لم يتوان ابن المقفع من التنديد؛ في أكثر من مكان، بالانتحال، حتى أعلن ذلك برأي مهم قائلاً: "إن سمعت من صاحبكَ كلاماً أو رأيتَ منهُ رأياً يعجبُكَ فلا تنتحلهُ تزيناً به عند الناسِ، واكتفِ من التزينِ بأن تجتني الصوابَ إذا سمعتهُ، وتنسبهُ إلى صاحبهِ، واعلم أن انتحالَك ذلكَ مسخطةُ لصاحبكَ، وان فيه مع ذلك عاراً وسخفاً". لكنه اشتغل على الانتحال من ضفة أخرى، فقد عكسه، وقدَّم كتاباً مهماً حاول أن يدين من خلال السلطة الحاكمة على لسان الحيوان.
على الرغم من أن ابن المقفع كتب على غلاف كتابه "كليلة ودمنة" ان هذه الحكايات للفيلسوف الهندي بيدبا، إلا أن هناك عدداً من المؤرخين يؤكدون أن هذا الكتاب من تأليف ابن المقفع وليس بيدبا، مستندين بذلك إلى دليلين مهمين: الأول أن الهند لم تعرف فيلسوفاً بهذا الاسم، والثاني أن المؤرخين الهنود لم يسمعوا بمثل هذا الكتاب، ولم يعثروا على أية نسخة منه. ربما يكون هذان الدليلان كافيين ليكون ابن المقفع مؤلفاً لهذا الكتاب، وقد اشتغل على القناع من أجل أن يمرر ما يريد قوله على لسان الحيوان، وهذا بحدِّ ذاته لم يكف لإقناع السلطة الحاكمة وقتها، وكان كتابه التالي "الأمان"، سبباً مضافاً لقتله على يد أبي جعفر المنصور، مستعملاً بذلك عامله على البصرة سفيان بن معاوية.
من جانب آخر، سبق ابن المقفع اثنان كانا من أعرف الناس بلغات العرب وأدبهم، وهما حماد الراوية في الكوفة وخلف الأحمر في البصرة ومن فراستهما أن الشعر العربي اختلط مع ما كانا يكتبانه، حتى عدهم أغلب النقاد القدماء أفضل منتحلين في الأدب العربي.
إذا كان القناع أحد أسباب مقتل ابن المقفع، فإن الانتحال أحيا الراوية والأحمر، وجعلهما ندَّين كبيرين لأهم شعراء العربية منذ نشأة الشعر وحتى عصرهما وإذا كان الانتحال محاكاةُ كاتب للغة ومعاني مؤلِّفٍ آخر وتقديمها كما لو كانت من بنات أفكاره، فإن عدداً كبيراً من أدبائنا انتحلوا كل ما قيل أمامهم، في مجلس أدبي، أو جلسة سمرٍ، أو كلام عابرٍ.
يحكي أحد الباحثين في الفلسفة والمعارف المختلفة، انه كان يلتقي مع بعض أصدقائه الأدباء والصحفيين في مجالس سمرٍ بشكل يومي تقريباً، يتحدثون لساعات طويلة حول الفكر والأدب، لكن هؤلاء "الكتبة" يستلون كل ما يقال في هذه المجالس ليعيدوا صياغته بمقالات وأعمدة صحفية تنشر مباشرة بعد هذه الجلسات وهكذا يتغير شكل الانتحال من عصر إلى آخر، وتختلف أرديته، ابتداءً من العمامة وصولاً إلى بنطلون الجينز، ومن الآلة الطابعة حتى العالم الرقمي.
كان كل شيء في القرون الثلاثة الأولى من الشعر العربي يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه، تأخُّر التدوين، والشفاهية التي بدأ بها هذا الشعر، ومن ثم تناقله من لسان إلى آخر وصولاً إلى عصر التدوين. وفي وقتنا هذا، تنوعت أسباب هذا الانتحال، حتى لم يتمكن المؤلفون من حفظ حقوقهم، فأصبح لدينا الآلاف من حماد الراوية وخلف الأحمر.
* نقلا عن الصباح
على الرغم من أن ابن المقفع كتب على غلاف كتابه "كليلة ودمنة" ان هذه الحكايات للفيلسوف الهندي بيدبا، إلا أن هناك عدداً من المؤرخين يؤكدون أن هذا الكتاب من تأليف ابن المقفع وليس بيدبا، مستندين بذلك إلى دليلين مهمين: الأول أن الهند لم تعرف فيلسوفاً بهذا الاسم، والثاني أن المؤرخين الهنود لم يسمعوا بمثل هذا الكتاب، ولم يعثروا على أية نسخة منه. ربما يكون هذان الدليلان كافيين ليكون ابن المقفع مؤلفاً لهذا الكتاب، وقد اشتغل على القناع من أجل أن يمرر ما يريد قوله على لسان الحيوان، وهذا بحدِّ ذاته لم يكف لإقناع السلطة الحاكمة وقتها، وكان كتابه التالي "الأمان"، سبباً مضافاً لقتله على يد أبي جعفر المنصور، مستعملاً بذلك عامله على البصرة سفيان بن معاوية.
من جانب آخر، سبق ابن المقفع اثنان كانا من أعرف الناس بلغات العرب وأدبهم، وهما حماد الراوية في الكوفة وخلف الأحمر في البصرة ومن فراستهما أن الشعر العربي اختلط مع ما كانا يكتبانه، حتى عدهم أغلب النقاد القدماء أفضل منتحلين في الأدب العربي.
إذا كان القناع أحد أسباب مقتل ابن المقفع، فإن الانتحال أحيا الراوية والأحمر، وجعلهما ندَّين كبيرين لأهم شعراء العربية منذ نشأة الشعر وحتى عصرهما وإذا كان الانتحال محاكاةُ كاتب للغة ومعاني مؤلِّفٍ آخر وتقديمها كما لو كانت من بنات أفكاره، فإن عدداً كبيراً من أدبائنا انتحلوا كل ما قيل أمامهم، في مجلس أدبي، أو جلسة سمرٍ، أو كلام عابرٍ.
يحكي أحد الباحثين في الفلسفة والمعارف المختلفة، انه كان يلتقي مع بعض أصدقائه الأدباء والصحفيين في مجالس سمرٍ بشكل يومي تقريباً، يتحدثون لساعات طويلة حول الفكر والأدب، لكن هؤلاء "الكتبة" يستلون كل ما يقال في هذه المجالس ليعيدوا صياغته بمقالات وأعمدة صحفية تنشر مباشرة بعد هذه الجلسات وهكذا يتغير شكل الانتحال من عصر إلى آخر، وتختلف أرديته، ابتداءً من العمامة وصولاً إلى بنطلون الجينز، ومن الآلة الطابعة حتى العالم الرقمي.
كان كل شيء في القرون الثلاثة الأولى من الشعر العربي يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه، تأخُّر التدوين، والشفاهية التي بدأ بها هذا الشعر، ومن ثم تناقله من لسان إلى آخر وصولاً إلى عصر التدوين. وفي وقتنا هذا، تنوعت أسباب هذا الانتحال، حتى لم يتمكن المؤلفون من حفظ حقوقهم، فأصبح لدينا الآلاف من حماد الراوية وخلف الأحمر.
* نقلا عن الصباح