القرآن الكريم، وينطقون العربية بلحن في الإعراب، مثلهم مثل الأعاجم.
وعلى طول البلاد العربية وعرضها هناك من يكتبون بالعامية مع اتصالهم الوثيق بالعربية الفصيحة سواء أفي مكاتباتهم أم في أعمالهم، وهم يملكون ناصية الإبداع باللغتين دون غضاضة أو تضاد، دون أن تنطوي في نفوسهم الرغبة الملحة في القضاء عليها، ولم يلجؤوا إلى العامية استسهالا أو هروبًا من معجمية الفصحى وقواعدها، والشعر الخليلي وعروضه، والدواوين خير شاهد على صدق ما أقول، والمجموعات القصصية التي تجد مبدعها واحدا رغم اختلاف الأجناس الأدبية واللغة واللهجة المستخدمة.
وحين سألني أحد الأدباء الذين يمارسون العامية والفصحى والكتابة: لماذا تنتصر للفصحى وتكتب بالعامية؟! أجبته: ليس ثمة تناقض؛ إذ كنا في مصر نستقبل الجزائرية عبر غناء رابح درياسة، والمغربية عبر عبد الوهاب الدكالي، واللبنانية عبر صوت فيروز.. وكذلك الفن الخليجي، واستمتعنا بكل تلك اللهجات.. كما استمتع العرب باللهجة المصرية، وكانت لها السيادة لأنها امتلكت المواد الناقلة والحاملة لها عبر الأدب والفن والإعلام، وصرنا نميز بين اللهجة السعودية والتونسية، والتقت لهجات العرب في إذاعة صوت العرب.. لكن كان هناك اتفاق ضمني مبدئي أننا نتكلم العامية.. لكن في كتبنا وصلواتنا تجمعنا العربية الفصحى.. فليس ثمة تناقض.. ولو حتى من باب العرف.. والعرف عند العرب أقوى من القانون. وكتبتُ بالعامية ــ وقت كنت أكتب شعرًا بالعامية ـ لأنها نادتني.. تغلبتُ عليها تارة لكنها غالبتني في الزجل والقصيدة العامية، والأغنية، كنت معها مثل الطفل الأعسر كلما حاولت التيامن لم أستطع، مع كوني لا أجد غضاضة في التعاطي مع القصيدة الفصحى قراءةً وكتابة، ووافقني أحد أصدقائي ممن يكتبون القصيدة العمودية.. أن قلت له في جدال: عندما يكون المعنى أقوى في النص الشعري العامي فهو أفضل من شعر موزون بالفصحى ولكنه خواء..
لقد شكلت الثورة الفضائية في الاتصالات أحد روافد الوسائل الحمائية لتلاقح الأفكار بالعامية، فقد نقل جناح الدراما بأنواعه عامية شعب كل قطر عربي إلى شقيقه شعب القطر الآخر، وبعد أن كان عندنا إذاعة واحدة تضم العرب، صار عندنا قنوات لكل قطر وحده، وهذه القنوات لم تفرق العرب بل جمعتهم.
ليس هناك خوف على الفصحى من العامية، مثلما ليس ثمة خوف على العامية من جور الفصحى، بل أفادت الفصحى العامية حين هذبتها ورفعتها قريبًا منها، ودخلت العامية على الفصحى فآنستها وحببتها إلى المتلقي الذي كان ينفر منها، وبهذا أصبحت عندنا لغة وسطى.. ثالثة.. يجتمع عليها الجميع.. ومن استطعم وتذوق اللغة في كل أحوالها.. وامتلك ناصية أكثر من جنس شاء له أن يعبر بأقواها.. والفكرة هي التي تختار قالبها لا المبدع.
يقول اللغوي خليل كلفت في دراسته حول الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية: (وهكذا نلتقي بفكرة أن التجاور بين اللغتين المسماتين بالفصحى والعامية كان قائما منذ البداية، منذ الجاهلية، وبفكرة أن التجاور الطويل أثبت عجز "الفصحى" عن القضاء على تلك "العامية"، وبفكرة أنه أثبت عجز "العامية" عن القضاء على "الفصحى"، وبفكرة ضرورة القضاء على هذه لصالح تلك، وبفكرة ضرورة القضاء على تلك لصالح هذه، وبفكرة أن التجاور سيظل قائما إلى ما شاء الله، وبفكرة أنه تجاور سعيد لا ينبغي أن يثير ضيق أحد).
يرى الشاعر والباحث كريم موزة الأسدي أن الفصحى وهي الأم ما عادت لغة يومية لأيّ من الشعوب العربية؛ لذا فإن تراثها من العصر الجاهلي وحتى الآن هو تراث عربي أصيل لكنه يقع خارج دائرة الفلكلور ليستقر ضمن التراث الرسمي بحكم أنها لغة القراءة والكتابة وليست لغة المشافهة، ولقد ميز الأدباء والمفكرون المعاصرون بين أدب الخاصة وأدب العامة.
كما يرى أن (اللغة العامية الدارجة) هي الوعاء الأكبر لفنون مثل الشعر الشعبي والأغاني الشعبية بجميع ألوانها وبما يرافقها من ألحان وموسيقى وحكايات وأمثال ونكت وطرائف وكل أشكال القولي الشفاهي، ولقد ظل هذا النوع حيّا رغم تقلبات الأحوال والعصور؛ وذلك لأن دورانه على الألسن والشفاه وليس على الورق يكون بمثابة دوران الدم في عروق الكائن الحي؛ لذا فهو يرفض أن يجمد لكنه يتغير ويتنوع ويتطور باستمرار لأن ما يشكله هو ذاكرات وأناس في مواقف معينة وفقا لمواهبهم المبدعة وتلبيةً فوريةً لاحتياجاتهم.
ينبه الأسدي إلى نقطة هامة يراها مرتبطة بعملية التنوير حيث يأتي دور الأدب العامي أكثر أثرًا من أدب الفصحى؛ وذلك لأن أدب الفصحى بما له من خصائص ومميزات يظل فوق مـدارك العامة؛ مما يقلل أو يضعف تفاعلهم معه ويضعف بالتالي تأثيره فيهم، بخلاف الأدب العامي الذي واسطته في مجتمعه عامة الشعب؛ فهو بحكم عفويته وبساطته ومجاراته لأحـداث الساعة وانتقاله السريع مشافهة يكون له النفوذ الطبيعي على جميع طبقات المجتمع.
وتأتي نظرة الأسدي مؤيدة لما قلته من نفي الخوف الموهوم والمهول من خطر العامية على العربية، فيقول: (وبالنظر إلى الشعر الشعبي أو العامي تحديدًا سنجده يرتبط بتقاليد الشعر العربي الفصيح ليس بتقاليده فقط وإنما أيضًا بأغراضه، وهذا الارتباط أسَّسَ للتشابه والتجانس بين جملة ما أُنتج في أدبنا العربي من شعر على اختلاف البيئات والعصور، فهما في نظري مرتبطان دائمًا أحدهما بالآخر ولا أتخوف من أحدهما على الآخر.. وقد أدركت المؤسسات الثقافية والأدبية في عصرنا الآني ما للأدب العامي من أهمية وفعالية في توجهـات الشعوب وقيادتها فاعتنت به).
يستند الرأي لما ذهب إليه الأسدي لمقولة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين التي أوردها في كتابه "الحياة الأدبية في جزيرة العرب"، حيث قال:
( لسوء الحظ لا يُعنى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما لأن لغته بعيدة عن القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها، وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين... وهذا الأدب الشعبي ــ وإن فسدت لغته ــ حي، قوي، له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة منتجيه).
يدحض الأسدي خوف المدافعين عن الفصحى من أن تلقى مصير اللغة اللاتينية نفسه، الأمر الذي دفع المثقفين العرب لأن يُعْرِضُوا لوقت طويل عن دراسة الآداب العامية وجمع تراثها والعناية بها خشيةً من مداهمة العامية للفصحى؛ بحيث تحل العامية مع طول الزمن محل الفصحى وتزيحها نهائيا فتضيع الفصحى وبالتالي القرآن والدين والتراث العربي، وتفقد الأمة بذلك أهم عناصر ومقومات وحدتها.. ولكن هذا التخوف الآن قد عفا عليه الدهر ولم يعد ذا بال بعد أن تأكد للجميع أن القرآن ولغة القرآن أقوى وأرسخ من أن يزعزعها أو يهدمها أي اهتمام بلهجة عامية.
ومن هنا وبعد ما تقدم أقول وكلي ثقة وإيمان إنه لم يثبت أن العامية كانت العائق الأكبر أمام تعلم الفصحى بطلاقة، أو إنها كانت الخطر الذي يجب أن يتحمل اللوم والوزر كله في تعثر الألسنة في النطق الصحيح بالفصحى.
فأرجو من سدنة الفصحى المنوط بهم تدريس اللغة العربية وتيسيرها وإفشاؤها في المعاهد التعليمية والعلمية ثم المجتمع بالضرورة: رجاءً لا تشيطنوا العامية، ولا تخلقوا منها فزَّاعة تعلقون عليها فشلكم في إخراج أجيال جديدة تتحدث لغتها بسلاسة وسلامة ووضوح، فمناهجكم عقيمة، وأدواتكم قديمة، فلا تهيلوا التراب في كل مرة على رأس العامية، ذلك أنكم تعلمون علم اليقين أن لكل لغة دارجتها العامية، وأنها لن تنتهي مهما حاصرناها وحاربناها، فاعملوا على مكانتكم ببث الفصحى في النفوس بالحب، والفهم، والعلم، والتقنيات التعليمية الحديثة.
غير أن الأيام مرت ولم يثبت لنا أن العامية أو العاميات العربية في أساسها كانت وحدها هي الخطر الداهم على زحف الفصحى والمتسبب في ضعفها، ذلك بعد أن رأينا وسمعنا وصُدمنا في من يتحدثون العربية من أهل الاختصاص ويمارسون مهنة النقد كأستاذ جامعي، وما زالت تلك السيدة التي تتصدر المشهد الثقافي ولا تفرق بين الثُبات والسُبات وتقصد النوم، والخطأ نفسه يصدر عن صحفية بنت إعلامي شهير تتصدر كبريات المجلات الأسبوعية، مع أن هذا الخطأ صدر عن السيدة أم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنها بدلت الثاء سينًا حين دعت له يوم حُنيْن بالثبات، وعُذرها أنها حبشية وكانت مع هذا تقرض الشعر، وتتوجع المنابر من مشايخ يلبسون العمائم يحسنون قراءة القرآن الكريم، وينطقون العربية بلحن في الإعراب، مثلهم مثل الأعاجم.
وعلى طول البلاد العربية وعرضها هناك من يكتبون بالعامية مع اتصالهم الوثيق بالعربية الفصيحة سواء أفي مكاتباتهم أم في أعمالهم، وهم يملكون ناصية الإبداع باللغتين دون غضاضة أو تضاد، دون أن تنطوي في نفوسهم الرغبة الملحة في القضاء عليها، ولم يلجؤوا إلى العامية استسهالا أو هروبًا من معجمية الفصحى وقواعدها، والشعر الخليلي وعروضه، والدواوين خير شاهد على صدق ما أقول، والمجموعات القصصية التي تجد مبدعها واحدا رغم اختلاف الأجناس الأدبية واللغة واللهجة المستخدمة.
وحين سألني أحد الأدباء الذين يمارسون العامية والفصحى والكتابة: لماذا تنتصر للفصحى وتكتب بالعامية؟! أجبته: ليس ثمة تناقض؛ إذ كنا في مصر نستقبل الجزائرية عبر غناء رابح درياسة، والمغربية عبر عبد الوهاب الدكالي، واللبنانية عبر صوت فيروز.. وكذلك الفن الخليجي، واستمتعنا بكل تلك اللهجات.. كما استمتع العرب باللهجة المصرية، وكانت لها السيادة لأنها امتلكت المواد الناقلة والحاملة لها عبر الأدب والفن والإعلام، وصرنا نميز بين اللهجة السعودية والتونسية، والتقت لهجات العرب في إذاعة صوت العرب.. لكن كان هناك اتفاق ضمني مبدئي أننا نتكلم العامية.. لكن في كتبنا وصلواتنا تجمعنا العربية الفصحى.. فليس ثمة تناقض.. ولو حتى من باب العرف.. والعرف عند العرب أقوى من القانون. وكتبتُ بالعامية ــ وقت كنت أكتب شعرًا بالعامية ـ لأنها نادتني.. تغلبتُ عليها تارة لكنها غالبتني في الزجل والقصيدة العامية، والأغنية، كنت معها مثل الطفل الأعسر كلما حاولت التيامن لم أستطع، مع كوني لا أجد غضاضة في التعاطي مع القصيدة الفصحى قراءةً وكتابة، ووافقني أحد أصدقائي ممن يكتبون القصيدة العمودية.. أن قلت له في جدال: عندما يكون المعنى أقوى في النص الشعري العامي فهو أفضل من شعر موزون بالفصحى ولكنه خواء..
لقد شكلت الثورة الفضائية في الاتصالات أحد روافد الوسائل الحمائية لتلاقح الأفكار بالعامية، فقد نقل جناح الدراما بأنواعه عامية شعب كل قطر عربي إلى شقيقه شعب القطر الآخر، وبعد أن كان عندنا إذاعة واحدة تضم العرب، صار عندنا قنوات لكل قطر وحده، وهذه القنوات لم تفرق العرب بل جمعتهم.
ليس هناك خوف على الفصحى من العامية، مثلما ليس ثمة خوف على العامية من جور الفصحى، بل أفادت الفصحى العامية حين هذبتها ورفعتها قريبًا منها، ودخلت العامية على الفصحى فآنستها وحببتها إلى المتلقي الذي كان ينفر منها، وبهذا أصبحت عندنا لغة وسطى.. ثالثة.. يجتمع عليها الجميع.. ومن استطعم وتذوق اللغة في كل أحوالها.. وامتلك ناصية أكثر من جنس شاء له أن يعبر بأقواها.. والفكرة هي التي تختار قالبها لا المبدع.
يقول اللغوي خليل كلفت في دراسته حول الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية: (وهكذا نلتقي بفكرة أن التجاور بين اللغتين المسماتين بالفصحى والعامية كان قائما منذ البداية، منذ الجاهلية، وبفكرة أن التجاور الطويل أثبت عجز "الفصحى" عن القضاء على تلك "العامية"، وبفكرة أنه أثبت عجز "العامية" عن القضاء على "الفصحى"، وبفكرة ضرورة القضاء على هذه لصالح تلك، وبفكرة ضرورة القضاء على تلك لصالح هذه، وبفكرة أن التجاور سيظل قائما إلى ما شاء الله، وبفكرة أنه تجاور سعيد لا ينبغي أن يثير ضيق أحد).
يرى الشاعر والباحث كريم موزة الأسدي أن الفصحى وهي الأم ما عادت لغة يومية لأيّ من الشعوب العربية؛ لذا فإن تراثها من العصر الجاهلي وحتى الآن هو تراث عربي أصيل لكنه يقع خارج دائرة الفلكلور ليستقر ضمن التراث الرسمي بحكم أنها لغة القراءة والكتابة وليست لغة المشافهة، ولقد ميز الأدباء والمفكرون المعاصرون بين أدب الخاصة وأدب العامة.
كما يرى أن (اللغة العامية الدارجة) هي الوعاء الأكبر لفنون مثل الشعر الشعبي والأغاني الشعبية بجميع ألوانها وبما يرافقها من ألحان وموسيقى وحكايات وأمثال ونكت وطرائف وكل أشكال القولي الشفاهي، ولقد ظل هذا النوع حيّا رغم تقلبات الأحوال والعصور؛ وذلك لأن دورانه على الألسن والشفاه وليس على الورق يكون بمثابة دوران الدم في عروق الكائن الحي؛ لذا فهو يرفض أن يجمد لكنه يتغير ويتنوع ويتطور باستمرار لأن ما يشكله هو ذاكرات وأناس في مواقف معينة وفقا لمواهبهم المبدعة وتلبيةً فوريةً لاحتياجاتهم.
ينبه الأسدي إلى نقطة هامة يراها مرتبطة بعملية التنوير حيث يأتي دور الأدب العامي أكثر أثرًا من أدب الفصحى؛ وذلك لأن أدب الفصحى بما له من خصائص ومميزات يظل فوق مـدارك العامة؛ مما يقلل أو يضعف تفاعلهم معه ويضعف بالتالي تأثيره فيهم، بخلاف الأدب العامي الذي واسطته في مجتمعه عامة الشعب؛ فهو بحكم عفويته وبساطته ومجاراته لأحـداث الساعة وانتقاله السريع مشافهة يكون له النفوذ الطبيعي على جميع طبقات المجتمع.
وتأتي نظرة الأسدي مؤيدة لما قلته من نفي الخوف الموهوم والمهول من خطر العامية على العربية، فيقول: (وبالنظر إلى الشعر الشعبي أو العامي تحديدًا سنجده يرتبط بتقاليد الشعر العربي الفصيح ليس بتقاليده فقط وإنما أيضًا بأغراضه، وهذا الارتباط أسَّسَ للتشابه والتجانس بين جملة ما أُنتج في أدبنا العربي من شعر على اختلاف البيئات والعصور، فهما في نظري مرتبطان دائمًا أحدهما بالآخر ولا أتخوف من أحدهما على الآخر.. وقد أدركت المؤسسات الثقافية والأدبية في عصرنا الآني ما للأدب العامي من أهمية وفعالية في توجهـات الشعوب وقيادتها فاعتنت به).
يستند الرأي لما ذهب إليه الأسدي لمقولة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين التي أوردها في كتابه "الحياة الأدبية في جزيرة العرب"، حيث قال:
( لسوء الحظ لا يُعنى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما لأن لغته بعيدة عن القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها، وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين... وهذا الأدب الشعبي ــ وإن فسدت لغته ــ حي، قوي، له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة منتجيه).
يدحض الأسدي خوف المدافعين عن الفصحى من أن تلقى مصير اللغة اللاتينية نفسه، الأمر الذي دفع المثقفين العرب لأن يُعْرِضُوا لوقت طويل عن دراسة الآداب العامية وجمع تراثها والعناية بها خشيةً من مداهمة العامية للفصحى؛ بحيث تحل العامية مع طول الزمن محل الفصحى وتزيحها نهائيا فتضيع الفصحى وبالتالي القرآن والدين والتراث العربي، وتفقد الأمة بذلك أهم عناصر ومقومات وحدتها.. ولكن هذا التخوف الآن قد عفا عليه الدهر ولم يعد ذا بال بعد أن تأكد للجميع أن القرآن ولغة القرآن أقوى وأرسخ من أن يزعزعها أو يهدمها أي اهتمام بلهجة عامية.
ومن هنا وبعد ما تقدم أقول وكلي ثقة وإيمان إنه لم يثبت أن العامية كانت العائق الأكبر أمام تعلم الفصحى بطلاقة، أو إنها كانت الخطر الذي يجب أن يتحمل اللوم والوزر كله في تعثر الألسنة في النطق الصحيح بالفصحى.
فأرجو من سدنة الفصحى المنوط بهم تدريس اللغة العربية وتيسيرها وإفشاؤها في المعاهد التعليمية والعلمية ثم المجتمع بالضرورة: رجاءً لا تشيطنوا العامية، ولا تخلقوا منها فزَّاعة تعلقون عليها فشلكم في إخراج أجيال جديدة تتحدث لغتها بسلاسة وسلامة ووضوح، فمناهجكم عقيمة، وأدواتكم قديمة، فلا تهيلوا التراب في كل مرة على رأس العامية، ذلك أنكم تعلمون علم اليقين أن لكل لغة دارجتها العامية، وأنها لن تنتهي مهما حاصرناها وحاربناها، فاعملوا على مكانتكم ببث الفصحى في النفوس بالحب، والفهم، والعلم، والتقنيات التعليمية الحديثة.