ألهمت حكاية ديك الجن الحمصي مع حبيبته ورد شعراء كثيرين هزّمتهم هذه الفاجعة وتخيّلوا أسباباً شتى لحصولها.
ولكن المعروف أو المشهور العائد لهذه الحكاية ولأسبابها هو ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» عنها، فقد روى ابن أخ لديك الجنّ يقال له أبو ذهب الحمصي أن عمه الشاعر الذي قتل حبيبته ثم زوجته لاحقاً ورد بنت ناعمة الحمصي كان خليعاً ماجناً معتكفاً على القصف واللهو، متلافا لما ورث عن آبائه، وكان له ابن عم يكنّى أبا الطيب يعظه وينهاه عما يفعله. وكان عبد السلام، وهذا هو اسم الشاعر ديك الجن، قد اشتهر بجارية نصرانية من أهل حمص، هَوِيها وتمادى به الأمر حتى غلبت عليه وذهبت به. فلما اشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها فأجابته لعلمها برغبة فيها. أسلمت ورد، وهذا هو اسمها، على يده فتزوجها وقال فيها شعراً كثيراً منه:
اُنْظُرْ إلى شَمْسِ القُصُورِ وبَدْرِها = وإلى خُزَاماها وبَهْجَةِ زَهْرِهَا
لَمْ تَبْلُ عينُكَ أَبْيَضاً في أَسْودٍ = جَمَعَ الجمَالَ كوَجْهِهَا في شَعْرِهَا
وَرْدِيّةُ الوَجَناتِ يَختَبِرُ اسْمَهَا = مِنْ رِيقِها مَن لا يُحيطُ بِخُبْرِهَا
تَسْقِيكَ كَأْسَ مُدامَةٍ مِنْ كَفِّها = وردية ومدامة من ثغرها
ولكن ديك الجن تسوء أوضاعه المادية فيترك «ورد» في حمص ويقصد السلّمية ويقيم مدة عند صديق له. في هذا الوقت يشيع ابن عمه أبو الطيب أن «ورد» تهوى غلاماً، وبلغ الخبر ديك الجن فقرر العودة سريعاً إلى حمص. ويكمل الأصفهاني الحكاية على النحو التالي: «أرصد أبو الطيب قوماً يعملونه بموافاة ديك الجن باب حمص. فلما وصل ديك الجن خرج إليه أبو الطيب مستقبلاً ومعنّفا على تمسكه بهذه المرأة بعدما شاع من ذكرها بالفساد.
وأشار عليه بطلاقها. وأعلمه أنها قد أحدثت في مغيبة حادثة لا يحمل به معها المقام عليها. ودسّ الرجل الذي رماها به. وقال له: إذا قدم عبدالسلام ودخل منزله، وقفت على بابه وكأنك لم تعلم بقدومه ونادِ باسم ورد، فإذا قال: من أنت؟ فقل: أنا فلان..
«فلما نزل عبدالسلام منزله وألقى ثيابه، سألها عن الخبر وأغلظ عليها، فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئا. فبينما هو في ذلك، إذ قرع الرجل الباب فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، فقال لها عبدالسلام: يا زانية، زعمت أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئاً! ثم اختط سيفه فضربها به حتى قتلها.
«وبلغ السلطان الخبر فطلبه، فخرج إلى دمشق فأقام بها أياماً، وكتب أحد أصدقائه إلى أمير دمشق أن يؤمّنه، وتحمّل عليه بإخوانه حتى يستوهبوا جنايته. وعندما عاد إلى حمص وعرف الخبر على حقيقته وصحته واستيقنه فندم، ومكث شهراً لا يستفيق من البكاء، ولا يطعم من الطعام إلا ما يقيم رمقه».
هذه هي حكاية ديك الجن الحمصي كما يرويها الأصفهاني ومنها يتضح أن الشاعر خضع لدسيسة دبرها ابن عمه له. وقد كانت هذه الدسيسة من الإحكام بحيث أن الشاعر صدّق ما أخبروه به، وهو أن زوجته وحبيبته النصرانية ورد بنت ناعمة الحمصي تخونه مع غلام له فقتلها بسبب ذلك، ومع أن هناك في المصادر القديمة أكثر من رواية لحكاية الشاعر القاتل، إلا أنها تتفتق في الخطوط العامة وهو أن ديك الجن قتل حبيبته لشكه في وفائها له، وأنه بعد قتلها ندم ندماً شديداً خاصة بعد أن تيقّن أن شكهّ بها لم يكن مبنياً على أساس، وأن ورد بريئة من كل ما نسبه الواشون إليها.
يحلل الباحث الدكتور سليم مجاعص عناصر رواية الأصفهاني على النحو التالي:
- مجون ديك الجن سبّب خلافاً بينه وبين ابن عمه، ويقود هذا الخلاف ديك الجن إلى هجاء أبي الطيب. وبإيراد هذا العنصر من الرواية يعطينا أبو الفرج خلفية صراع بين الرجلين سوف تؤدي إلى إحداث الفاجعة.
- زواج ديك الجن من ورد الفتاة النصرانية. هذا النصر هو بداية الحبكة الدرامية إذ أنه يدُخل إلى سياق القصة شخصية الضحية المرتقبة.
وليس في الرواية حتى هذه النقطة أي إشارة سلبية حول «ورد» إلا أمر هيام ديك الجن بها وزواجه منها. وقد يحمل هذا العمل الأخير على الظن أن الرجل الخليع المعكف على القصف واللهو قد وجد أخيراً محوراً وحيداً لعواطفه واهتمامه، وأن ولهه المتمادي بزوجه سوف يعطي حياته بعداً جديداً.
- العسر المادي الذي أصاب ديك الجن ورحيله إلى السلمّية. هذا العنصر يخلق مناسبة موافقة للمكيدة التي سوف ينسجها ابن عمه. فافتراق ديك الجن عن ورد، خاصة إذا طال الفراق، مناسبة مؤاتية لاختلاق الأخبار وإيصال هذه الأخبار الملفقة إلى مسمع الغائب عن دياره. والغربة والبعد ملائمان جداً للشك.
- عودة ديك الجن ومجرى الحوادث التي أكّدت شكوكه وظنونه حتى دفعته إلى قتل ورد وتعبيره عن ذلك في شعره. وهذه الفاجعة هي باب أفضل شعره في الرثاء. ومن الناحية القصصية يصل بنا هذا العنصر إلى قمة المأزق، لكن أقصى حدود المأساة مازالت غير محددة إذ أن حادث قتل ورد لا بد أن تترتب عليه نتائج مهمة.
- هرب ديك الجن إلى دمشق ثم عودته إلى حمص ووقوفه على حقيقة الأمر. هنا تبلغ المأساة أقصى حدودها بإعلان براءة ورد.
من هذا التحليل المقتضب لعناصر رواية أبي الفرج نجد أنفسنا أمام حبكة قصصية رائعة في تتابع مراحلها وتصاعد حرارتها الدرامية. نجح الأصفهاني في تقديم سردية فيها كل عناصر التكامل الدرامي وتعليل الحوادث وربطها بأسبابها المباشرة وغير المباشرة.
على أن للباحثين المحدثين رأيهم أيضاً في قصة ديك الجن وورد.
فها هو الكاتب السوري أحمد الجندي يقول في المقدمة التي وضعها لديوان ديك الجن: «إن ديك الجن الشاعر عبدالسلام بن رغبان أحد الذين تناولتهم الأيدي المخترعة المدلسة التي كانت تسعى لتشويه التاريخ العربي وتزويره، لذلك عملت هذه الأيدي على صنع شاعر غير الشاعر الحقيقي الذي نقرأه في شعر ديك الجن. وأما شعر الرجل فهو الشعر المتوسط لا بالرفيع ولا بالسيئ المرذول، وأحسن ما في ديوانه هذه المقطوعات الصغيرة التي ذكر فيها جاريته ورداً وغلامه بكراً، ومدح بها جعفر وأحمد ابني علي الهاشمي في السلمية. أما الأبيات التي اشتهرت له فقليلة العدد بالقياس إلى شعراء ذلك العصر المعاصرين له من مثل أبي نواس وأبي تمام. ولكن رأينا في الشاعر ليس هو الرأي النهائي فقد تكشفت الأيام عن بقية شعر الشاعر فنرى فيه شعراً غير الذي بين أيدينا الآن.
ولعل اسم الشاعر وسلوكه في الحياة والقصص المروية عنه وأكثرها غريب ومستبعد، لعل هذه الأمور أو جلّها قد أعطت الشاعر سمعة كبيرة وشهرة مستفيضة. وهكذا فإن شخصية الرجل الحقيقية تبقى رهنا بالزمن وملكاً للتاريخ. وكل ما نراه الآن إنما هو جزء من هذه الشخصية العجيبة التي نرجو أن تتاح لها فرصة الظهور والوضوح.
أحمد الجفري، تأسيسا على ما تقدم، لا يصدّق الرواة القدماء، ويعتبر أن شخصية ديك الجن التاريخية، أو كما كان في الواقع، شخصية غير واضحة بما يكفي، وانه يلزمها مزيد من الرسم الدقيق. وهو يصنف ديك الجن في عداد الشعراء الوسط، فلا هو بالشاعر الكبير ولا هو بالشاعر الرديء.
ولكن حكاية ديك الجن بالرغم من التباسها هذا، أو استناداً إلى هذا الالتباس، ألهمت شعراء كثيرين في الشعر العربي المعاصر.
فها هو الشاعر السوري عمر أبو ريشة ينظم قصيدة عن ديك الجن يجعل منه شاعراً عاجزاً ويبني مأساته مع حبيبته ورد وفق ذلك.
وها هو الشاعر السعودي عبدالعزيز محيي الدين خوجة يكتب عن هذه المأساة قصيدة يحاول أن يعرّف في بعض أبياتها سرّ العشق، وهناك قصائد أخرى كثيرة حول ديك الجن ومأساته، وكلها تدل على أن الحكاية ما تزال تلهم الشعراء، وأن غموضها يضفي عليها سحراً خاصاً ويمنحها قدرة متجددة على التأويل والتفسير والتأثير في القارئ.
ورغم عجز المصادر القديمة التي بين أيدينا من مدّنا بالمعطيات الأكيدة أو الدقيقة حول ما جرى بالفعل، يمكن للباحث المعاصر أن يستنتج الكثير من هذه القصة العاطفية الحزينة.
من ذلك الحب الكبير الذي كان بين عبدالسلام وورد. شاعر مسلم يحب فتاة نصرانية تتجاوز هذه الفتاة كل التقاليد لتلتقي مع هذا الشاعر وتتزوجه.
فالحديث عنها هو حديث عن الحب ومراحله ونموّه وانتصاره الآني ثم انكساره الكبير، وشعر ديك الجن في ورد قبل الفاجعة من أرق صور الحب.
في قصائده تكرار لما يعتاده العشاق في الشعر وفي الحوار الحياتي اليومي.
يقول ديك الجن:
مرتْ فقلتُ لها: تحيَّة َ مغرمُِ = ماذا عَليكِ من السَّلامِ؟ فَسَلِّمي
قالت: لمن تعني؟ فطرفُكِ شاهدٌُ = بنحولِ جسمكَ قلتُ: للمتكلمِ
فتضاحَكَتْ فبكيْتُ، قالتْ لا تُرَعْ = فَلَعَلَّ مِثْلَ هواكَ بالمتَبَسِّمِ
في هذه القصيدة ما يستحق السؤال حول كفاءة ديك الجن الشعرية. نحن نعلم أن من النادر تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة في الشعر العربي القديم. ولعل ضرورة اكتمال المعنى في البيت الواحد هي التي قيدت قدرة الشعراء ورغبتهم في استعمال الحوار كشكل من تعدّد الأصوات.
ولعل عمر بن أبي ربيعة من أبرع الشعراء القدامى في استعمال الحوار في شعره لإضفاء رونق حداثة لقصائده يخلق تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة جوّا من الحداثة والارتقاب والتنوع يضيف إلى جمالية العمل الفني. وإذا نظرنا إلى أشهر قصائد عمر، ومنها أمِن آل نُعم أنت غاد.. نجد أمثلة من براعة هذا الشاعر في استعمال تعدد الأصوات لخلق حركة حديثة في القصيدة.
قد يبدو لأول وهلة أن قصيدة ديك الجن تحاكي قصيدة عمر المشهورة «ليت هندا أنجزتنا ما تعد» خاصة البيت الأخير منها:
كلما قلتُ: متى ميعادنا؟ = ضحكت هند وقالت: بعد غد!
الفرق طبعاً هو في تفاصيل علاقة الشاعر مع الصبية، فبينما عمر مولّه بهند وهي تتدلل ولا تُفصح، نجد أن الصبية التي يناجيها ديك الجن تعلن له حبها (فلعل مثل هواك بالمبتسم)، وهي في تمنعها تدفع الشاعر إلى مزيد من أعمال الخيال في خدمة صورة الحب.
ويأخذ ديك الجن معنى اسم حبيبته إلى نتائجه الطبيعية:
يامنْ حلا ثمّ طابَ ريحاً = ففيهِ شُهْدٌ وفيهِ وَرْدُ
لو لم تكنْ للسَّماءِ شمسٌ = لَكُنْتَ تَبْدو من حيثُ تَبْدو
ما إنْ أَظُنُّ الهلالَ إلاّ = من نورِ خَدَّيْكَ يَسْتَمِدُّ
ناجيتُ فيكَ الصفاتِ حتى = ناجيتني ما لذاكَ ندُّ
وهو لا يترك هذه الصورة في قصيدة حتى يعود إليها في أخرى:
أياً قمراً تبسّم عن أقاح = ويا غصنا يميل مع الرياح
جبينك والمقلاّ والثنايا = صباح في صباح في صباح
لا نجد في شعر ديك الجن ما يوضح الأحداث التي وقعت بين مغادرته السلمية وقتله وردا إلا إشارة إلى أن شيئا حدث ليؤكد ظنونه وشكّه فعمد إلى قتلهما،
وفي قصيدة له نجد أن ندمه يدفع به إلى الندم على زواجه من ورد، ونلحظ بداية تبدل عواطفه إذ ينتقل من غضب الشتيمة والانتقام إلى دموع الحسرة والأسف:
ليتني لم أكن لعطفك نلتُ = وإلى ذَلك الوِصالِ وَصَلْتُ
فالَّذِي مِنِّيَ اشْتَمَلْتِ عَليه = ألعارٍ ما قد عليهِ اشتملتُ
قال ذو الجهْلِ قد حَلُمْتَ ولا = أَعْلَمُ أَنِّي حَلُمتُ حَتَّى جَهِلْتُ
لائمٌ لي بِجَهْلِهِ ولماذا = أَنا وَحْدِي أَحْبَبْتُ ثُمَّ قَتَلْتُ
سَوْفَ آسى طولَ الحَياة ِ وَأَبْكِيـكِ = على ما فَعَلْتِ لا ما فَعَلْتُ..
وفي اعتقادنا أن حكاية ديك الجن مع ورد حكاية عاطفية حزينة وجميلة فيها بلا شك قدر كبير من الواقع، ولكنها قابلة للتفسير والتأويل والبحث والشك إلى ما لا نهاية. لهذه الجهة بالذات تشبه قصة مجنون ليلى وإن اختلفت عنها في جوانب كثيرة، ذلك أن الشكوك تحيط بالقصتين من الوقائع والتفاصيل، ومن حيث الحدوث أيضاً إذ يشك أكثر الرواة في كون «المجنون» وُجد فعلاً. ولكن القصتين ما تزالان إلى اليوم تلهمان الباحثين كما تلهمان الفنانين والشعراء، وإذا كان شعر ديك الجن شعراً ضعيفاً برأينا، ولولا حكايته مع ورد لكان مستوجب الإهمال، فإن «الحكاية الوردية» بالذات تمنح هذا الشعر جواز مرور إلى القارئ وإلى الباحث معاً لاستخلاص ملاحظات تتصل بالبيئة والمجتمع اللذين عاش فيهما هذا الشاعر الخليع المستهتر. وهذا بحدّ ذاته كافٍ لجعل حكايته تقرأ على الدوام رغم الغرابة التي تلفّها ورغم أسطوريتها في آن، وهذا ما يشير إليه بالتفصيل كتاب الباحث الدكتور سليم مجاعص.
ولكن المعروف أو المشهور العائد لهذه الحكاية ولأسبابها هو ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» عنها، فقد روى ابن أخ لديك الجنّ يقال له أبو ذهب الحمصي أن عمه الشاعر الذي قتل حبيبته ثم زوجته لاحقاً ورد بنت ناعمة الحمصي كان خليعاً ماجناً معتكفاً على القصف واللهو، متلافا لما ورث عن آبائه، وكان له ابن عم يكنّى أبا الطيب يعظه وينهاه عما يفعله. وكان عبد السلام، وهذا هو اسم الشاعر ديك الجن، قد اشتهر بجارية نصرانية من أهل حمص، هَوِيها وتمادى به الأمر حتى غلبت عليه وذهبت به. فلما اشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها فأجابته لعلمها برغبة فيها. أسلمت ورد، وهذا هو اسمها، على يده فتزوجها وقال فيها شعراً كثيراً منه:
اُنْظُرْ إلى شَمْسِ القُصُورِ وبَدْرِها = وإلى خُزَاماها وبَهْجَةِ زَهْرِهَا
لَمْ تَبْلُ عينُكَ أَبْيَضاً في أَسْودٍ = جَمَعَ الجمَالَ كوَجْهِهَا في شَعْرِهَا
وَرْدِيّةُ الوَجَناتِ يَختَبِرُ اسْمَهَا = مِنْ رِيقِها مَن لا يُحيطُ بِخُبْرِهَا
تَسْقِيكَ كَأْسَ مُدامَةٍ مِنْ كَفِّها = وردية ومدامة من ثغرها
ولكن ديك الجن تسوء أوضاعه المادية فيترك «ورد» في حمص ويقصد السلّمية ويقيم مدة عند صديق له. في هذا الوقت يشيع ابن عمه أبو الطيب أن «ورد» تهوى غلاماً، وبلغ الخبر ديك الجن فقرر العودة سريعاً إلى حمص. ويكمل الأصفهاني الحكاية على النحو التالي: «أرصد أبو الطيب قوماً يعملونه بموافاة ديك الجن باب حمص. فلما وصل ديك الجن خرج إليه أبو الطيب مستقبلاً ومعنّفا على تمسكه بهذه المرأة بعدما شاع من ذكرها بالفساد.
وأشار عليه بطلاقها. وأعلمه أنها قد أحدثت في مغيبة حادثة لا يحمل به معها المقام عليها. ودسّ الرجل الذي رماها به. وقال له: إذا قدم عبدالسلام ودخل منزله، وقفت على بابه وكأنك لم تعلم بقدومه ونادِ باسم ورد، فإذا قال: من أنت؟ فقل: أنا فلان..
«فلما نزل عبدالسلام منزله وألقى ثيابه، سألها عن الخبر وأغلظ عليها، فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئا. فبينما هو في ذلك، إذ قرع الرجل الباب فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، فقال لها عبدالسلام: يا زانية، زعمت أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئاً! ثم اختط سيفه فضربها به حتى قتلها.
«وبلغ السلطان الخبر فطلبه، فخرج إلى دمشق فأقام بها أياماً، وكتب أحد أصدقائه إلى أمير دمشق أن يؤمّنه، وتحمّل عليه بإخوانه حتى يستوهبوا جنايته. وعندما عاد إلى حمص وعرف الخبر على حقيقته وصحته واستيقنه فندم، ومكث شهراً لا يستفيق من البكاء، ولا يطعم من الطعام إلا ما يقيم رمقه».
هذه هي حكاية ديك الجن الحمصي كما يرويها الأصفهاني ومنها يتضح أن الشاعر خضع لدسيسة دبرها ابن عمه له. وقد كانت هذه الدسيسة من الإحكام بحيث أن الشاعر صدّق ما أخبروه به، وهو أن زوجته وحبيبته النصرانية ورد بنت ناعمة الحمصي تخونه مع غلام له فقتلها بسبب ذلك، ومع أن هناك في المصادر القديمة أكثر من رواية لحكاية الشاعر القاتل، إلا أنها تتفتق في الخطوط العامة وهو أن ديك الجن قتل حبيبته لشكه في وفائها له، وأنه بعد قتلها ندم ندماً شديداً خاصة بعد أن تيقّن أن شكهّ بها لم يكن مبنياً على أساس، وأن ورد بريئة من كل ما نسبه الواشون إليها.
يحلل الباحث الدكتور سليم مجاعص عناصر رواية الأصفهاني على النحو التالي:
- مجون ديك الجن سبّب خلافاً بينه وبين ابن عمه، ويقود هذا الخلاف ديك الجن إلى هجاء أبي الطيب. وبإيراد هذا العنصر من الرواية يعطينا أبو الفرج خلفية صراع بين الرجلين سوف تؤدي إلى إحداث الفاجعة.
- زواج ديك الجن من ورد الفتاة النصرانية. هذا النصر هو بداية الحبكة الدرامية إذ أنه يدُخل إلى سياق القصة شخصية الضحية المرتقبة.
وليس في الرواية حتى هذه النقطة أي إشارة سلبية حول «ورد» إلا أمر هيام ديك الجن بها وزواجه منها. وقد يحمل هذا العمل الأخير على الظن أن الرجل الخليع المعكف على القصف واللهو قد وجد أخيراً محوراً وحيداً لعواطفه واهتمامه، وأن ولهه المتمادي بزوجه سوف يعطي حياته بعداً جديداً.
- العسر المادي الذي أصاب ديك الجن ورحيله إلى السلمّية. هذا العنصر يخلق مناسبة موافقة للمكيدة التي سوف ينسجها ابن عمه. فافتراق ديك الجن عن ورد، خاصة إذا طال الفراق، مناسبة مؤاتية لاختلاق الأخبار وإيصال هذه الأخبار الملفقة إلى مسمع الغائب عن دياره. والغربة والبعد ملائمان جداً للشك.
- عودة ديك الجن ومجرى الحوادث التي أكّدت شكوكه وظنونه حتى دفعته إلى قتل ورد وتعبيره عن ذلك في شعره. وهذه الفاجعة هي باب أفضل شعره في الرثاء. ومن الناحية القصصية يصل بنا هذا العنصر إلى قمة المأزق، لكن أقصى حدود المأساة مازالت غير محددة إذ أن حادث قتل ورد لا بد أن تترتب عليه نتائج مهمة.
- هرب ديك الجن إلى دمشق ثم عودته إلى حمص ووقوفه على حقيقة الأمر. هنا تبلغ المأساة أقصى حدودها بإعلان براءة ورد.
من هذا التحليل المقتضب لعناصر رواية أبي الفرج نجد أنفسنا أمام حبكة قصصية رائعة في تتابع مراحلها وتصاعد حرارتها الدرامية. نجح الأصفهاني في تقديم سردية فيها كل عناصر التكامل الدرامي وتعليل الحوادث وربطها بأسبابها المباشرة وغير المباشرة.
على أن للباحثين المحدثين رأيهم أيضاً في قصة ديك الجن وورد.
فها هو الكاتب السوري أحمد الجندي يقول في المقدمة التي وضعها لديوان ديك الجن: «إن ديك الجن الشاعر عبدالسلام بن رغبان أحد الذين تناولتهم الأيدي المخترعة المدلسة التي كانت تسعى لتشويه التاريخ العربي وتزويره، لذلك عملت هذه الأيدي على صنع شاعر غير الشاعر الحقيقي الذي نقرأه في شعر ديك الجن. وأما شعر الرجل فهو الشعر المتوسط لا بالرفيع ولا بالسيئ المرذول، وأحسن ما في ديوانه هذه المقطوعات الصغيرة التي ذكر فيها جاريته ورداً وغلامه بكراً، ومدح بها جعفر وأحمد ابني علي الهاشمي في السلمية. أما الأبيات التي اشتهرت له فقليلة العدد بالقياس إلى شعراء ذلك العصر المعاصرين له من مثل أبي نواس وأبي تمام. ولكن رأينا في الشاعر ليس هو الرأي النهائي فقد تكشفت الأيام عن بقية شعر الشاعر فنرى فيه شعراً غير الذي بين أيدينا الآن.
ولعل اسم الشاعر وسلوكه في الحياة والقصص المروية عنه وأكثرها غريب ومستبعد، لعل هذه الأمور أو جلّها قد أعطت الشاعر سمعة كبيرة وشهرة مستفيضة. وهكذا فإن شخصية الرجل الحقيقية تبقى رهنا بالزمن وملكاً للتاريخ. وكل ما نراه الآن إنما هو جزء من هذه الشخصية العجيبة التي نرجو أن تتاح لها فرصة الظهور والوضوح.
أحمد الجفري، تأسيسا على ما تقدم، لا يصدّق الرواة القدماء، ويعتبر أن شخصية ديك الجن التاريخية، أو كما كان في الواقع، شخصية غير واضحة بما يكفي، وانه يلزمها مزيد من الرسم الدقيق. وهو يصنف ديك الجن في عداد الشعراء الوسط، فلا هو بالشاعر الكبير ولا هو بالشاعر الرديء.
ولكن حكاية ديك الجن بالرغم من التباسها هذا، أو استناداً إلى هذا الالتباس، ألهمت شعراء كثيرين في الشعر العربي المعاصر.
فها هو الشاعر السوري عمر أبو ريشة ينظم قصيدة عن ديك الجن يجعل منه شاعراً عاجزاً ويبني مأساته مع حبيبته ورد وفق ذلك.
وها هو الشاعر السعودي عبدالعزيز محيي الدين خوجة يكتب عن هذه المأساة قصيدة يحاول أن يعرّف في بعض أبياتها سرّ العشق، وهناك قصائد أخرى كثيرة حول ديك الجن ومأساته، وكلها تدل على أن الحكاية ما تزال تلهم الشعراء، وأن غموضها يضفي عليها سحراً خاصاً ويمنحها قدرة متجددة على التأويل والتفسير والتأثير في القارئ.
ورغم عجز المصادر القديمة التي بين أيدينا من مدّنا بالمعطيات الأكيدة أو الدقيقة حول ما جرى بالفعل، يمكن للباحث المعاصر أن يستنتج الكثير من هذه القصة العاطفية الحزينة.
من ذلك الحب الكبير الذي كان بين عبدالسلام وورد. شاعر مسلم يحب فتاة نصرانية تتجاوز هذه الفتاة كل التقاليد لتلتقي مع هذا الشاعر وتتزوجه.
فالحديث عنها هو حديث عن الحب ومراحله ونموّه وانتصاره الآني ثم انكساره الكبير، وشعر ديك الجن في ورد قبل الفاجعة من أرق صور الحب.
في قصائده تكرار لما يعتاده العشاق في الشعر وفي الحوار الحياتي اليومي.
يقول ديك الجن:
مرتْ فقلتُ لها: تحيَّة َ مغرمُِ = ماذا عَليكِ من السَّلامِ؟ فَسَلِّمي
قالت: لمن تعني؟ فطرفُكِ شاهدٌُ = بنحولِ جسمكَ قلتُ: للمتكلمِ
فتضاحَكَتْ فبكيْتُ، قالتْ لا تُرَعْ = فَلَعَلَّ مِثْلَ هواكَ بالمتَبَسِّمِ
في هذه القصيدة ما يستحق السؤال حول كفاءة ديك الجن الشعرية. نحن نعلم أن من النادر تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة في الشعر العربي القديم. ولعل ضرورة اكتمال المعنى في البيت الواحد هي التي قيدت قدرة الشعراء ورغبتهم في استعمال الحوار كشكل من تعدّد الأصوات.
ولعل عمر بن أبي ربيعة من أبرع الشعراء القدامى في استعمال الحوار في شعره لإضفاء رونق حداثة لقصائده يخلق تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة جوّا من الحداثة والارتقاب والتنوع يضيف إلى جمالية العمل الفني. وإذا نظرنا إلى أشهر قصائد عمر، ومنها أمِن آل نُعم أنت غاد.. نجد أمثلة من براعة هذا الشاعر في استعمال تعدد الأصوات لخلق حركة حديثة في القصيدة.
قد يبدو لأول وهلة أن قصيدة ديك الجن تحاكي قصيدة عمر المشهورة «ليت هندا أنجزتنا ما تعد» خاصة البيت الأخير منها:
كلما قلتُ: متى ميعادنا؟ = ضحكت هند وقالت: بعد غد!
الفرق طبعاً هو في تفاصيل علاقة الشاعر مع الصبية، فبينما عمر مولّه بهند وهي تتدلل ولا تُفصح، نجد أن الصبية التي يناجيها ديك الجن تعلن له حبها (فلعل مثل هواك بالمبتسم)، وهي في تمنعها تدفع الشاعر إلى مزيد من أعمال الخيال في خدمة صورة الحب.
ويأخذ ديك الجن معنى اسم حبيبته إلى نتائجه الطبيعية:
يامنْ حلا ثمّ طابَ ريحاً = ففيهِ شُهْدٌ وفيهِ وَرْدُ
لو لم تكنْ للسَّماءِ شمسٌ = لَكُنْتَ تَبْدو من حيثُ تَبْدو
ما إنْ أَظُنُّ الهلالَ إلاّ = من نورِ خَدَّيْكَ يَسْتَمِدُّ
ناجيتُ فيكَ الصفاتِ حتى = ناجيتني ما لذاكَ ندُّ
وهو لا يترك هذه الصورة في قصيدة حتى يعود إليها في أخرى:
أياً قمراً تبسّم عن أقاح = ويا غصنا يميل مع الرياح
جبينك والمقلاّ والثنايا = صباح في صباح في صباح
لا نجد في شعر ديك الجن ما يوضح الأحداث التي وقعت بين مغادرته السلمية وقتله وردا إلا إشارة إلى أن شيئا حدث ليؤكد ظنونه وشكّه فعمد إلى قتلهما،
وفي قصيدة له نجد أن ندمه يدفع به إلى الندم على زواجه من ورد، ونلحظ بداية تبدل عواطفه إذ ينتقل من غضب الشتيمة والانتقام إلى دموع الحسرة والأسف:
ليتني لم أكن لعطفك نلتُ = وإلى ذَلك الوِصالِ وَصَلْتُ
فالَّذِي مِنِّيَ اشْتَمَلْتِ عَليه = ألعارٍ ما قد عليهِ اشتملتُ
قال ذو الجهْلِ قد حَلُمْتَ ولا = أَعْلَمُ أَنِّي حَلُمتُ حَتَّى جَهِلْتُ
لائمٌ لي بِجَهْلِهِ ولماذا = أَنا وَحْدِي أَحْبَبْتُ ثُمَّ قَتَلْتُ
سَوْفَ آسى طولَ الحَياة ِ وَأَبْكِيـكِ = على ما فَعَلْتِ لا ما فَعَلْتُ..
وفي اعتقادنا أن حكاية ديك الجن مع ورد حكاية عاطفية حزينة وجميلة فيها بلا شك قدر كبير من الواقع، ولكنها قابلة للتفسير والتأويل والبحث والشك إلى ما لا نهاية. لهذه الجهة بالذات تشبه قصة مجنون ليلى وإن اختلفت عنها في جوانب كثيرة، ذلك أن الشكوك تحيط بالقصتين من الوقائع والتفاصيل، ومن حيث الحدوث أيضاً إذ يشك أكثر الرواة في كون «المجنون» وُجد فعلاً. ولكن القصتين ما تزالان إلى اليوم تلهمان الباحثين كما تلهمان الفنانين والشعراء، وإذا كان شعر ديك الجن شعراً ضعيفاً برأينا، ولولا حكايته مع ورد لكان مستوجب الإهمال، فإن «الحكاية الوردية» بالذات تمنح هذا الشعر جواز مرور إلى القارئ وإلى الباحث معاً لاستخلاص ملاحظات تتصل بالبيئة والمجتمع اللذين عاش فيهما هذا الشاعر الخليع المستهتر. وهذا بحدّ ذاته كافٍ لجعل حكايته تقرأ على الدوام رغم الغرابة التي تلفّها ورغم أسطوريتها في آن، وهذا ما يشير إليه بالتفصيل كتاب الباحث الدكتور سليم مجاعص.