كان على الخطاط في الزمن السابق قيادة جسمه نحو الثبات و اللاحركة بهدف تكثيف الطاقة، وذلك عبر التأمل والبطء في التمرين بالخط. يوجه الخطاط كل اهتمامه وفي تركيز ذهني نحو منقار القلم ـ أي القصبة المبريةـ فيبدوا جسم الخطاط وكأنه تمثال جامد بقلب ينبض.
وكان هذا التكثـيـف للطاقة الداخلية يصب في الحروف التي يخطها ، ويعطي الخط مظهرا ثريا. فـتبعث الحروف ومادة الحبر السوداء ذبذبات جمالية لعين المشاهد. إضافة لجمالية التكوين الهندسي، والحكمة الآتية من العبارة.
إن قلة حضور هذا النوع من الخط بالمدينة العربية في عصرنا الحالي يعود إلى التحولات الكبرى في الاقتصاد والثقافة وفي وسائل الطباعة والنقل والاتصالات. الطباعة الإلكترونية السريعة قللت من الحاجة للخط اليدوي. كما أن الطيارات والسيارات والتلفون والتلفزيون. لا تسمح بهدوء يشابه هدوء الزمن الماضي. وبالتالي أصبح من الصعب التركيز الذهني العميق كأيام زمان. ويجب أن لا ننسى أيضا الإهمال الحالي لهذه التجربة الفــنية، وعدم التقيـيم الحقيقي لأهميتها من قبل أكثر المسؤولين عن الثقـافة.
تغـير نمط الحياة في الزمن الحالي يتطلـّب من الخطاط التلاؤم مع هذه التيارات المعاصرة التي تهب على مدننا. فقد كان يحسـب في القرن التاسع عشر عدد الخطاطين بالآلاف بـينما الـيوم يحسبون بالعشـرات. من الذي قلـل عدد الخطاطين: هل هو التطور الحضاري؟ أم عدم مواصلة الخطاط مرافقة التطور؟
وبتعبير آخر، هل السبب يعود إلى ابتكار وسائل حديثة للكتابة أو قلة التجديد من قبل الخطاط؟
فعلى الخطاط تطبيق ما يقوله المثل: ـ عليك أن تتعلم الإبحار بدلا من أن تكافح ضد التيارـ أو سماع قيس بن الملوح الذي كان يصيح: ـ ألا لا أحب السير إلا ّ مُصعداـ فلابد من عمل خطوط تلائم عصرنا، وعدم الاكتـفاء بتكرار خطوط تنـتمي إلى أجواء القرن التاسع عشر.
لم يكن بإمكان القيمة الجمالية العلـيا للابتكار في خطوط الماضي، بالرغم من عظمتها تخيل ومعرفة ظروفنا الحالية. ومدى تطور وعي الإنسان المعاصر، هذا الوعي الذي ازداد مع مرور الزمن.
إن تقليد أجواء وجماليات القرن التاسع عشـر من قبل خطاطي عصرنا الحالي، ومهما كانت هذه الجماليات راقـية، فأنه يعني المراوحة بنفـس المكان وعدم التـقدم. ومهما كانت الخطوط الجديدة في زمننا الحالي خجولة وغير أكـيدة فأنها تحمل في نيتها بذرة الرغبة في التخطي لخطوط الماضي، وتدريجيا ً سـوف يأتي منها الجديد الملائم لعصرنا المعاش. الجديد الذي يتوافـق مع حاضرنا. بـينما الخطوط التي تمثل أجواء قديمة تكون في حالة انفصام مع الحياة.
الخطاط القديم في الزمن الماضي يخط ببطء ويفكر بسرعة. وكان الأستاذ يطلب من تلميذه أن يخمن سرعة الحركة ليده وحسب قدرته. أي بمدى أتساع تجربته وحسب التمرين الذي عمله كي تكون رؤية الخط المطلوب واضحة في ذهنه... كقول الخطاط المعلم ابن الزهري:
... قلة العجلة، وإظهار القدرة في عرض الاسترسال، وإرسال اليد في طي الاقتدار …
المراد هنا بكلمة الاقتدارهوعدم التضحية عند الخط بالقيم الجمالية. والعمل بحسب تعاليم الخط التي تركها الأقدمون لنا، والمتعارف عليها في زمن خطها، فنـسـتــنـتج من قول ابن الزهري انه يمكننا الإسراع في إمكانية إعطاء الخط تعبيراً واسعاً مع المحافظة على جوهر القيم الجمالية.
بينما يسخر الهمداني في القرن الحادي عشر من خطاط أهمل هذه القيم الجمالية:
خط مجنون، لا يدري ألف أم نون، سطور فيها شطور، دبيب السرطان على الحيطان، وألفاظ أخلاط، لا يدركها استنباط، ولا يقيمها ابقراط، هذيان المحموم وسوداء المهموم
ولكن الحيرة أمام الصفحة البيضاء هي مشكلة كل الفـنانين وليست مشكلة الخطاط فقط. كيف الوصول إلى الإبداع؟ كيف يمكن التجديد واحترام التراث في آن واحد؟ إذ يبدو انه لابد من المرور بمعـضلة مرحلة الهدم من أجل البناء. إلى جانب التسـاؤلات الفلسـفية التي يطرحها الفـنان باستمرار: من نحن؟ من أين أتـينا؟ وإلى أين سنذهب؟
يلخص هذه المشاعر الشاعر ذي الرمة في القرن الثامن الميلادي:
وما يرجع الوجد الزمان الذي مضى
ولا للفتى من منـّة الدار مجزع ُ
عـشية مالي حيلة ٌغـير أنني
بلقط الحصى والخط ّ في الترب مولع ُ
أخط وأمحو الخط ّ ثم أعيده
بكفي، والغربان في الدار وقــّعُ
والكلمات الأربع الأخيرة عن ـ الغربان ـ استوقـفـتـني كثيرا بالتعـبـير التراجـيدي الذي تحمله، وبعلاقـتها الممكنة بموضوع الزمن والخط. استوقـفـتـني بالصورة المخـتزلة لما أحسه والتي أخذت تضيف هموما إضافية لي.
والغربان في الدار وقــّعُ
وهكذا ربما أبتعدُ قليلا عن الموضوع، أو قد لا أبتعد، فالانـتماء الاجتماعي وضرورة اسـتلهام احاسـيـس المجموعة البشـرية التي انحدرنا منها هو مادة الفنون التي نعملها. وأن كل هذه الافكار والمشاعر لابد وأن تجد طريقها في التعبـير الفني. فالفـن كان دائما صدى لما تعيـشـه المجموعة البشـرية.
وهنا بدل التفكير والتأمل في تقنيات الخط، أراني قد ذهبت في تأملاتي إلى التفكير بهذه ـ الغربان ـ وعن سـبب تحول الإنسان إلى ذئب أمام أخيه الإنسان.
تذكرت عبارة للفنان النحات جياكوميتي يقول فيها: ـ في بيت يحترق سأنقذ قطة قبل أن أنقذ لوحة للفنان رمبرانت مهما كانت ثمينة. أنه يفضل الحياة على الفن.
الشاعر مير دارد يقول :
في حديقة العالم
نحن الوردة ونحن الشوكة
الصديق هو نحن
العدو هو أيضا ً نحن ...
هل أن الذاكرة البشرية تصعد وتنزل كما يقول أسامة ابن منقذ في القرن الثاني عشر :
والمرء ينكس في الحياة
وبينما بلغ الكمال وتم ّ
عاد كما بدا
هل هناك ثقافتين، ثقافة موسوعية عقلانية سطحية لا قوة ولا جذورعميقة لها؟ وهناك ثقافة وجدانية إنسانية تملك الضمير؟ يتأرجح الانسان فيما بينهما؟
وأنتهي من تأملاتي بالقول: انه لابد من الاتجاه عبرالفن لتوعية الضمائر، ولا يوجد طريق آخر. الاتجاه نحو ثقافة إنسانية، تحترم كرامة الإنسان.
يقول نلسن مندلاعن أهمية تنمية الوعي الإنساني: الفرد الواعي، يكون أكثر خطرا على الأنظمة المتعـسفة من عشرة آلاف شخص بلا وعي ويعـيشون الخوف.
والكاتب الفرنسي فولتير يقول: طالما يعـتـقد الناس بالتـُرهات فلن ينفكوا عن ارتكاب الفضائع.
إذن يجب علينا أن لا ننسى عبارة فولتير. ولابد من ثـقافة إنسـانية عمـيقة تحترم الفرد وحقوقه. من أجل الوصول إلى السـلم الاجتماعي.
رغم أن تأثـير الثـقافة قد يكون في أوله بطيئا في التـفاعل مع البشـر. ويبدو في أول وهلة مفـتـقرا إلى الجدية. ولكنه الطريق الوحيد نحو ارتفاع البشـر.
وبالنسبة للفـنان فلابد أن يأتي بعمل فني جديد يتفاعل مع الناس، إذ أن أعماله الفـنية هي نفـسها موقـفه وهي نضاله نحو التـقارب والتـفاهم البشـري.
كما يلخص الشـاعر أبو الفـتح البسـتي:
تكلم وسـدد ما استـطعـت
فأن كلامك حي
والسكوت جماد
*
أعود للاستمرارعلى الكلام عن علاقة الزمن بالخط. منذ القدم كم من مثـقف قارن بين حياة البدو الرحـّل وحياة سكان المدن. ومع كل الصفاء الذي توحي به الصحراء، فأننا نعيـش في المدن ومتطلباتها. وأن الصناعات الحديثة تفرض اختزال الزمن والاتجاه نحوالسرعة. ومن يعيـش في المدينة لن يعد يسـتطيع تحمل بطء الصحراء.
كانت خطوط الماضي وزخارفها توحي بأن الفـنان أمضى زمنا طويلا لإنجازها. إذ كان من الممكن للخطاط أن يأخذ الزمن الذي يريده ليمنحه للخط. أما في عصرنا الحالي فلم يعد سهلا التركيز على الخط ضـمن وقت طويل، ولن يسـمح الوضع الاقتصادي للخطاط ومعيـشـته في المدينة باسـتغلال الوقت كالسـابق، مما أدى الوضع الحالي إلى تضائل عدد الخطاطين. لذا لابد من طرق جديدة يفـترض أن يبدعها الخطاطين أنفسـهم لمسـايرة العصر.
هنالك حتما اتجاهات عديدة لتطوير الخط، ودائما يأتي الإبداع من أماكن غير منتـظرة. الخلق الفني في الخط يمكن أن يكون بعدد الخطاطين أنفـسهم، والطريق ليس مرسوما مسبقا. بل كما تقول الحكمة: الطريق تحت اقدامكم.
عملية الخلق الفني هي حياة كل فنان. تبدأ من رغـبته في الإبداع. وهو يعرف جـيدا انه سـيواجه صعوبات غير محتملة، وعـقبات متكررة. ولكن نجاح تجربته سـيكون بمدى وعيه وتيـقـظه في مواجهة الخدر الذي يفرضه المجتمع.
الاتجاه الذي أمارسه أنا شخصيا في هذه المرحلة من عملي في الخط الحديث، يخصص للتمرين وقت أكبر مما مضى والتحضير الداخلي يكون طويلا، تحضير بهدف حفظ أشـكال الخط عن ظهر قلب، ومن ثم خطها بسرعة قصوى.
سرعة تتجاوب مع النشـاط الإنساني المعاصر
السرعة هنا ليسـت من أجل السـرعة فقـط، بل لكي يوحي الخط الذي اعمله بأنه من ولادة القرن الواحد والعشرين، وبهذا يبدو جديدا، كي يكون شـيئاً آخر يختلف عن كل ما عرفناه. وكذلك وبســبب السرعة سوف يضع الخطاط في الحروف شــيئا ما آتيا من حدســه وذكاء جســمه، ومن تماحكه مع مجتمعه. فيصب أحاســيسه داخل الحركات والحروف. وأكرر ماقلته أعلاه، أن هـنالك اتجاهات وطرق عديدة ممكنة الابتكار للمســتــقبل.
الخطاط يملك ذاكرة ثرية تعود إلى كل ما شـاهده من الخطوط القديمة. وأنه سوف يأتي وبعـفوية بخط يعكس هذا العصر، عندما يشارك حدسـه وإحسـاسه في عملية الخط. فيكون آنذاك واقفا على تركة الماضي، وهذه التركة تكون كقاعدة متينة و بنفس الوقت يتجاوز إبداع الماضي، ويتجه نظره بعيداً كل البعد نحو آفاق جديدة.
*
يقول الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت أكزبري، أنه كان يقود طائرته في الثلاثينات من القرن العشرين. فأضطره خلل ميكانيكي إلى الهبوط في الصحراء الموريتـانية. وبـينما كان يفحص ماكنـته، وإذا ببـدوي على ظهر بعير يقـترب منه متسائلا: ما هذا؟ إذ لم يرى في حياته سابقا طيارة. فيجـيبه الكاتب محاولا تبســيط معنىالطيارة: إن كنت تقـطع الطريق من هنا إلى ـ تمبكتوـ على البعير بخمسـين يوماً، فأنا أقطعه بهذه الطائرة خلال خمسة ساعات. فيسأله البدوي: وماذا ستصنع أذن بالزمن الباقي؟
وهنا يكمن جوهر المشكلة. ماذا سنعمل بالوقت الزائد. أن نعمل الخط بسرعة لكي نعكس جوهر العصر، فماذا سنعمل بالزمن المتبقي؟ الزمن المتبقي. سوف نمضيه بالتأمل لتغـذية الخطوط المقبلة بثراء جمالي.
الشيء المهم هو أن ندرك أن الخط بسرعة لا يعني قط السـهولة، وكذلك أن التبسـيط لأشكال الحروف في الخط ليس شــيئا يسيرا.
المهم أن نعمل أولاعلى أن يكون الولـيد الفني الجديد على أحسن ما يرام. وأن نمضي بقية الوقت في البحث والتدريب والتأمل، لأن السرعة يمكن أن تقـودنا لمعرفة أخرى للإنسان وللحياة عبر العمل الفني. السرعة تقــترب مما هو حسي وعـفوي وتحاول الابتعاد قدر الإمكان عما هو ذهني وعـقلاني. فالعـقلاني هو الأمـس والإحساس والتأمل هو الغد.
وعندما أقول التدريب على الخط، لا أعني التدريب التقني فقط. اقصد أيضا ًتدريب الروح. في تأمل الرياح والغيوم والجبال. الأشجار والأزهار والأثمار.
هل يمكننا أدراك المنتجات المعاصرة وتحســسها والتـفاعل معها، كالسـيارات والطائرات. والصور المسـرعة في التلـفزيون. أن نبـقى نعيـش بنفـس البطء القديم للخط وفلسفـته العتــيقة؟
كل الشعوب قد مرت سابقا بالمراحل البطيئة. ألم يمضي الفنان الايطالي ليوناردو دافنشي ثمان سنوات لإنجاز لوحة الجيوكندا؟ وميكائيل انجيلو ثلاث سنوات ليكمل نحت تمثال دافيد؟
ولكن الفنان الأوربي المعاصر يختزل الزمن اليوم و يوحي إنتاجه الفـني بالسـرعة متأثـرا ً بالمنتجات الصناعية والتطور الفكري. يريد أن يسيطر على سرعة الحياة المحيطة به. يواكبها أو على الأقـل لا يتخلف عنها. السرعة التي يعملها تـتطلب وقتا طويلا للتحضير.
اليابان والصين ومدى أهمية الحضارة القديمة الثرية التي يملكانها في الفن، لم يمنعهما ذلك من احترام التراث والتشـجيع على تطويره للتأثـير على الحياة الفـنية والصناعية المعاصرة والتفاعل معها. وإذا كان اليابانـيون يعتبرون الفنانين والمهنيين الذين يواصلون فنون ومهن الماضي ككنوز حية. فأنهم بنفـس الوقت يوجهون اهتماما وتشـجيعا مماثلا للـفنون والمهن الحديثة. وهذا ما فـشل في تحقيقه المجتمع العربي. فلدينا من يعبد الماضي ويدير ظهره للحضارة المعاصرة. ولدينا من يعبد العالم الصناعي الحديث ويهمل التركة الغـنية للـتراث الـفني والأدبي. هناك من يريد البقاء في الظلام بحجة تمسكه بالجذور. وهناك من يريد قطع الجذور فيكون كالغيـمة التي تهيم في الفضاء وفي مهب الريح.
هل أن بطء التطور في مجتمعاتـنا هو ســبب تخلف الفن عندنا؟ أم أن هذا الفن في مسـيرته البطيئة يساهم في تخلف مجتمعاتــنا عن الابتكار؟
في القرون الماضية كان الابـتكار مسـتمرا وبكل مجالات الفـن والأدب والمهن المتعددة. كنا نعمل كل ما نحتاجه للمعيــشة اليومية. ولكن اليوم نســتورد اكثر ما نســتعمله.
عدم الإنتاج في عصرنا أو قـلته ، يفـقر المخيلة الإبداعية داخل المجتمع. فالفن ليـس جسـم غريب يمكن استيراده. انه صدى لجوهر التـفاعلات البشـرية داخل المجتمع. وان تمتلئ المتاحف بإنتاج الـفنانين والمهنيـين للزمن الماضي، فماذا سيضع أطـفالنا في المتاحف من الأعمال الفـنية للتعبـير عن عصرنا الحالي؟
مواكبة التطورعند الخطاط العربي كانت مسـتمرة في السابق. فلو نلقي نظرة خاطفة على تاريخ الخط العربي. ولنأخذ أمثـلة قلـيلة لنجد انه في البداية كان عندنا الخط الكوفي على الرق. وكان في نهاية القرن الـسابع الميلادي خطا بدائيا. وعندما دعا المعماري الخطاط للمسـاهمة معه لتزيـين جدران قبة الصخرة في القدس، قبل أربعة عـشر قرناً، أعاد الخطاط رسم حروفه كي تـُـعمل بالفسـيفساء ـ الموزاييك ـ وإن كانت عـشرات الأمتار من هذه الخطوط في داخل قبة الصخرة إنجازا رائعا في ذلك الزمن، فأنها أصبحت اليوم في موضع النسـيان بل أن اكثر كتب الخط تهملها ولا تـتكلم عنها.
أن أهمية ذلك اللقاء بين الخطاط والمعماري كان مهما جدا على الصعيد الجمالي. فقد أخذت الحروف البناء الهندسي بتأثـير اقـترابها من المعمار والزخارف. وازدادت جمالا من التناســب بين الطول والعرض. وتلاءمت مع الزخرفة المحيطة بها، وأخيرا أعطت المادة الملونة للحجر مظهرا للخط لم يعرف من قبل.
وبسبب ندرة الأحجار الملونة لعمل الفسـيفسـاء. تحول ديكور المعالم المعمارية فيما بعد إلى السيراميك. أي رسم الحروف والزخارف بالألوان على الطابوق ومن ثم وضع مادة زجاجية عليها. وإدخالها في الفرن كي تخرج الخطوط ملونة ومزججة. فيضعها عمال البناء على الجدران الداخلية والخارجية للمعالم المراد تزيينها.
سمح السـيراميك بمرونة أكثر من الفسيــفساء. ومكـّن من استـعمال خطوط تكثر فيها التدويرات كأسلوب الثلث. كما ابتكر الخطاط للسـيراميك أساليب جديدة كالكوفي الهندسي والذي ما هو إلا الكتابة بالطابوق. فيكون سمك الحرف نفس سمك الطابوق وهو نفسه سمك الفراغ المحيط بالحرف. إن هذه الطريقة في الكتابة كانت تجديدا جريئا .
وهكذا لعبت هذه الخطوط لمدة طويلة من الزمن دورا ثقافيا ديناميكيا داخل مجتمعاتنا. وشكلت الإبداع والخلق الفني المـستـمرين. إبداع الخطاط يزيد من إبداع المهني. ومهارة المهني تسـمح للخطاط الذهاب إلى أبعد ما يمكن في مغامرته الإبداعية. كان المسـؤولون عن الثـقافة يشجعون الخطاط ويثمنون إبداعاته. لذا يتأثر الخطاط بالتـشــجيع المتواصل، فيذهب إلى ابعد ما يمكن في إبداعه.
فن الخط لم يكن حاضرا على الجدران فقط، بل أنه امتزج في مجالات أخرى غير المعالم المعمارية، كالحاجيات اليومية من الفضة والنحاس والزجاج والخشب التي يصنعها المهنيون والتي كانت تـُـزين باستمرار بالخطوط.
ومن الطبيعي أن أجمل الخطوط هي ما عُملت على الورق للكتب واللوحات والرقاع المتعددة الأشكال. كنوز من الإبداع المتواصل عبر القرون.
كل هذه الخطوط أصبحت اليوم في المتاحف. تخطاها الزمن وتبقى كجزء من التراث. نتعامل معها كالماضي الذي يمنحنا الضوء تجاه المســتقبل.
*
قال عبيد الله العنبري في القرن العاشر: ما رأيت خطا ً حسنا ً إلا وامتلأت عيني قرورا ولكن يا عبـيد الله كيف يمكننا الحكم على الخط الحسن وبأي خطوط يمكننا المقارنة؟
وهل أن الخط الحسن في زمانـك أي قبل ألف سنة هو نفسه الخط الحسن اليوم؟ وهل أن عدم وجود خطوط كثيرة في زماننا الحالي هو السبب في عدم امتلاء عـيوننا قرورا؟
نظرتنا للجمال تخـتلف من زمن لآخر ومن شخص لآخر. الجمال نسبي كما الزمن هو نسبي أيضا.
في القرن الثالث عشر واجه الخطاط ياقوت المستعصمي في بغداد مشكلة الحكم على الجودة في الخط. وأخيرا وطد الأسـس المتينة للخط العربي وأعلن ضرورة إتقان 6 أساليب اجبارية للخطاط المهني. وضع هو أشكالها وقواعدها معتمدا ًعلى كل الإنتاج للخطوط فيما قبله.
بغداد الجريحة بعد الحصار عام 1258 وتحطيم المغول لها واحتلالها. لم ترسل لنا خبرا سعيدا بعد ذلك إلا إبداعات الخطاط ياقـوت المستعصمي. الحياة جاءتـنا عن طريق الفن، وهكذا أن الفن ينتصر على الزمن.
القواعد التي وضعها المستعصمي استمرت حتى القرن السادس عشر، إذ أحدث الشيخ حمد الله الاماسي نهضة مشـابهة. كان الشـيخ حمد الله خطاط في مدينة أماسـيا بتركيا.
وأحد تلاميذه هو الأمير بايزيد، الذي أصبح فيما بعد سلطان الدولة العثمانية. كان بايزيد يرى في الاماسي خطاطاً عملاقاً. وكان يمسـك المحبرة بجانبه أثناء الخط. فطلب بايزيد من أسـتاذه الشـيخ حمد الله المجيء إلى اسطنبول وتوجه إليه بالسؤال التالي: هل يمكن تحسـين الأساليب السـتة لياقوت المستعصمي؟
اعتصم الشـيخ حمد الله 40 يوما ً في داره مع كل ما تملك خزينة الإمبراطورية العثمانية من خطوط لياقوت المستعصمي. فأصلح الأساليب الستة وأعطاها توازناً جديداً وديناميكية معاصرة، وحرية في الخط.
أعطى الاماسي للخط شيئاً آخر يذهب أبعد من موضوع الوضوح والتناسق، فقد أعطاه روح داخلية.
لم نرى قبل الاماسي خطا بهذه العذوبة. إذ أخذت الحروف توحي وكأنها خُطتْ بعفوية وبساطة. وبنفـس الوقت تبدو أنها آتية من الداخل نحو الخارج. فتــقود الحركات الخطية عيوننا إلى داخل مادة الحبر. أناقة عالية رغم التعـقيد الواسع فيها.
لقد حرر الاماسي الخط من الثــقل وجعله يرقص في الفضاء. المدات وتطويل بعض الحروف في خط النسخ أعطته حيوية وحلاوة، ولم يعد الخط بعد الاماسي كتابة للقراءة فقـط. إنما فن يملأ العيون قرورا كما يقول عبيد الله العنبري.
صحيح أن هنالك خطوط جيدة عملت قبل الشــيخ حمد الله الاماسي. لكن الاماسي وضع الرهافة إلى جانب القاعدة العقـلانية الكلاسيكية، والتي لازال خطاطي اليوم ينهلون منها، عبر أجيال عديدة من الخطاطين.
وضع الاماسي قواعد لقياسات الحروف وطرق بَري منقار القصبة. استمرت هذه الإصلاحات تغـذي فن الخط والخطاطين لمدة ثلاثة قرون من الزمن. ليضاف إليها فيما بعد ما هـو جديد من قبل مجموعة أخرى من خطاطي القرن التاسع عـشر. كالخطاط عبد الله الزهدي أعظم الخطاطين في عصره، خطوطه تتـميز في الإجادة بالرونق والبهاء. والخطاط الحافظ عثمان الذي أعطى خط النسخ مرونة وقوة، والخطاط مصطفى راقم الذي عمل تكوينات لم تكن تـُعرف مسبقا وتـتميز بالعظمة والأناقة. تكوينات تناسـقت بطرق هندسية تسـتلهم المعمار وتـتأثر به. أشكال جديدة مبتكرة. أعطاها قوة التنظيم والرهافة في آن واحد .
وهكذا كما يقول المثل الشعبي الزمن يبني قلعة ويهدمها فما هو رائع في الزمن الماضي قد لا يكون كذلك اليوم. العمل الفني هو في حوار مستمر مع الإنسان واحساساته، وأن الإنسان يتـغـير ويتطور ويزداد وعيا بمرورالزمن.
الحكم الجمالي يعود إلى ذاكرة الفرد، فمنذ الطفولة نختزن كل ما رأيناه وما سمعناه. وبالتالي تـتكون شخصيتـنا عاطفيا وفكريا وجماليا، وينمو الذوق أيضا من خلال هذه الذاكرة.
وعند ذاك يمكن أن نحكم على الخط الحسن.
فالخط الحسن هو ما يتفاعل مع أحاسيسنا العميقة. وأعيد ما يقوله عبيد الله العنبري: إن الخط الحسن هو ما يملأ عيوننا قرورا. هنالك خط حسن حسب الأساليب القديمة، وخط حسن حسب ابتكار الخطاطين المعاصرين. إذ يمكننا أن نجد صفاءً جديداً في خط اليوم كصفاء الماضي ولكن في خط حديث.
مقياس الجمال يعود للإنسان ومدى اتساع احساساته وتفكيره. وقديما ترك لنا أحد الشعراء بيتا شعريا صغيرا، يوضح مشـكلة كبرى، ألا وهي العلاقة الضرورية بين الإحساس والعـقل:
إذا صح حــس المرء صح قـياسه
وليس يصح العـقل من فاقــد الحس
ومن لا يريد تحســس الزمن الحالي، ويريد البقاء باستمرار في موقع معاكس للتيار، ولا يريد تعلم الإبحار كما يقول المثل. فأنه لم يسـمع المثل الآخر الذي يقول: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
وفي النهاية أليس من الأفضل أن نقطع السـيوف لنكسب الوقت والفن والسلم الاجتماعي لصالحنا .
حسن المسعود
يوم 14 تموز 2007
المصدر:
arabic calligraphy, Hassan Massoudy زمن الخط العربي داخل فضاء المدينة ـ بقلم الخطاط حسن المسعود
وكان هذا التكثـيـف للطاقة الداخلية يصب في الحروف التي يخطها ، ويعطي الخط مظهرا ثريا. فـتبعث الحروف ومادة الحبر السوداء ذبذبات جمالية لعين المشاهد. إضافة لجمالية التكوين الهندسي، والحكمة الآتية من العبارة.
إن قلة حضور هذا النوع من الخط بالمدينة العربية في عصرنا الحالي يعود إلى التحولات الكبرى في الاقتصاد والثقافة وفي وسائل الطباعة والنقل والاتصالات. الطباعة الإلكترونية السريعة قللت من الحاجة للخط اليدوي. كما أن الطيارات والسيارات والتلفون والتلفزيون. لا تسمح بهدوء يشابه هدوء الزمن الماضي. وبالتالي أصبح من الصعب التركيز الذهني العميق كأيام زمان. ويجب أن لا ننسى أيضا الإهمال الحالي لهذه التجربة الفــنية، وعدم التقيـيم الحقيقي لأهميتها من قبل أكثر المسؤولين عن الثقـافة.
تغـير نمط الحياة في الزمن الحالي يتطلـّب من الخطاط التلاؤم مع هذه التيارات المعاصرة التي تهب على مدننا. فقد كان يحسـب في القرن التاسع عشر عدد الخطاطين بالآلاف بـينما الـيوم يحسبون بالعشـرات. من الذي قلـل عدد الخطاطين: هل هو التطور الحضاري؟ أم عدم مواصلة الخطاط مرافقة التطور؟
وبتعبير آخر، هل السبب يعود إلى ابتكار وسائل حديثة للكتابة أو قلة التجديد من قبل الخطاط؟
فعلى الخطاط تطبيق ما يقوله المثل: ـ عليك أن تتعلم الإبحار بدلا من أن تكافح ضد التيارـ أو سماع قيس بن الملوح الذي كان يصيح: ـ ألا لا أحب السير إلا ّ مُصعداـ فلابد من عمل خطوط تلائم عصرنا، وعدم الاكتـفاء بتكرار خطوط تنـتمي إلى أجواء القرن التاسع عشر.
لم يكن بإمكان القيمة الجمالية العلـيا للابتكار في خطوط الماضي، بالرغم من عظمتها تخيل ومعرفة ظروفنا الحالية. ومدى تطور وعي الإنسان المعاصر، هذا الوعي الذي ازداد مع مرور الزمن.
إن تقليد أجواء وجماليات القرن التاسع عشـر من قبل خطاطي عصرنا الحالي، ومهما كانت هذه الجماليات راقـية، فأنه يعني المراوحة بنفـس المكان وعدم التـقدم. ومهما كانت الخطوط الجديدة في زمننا الحالي خجولة وغير أكـيدة فأنها تحمل في نيتها بذرة الرغبة في التخطي لخطوط الماضي، وتدريجيا ً سـوف يأتي منها الجديد الملائم لعصرنا المعاش. الجديد الذي يتوافـق مع حاضرنا. بـينما الخطوط التي تمثل أجواء قديمة تكون في حالة انفصام مع الحياة.
الخطاط القديم في الزمن الماضي يخط ببطء ويفكر بسرعة. وكان الأستاذ يطلب من تلميذه أن يخمن سرعة الحركة ليده وحسب قدرته. أي بمدى أتساع تجربته وحسب التمرين الذي عمله كي تكون رؤية الخط المطلوب واضحة في ذهنه... كقول الخطاط المعلم ابن الزهري:
... قلة العجلة، وإظهار القدرة في عرض الاسترسال، وإرسال اليد في طي الاقتدار …
المراد هنا بكلمة الاقتدارهوعدم التضحية عند الخط بالقيم الجمالية. والعمل بحسب تعاليم الخط التي تركها الأقدمون لنا، والمتعارف عليها في زمن خطها، فنـسـتــنـتج من قول ابن الزهري انه يمكننا الإسراع في إمكانية إعطاء الخط تعبيراً واسعاً مع المحافظة على جوهر القيم الجمالية.
بينما يسخر الهمداني في القرن الحادي عشر من خطاط أهمل هذه القيم الجمالية:
خط مجنون، لا يدري ألف أم نون، سطور فيها شطور، دبيب السرطان على الحيطان، وألفاظ أخلاط، لا يدركها استنباط، ولا يقيمها ابقراط، هذيان المحموم وسوداء المهموم
ولكن الحيرة أمام الصفحة البيضاء هي مشكلة كل الفـنانين وليست مشكلة الخطاط فقط. كيف الوصول إلى الإبداع؟ كيف يمكن التجديد واحترام التراث في آن واحد؟ إذ يبدو انه لابد من المرور بمعـضلة مرحلة الهدم من أجل البناء. إلى جانب التسـاؤلات الفلسـفية التي يطرحها الفـنان باستمرار: من نحن؟ من أين أتـينا؟ وإلى أين سنذهب؟
يلخص هذه المشاعر الشاعر ذي الرمة في القرن الثامن الميلادي:
وما يرجع الوجد الزمان الذي مضى
ولا للفتى من منـّة الدار مجزع ُ
عـشية مالي حيلة ٌغـير أنني
بلقط الحصى والخط ّ في الترب مولع ُ
أخط وأمحو الخط ّ ثم أعيده
بكفي، والغربان في الدار وقــّعُ
والكلمات الأربع الأخيرة عن ـ الغربان ـ استوقـفـتـني كثيرا بالتعـبـير التراجـيدي الذي تحمله، وبعلاقـتها الممكنة بموضوع الزمن والخط. استوقـفـتـني بالصورة المخـتزلة لما أحسه والتي أخذت تضيف هموما إضافية لي.
والغربان في الدار وقــّعُ
وهكذا ربما أبتعدُ قليلا عن الموضوع، أو قد لا أبتعد، فالانـتماء الاجتماعي وضرورة اسـتلهام احاسـيـس المجموعة البشـرية التي انحدرنا منها هو مادة الفنون التي نعملها. وأن كل هذه الافكار والمشاعر لابد وأن تجد طريقها في التعبـير الفني. فالفـن كان دائما صدى لما تعيـشـه المجموعة البشـرية.
وهنا بدل التفكير والتأمل في تقنيات الخط، أراني قد ذهبت في تأملاتي إلى التفكير بهذه ـ الغربان ـ وعن سـبب تحول الإنسان إلى ذئب أمام أخيه الإنسان.
تذكرت عبارة للفنان النحات جياكوميتي يقول فيها: ـ في بيت يحترق سأنقذ قطة قبل أن أنقذ لوحة للفنان رمبرانت مهما كانت ثمينة. أنه يفضل الحياة على الفن.
الشاعر مير دارد يقول :
في حديقة العالم
نحن الوردة ونحن الشوكة
الصديق هو نحن
العدو هو أيضا ً نحن ...
هل أن الذاكرة البشرية تصعد وتنزل كما يقول أسامة ابن منقذ في القرن الثاني عشر :
والمرء ينكس في الحياة
وبينما بلغ الكمال وتم ّ
عاد كما بدا
هل هناك ثقافتين، ثقافة موسوعية عقلانية سطحية لا قوة ولا جذورعميقة لها؟ وهناك ثقافة وجدانية إنسانية تملك الضمير؟ يتأرجح الانسان فيما بينهما؟
وأنتهي من تأملاتي بالقول: انه لابد من الاتجاه عبرالفن لتوعية الضمائر، ولا يوجد طريق آخر. الاتجاه نحو ثقافة إنسانية، تحترم كرامة الإنسان.
يقول نلسن مندلاعن أهمية تنمية الوعي الإنساني: الفرد الواعي، يكون أكثر خطرا على الأنظمة المتعـسفة من عشرة آلاف شخص بلا وعي ويعـيشون الخوف.
والكاتب الفرنسي فولتير يقول: طالما يعـتـقد الناس بالتـُرهات فلن ينفكوا عن ارتكاب الفضائع.
إذن يجب علينا أن لا ننسى عبارة فولتير. ولابد من ثـقافة إنسـانية عمـيقة تحترم الفرد وحقوقه. من أجل الوصول إلى السـلم الاجتماعي.
رغم أن تأثـير الثـقافة قد يكون في أوله بطيئا في التـفاعل مع البشـر. ويبدو في أول وهلة مفـتـقرا إلى الجدية. ولكنه الطريق الوحيد نحو ارتفاع البشـر.
وبالنسبة للفـنان فلابد أن يأتي بعمل فني جديد يتفاعل مع الناس، إذ أن أعماله الفـنية هي نفـسها موقـفه وهي نضاله نحو التـقارب والتـفاهم البشـري.
كما يلخص الشـاعر أبو الفـتح البسـتي:
تكلم وسـدد ما استـطعـت
فأن كلامك حي
والسكوت جماد
*
أعود للاستمرارعلى الكلام عن علاقة الزمن بالخط. منذ القدم كم من مثـقف قارن بين حياة البدو الرحـّل وحياة سكان المدن. ومع كل الصفاء الذي توحي به الصحراء، فأننا نعيـش في المدن ومتطلباتها. وأن الصناعات الحديثة تفرض اختزال الزمن والاتجاه نحوالسرعة. ومن يعيـش في المدينة لن يعد يسـتطيع تحمل بطء الصحراء.
كانت خطوط الماضي وزخارفها توحي بأن الفـنان أمضى زمنا طويلا لإنجازها. إذ كان من الممكن للخطاط أن يأخذ الزمن الذي يريده ليمنحه للخط. أما في عصرنا الحالي فلم يعد سهلا التركيز على الخط ضـمن وقت طويل، ولن يسـمح الوضع الاقتصادي للخطاط ومعيـشـته في المدينة باسـتغلال الوقت كالسـابق، مما أدى الوضع الحالي إلى تضائل عدد الخطاطين. لذا لابد من طرق جديدة يفـترض أن يبدعها الخطاطين أنفسـهم لمسـايرة العصر.
هنالك حتما اتجاهات عديدة لتطوير الخط، ودائما يأتي الإبداع من أماكن غير منتـظرة. الخلق الفني في الخط يمكن أن يكون بعدد الخطاطين أنفـسهم، والطريق ليس مرسوما مسبقا. بل كما تقول الحكمة: الطريق تحت اقدامكم.
عملية الخلق الفني هي حياة كل فنان. تبدأ من رغـبته في الإبداع. وهو يعرف جـيدا انه سـيواجه صعوبات غير محتملة، وعـقبات متكررة. ولكن نجاح تجربته سـيكون بمدى وعيه وتيـقـظه في مواجهة الخدر الذي يفرضه المجتمع.
الاتجاه الذي أمارسه أنا شخصيا في هذه المرحلة من عملي في الخط الحديث، يخصص للتمرين وقت أكبر مما مضى والتحضير الداخلي يكون طويلا، تحضير بهدف حفظ أشـكال الخط عن ظهر قلب، ومن ثم خطها بسرعة قصوى.
سرعة تتجاوب مع النشـاط الإنساني المعاصر
السرعة هنا ليسـت من أجل السـرعة فقـط، بل لكي يوحي الخط الذي اعمله بأنه من ولادة القرن الواحد والعشرين، وبهذا يبدو جديدا، كي يكون شـيئاً آخر يختلف عن كل ما عرفناه. وكذلك وبســبب السرعة سوف يضع الخطاط في الحروف شــيئا ما آتيا من حدســه وذكاء جســمه، ومن تماحكه مع مجتمعه. فيصب أحاســيسه داخل الحركات والحروف. وأكرر ماقلته أعلاه، أن هـنالك اتجاهات وطرق عديدة ممكنة الابتكار للمســتــقبل.
الخطاط يملك ذاكرة ثرية تعود إلى كل ما شـاهده من الخطوط القديمة. وأنه سوف يأتي وبعـفوية بخط يعكس هذا العصر، عندما يشارك حدسـه وإحسـاسه في عملية الخط. فيكون آنذاك واقفا على تركة الماضي، وهذه التركة تكون كقاعدة متينة و بنفس الوقت يتجاوز إبداع الماضي، ويتجه نظره بعيداً كل البعد نحو آفاق جديدة.
*
يقول الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت أكزبري، أنه كان يقود طائرته في الثلاثينات من القرن العشرين. فأضطره خلل ميكانيكي إلى الهبوط في الصحراء الموريتـانية. وبـينما كان يفحص ماكنـته، وإذا ببـدوي على ظهر بعير يقـترب منه متسائلا: ما هذا؟ إذ لم يرى في حياته سابقا طيارة. فيجـيبه الكاتب محاولا تبســيط معنىالطيارة: إن كنت تقـطع الطريق من هنا إلى ـ تمبكتوـ على البعير بخمسـين يوماً، فأنا أقطعه بهذه الطائرة خلال خمسة ساعات. فيسأله البدوي: وماذا ستصنع أذن بالزمن الباقي؟
وهنا يكمن جوهر المشكلة. ماذا سنعمل بالوقت الزائد. أن نعمل الخط بسرعة لكي نعكس جوهر العصر، فماذا سنعمل بالزمن المتبقي؟ الزمن المتبقي. سوف نمضيه بالتأمل لتغـذية الخطوط المقبلة بثراء جمالي.
الشيء المهم هو أن ندرك أن الخط بسرعة لا يعني قط السـهولة، وكذلك أن التبسـيط لأشكال الحروف في الخط ليس شــيئا يسيرا.
المهم أن نعمل أولاعلى أن يكون الولـيد الفني الجديد على أحسن ما يرام. وأن نمضي بقية الوقت في البحث والتدريب والتأمل، لأن السرعة يمكن أن تقـودنا لمعرفة أخرى للإنسان وللحياة عبر العمل الفني. السرعة تقــترب مما هو حسي وعـفوي وتحاول الابتعاد قدر الإمكان عما هو ذهني وعـقلاني. فالعـقلاني هو الأمـس والإحساس والتأمل هو الغد.
وعندما أقول التدريب على الخط، لا أعني التدريب التقني فقط. اقصد أيضا ًتدريب الروح. في تأمل الرياح والغيوم والجبال. الأشجار والأزهار والأثمار.
هل يمكننا أدراك المنتجات المعاصرة وتحســسها والتـفاعل معها، كالسـيارات والطائرات. والصور المسـرعة في التلـفزيون. أن نبـقى نعيـش بنفـس البطء القديم للخط وفلسفـته العتــيقة؟
كل الشعوب قد مرت سابقا بالمراحل البطيئة. ألم يمضي الفنان الايطالي ليوناردو دافنشي ثمان سنوات لإنجاز لوحة الجيوكندا؟ وميكائيل انجيلو ثلاث سنوات ليكمل نحت تمثال دافيد؟
ولكن الفنان الأوربي المعاصر يختزل الزمن اليوم و يوحي إنتاجه الفـني بالسـرعة متأثـرا ً بالمنتجات الصناعية والتطور الفكري. يريد أن يسيطر على سرعة الحياة المحيطة به. يواكبها أو على الأقـل لا يتخلف عنها. السرعة التي يعملها تـتطلب وقتا طويلا للتحضير.
اليابان والصين ومدى أهمية الحضارة القديمة الثرية التي يملكانها في الفن، لم يمنعهما ذلك من احترام التراث والتشـجيع على تطويره للتأثـير على الحياة الفـنية والصناعية المعاصرة والتفاعل معها. وإذا كان اليابانـيون يعتبرون الفنانين والمهنيين الذين يواصلون فنون ومهن الماضي ككنوز حية. فأنهم بنفـس الوقت يوجهون اهتماما وتشـجيعا مماثلا للـفنون والمهن الحديثة. وهذا ما فـشل في تحقيقه المجتمع العربي. فلدينا من يعبد الماضي ويدير ظهره للحضارة المعاصرة. ولدينا من يعبد العالم الصناعي الحديث ويهمل التركة الغـنية للـتراث الـفني والأدبي. هناك من يريد البقاء في الظلام بحجة تمسكه بالجذور. وهناك من يريد قطع الجذور فيكون كالغيـمة التي تهيم في الفضاء وفي مهب الريح.
هل أن بطء التطور في مجتمعاتـنا هو ســبب تخلف الفن عندنا؟ أم أن هذا الفن في مسـيرته البطيئة يساهم في تخلف مجتمعاتــنا عن الابتكار؟
في القرون الماضية كان الابـتكار مسـتمرا وبكل مجالات الفـن والأدب والمهن المتعددة. كنا نعمل كل ما نحتاجه للمعيــشة اليومية. ولكن اليوم نســتورد اكثر ما نســتعمله.
عدم الإنتاج في عصرنا أو قـلته ، يفـقر المخيلة الإبداعية داخل المجتمع. فالفن ليـس جسـم غريب يمكن استيراده. انه صدى لجوهر التـفاعلات البشـرية داخل المجتمع. وان تمتلئ المتاحف بإنتاج الـفنانين والمهنيـين للزمن الماضي، فماذا سيضع أطـفالنا في المتاحف من الأعمال الفـنية للتعبـير عن عصرنا الحالي؟
مواكبة التطورعند الخطاط العربي كانت مسـتمرة في السابق. فلو نلقي نظرة خاطفة على تاريخ الخط العربي. ولنأخذ أمثـلة قلـيلة لنجد انه في البداية كان عندنا الخط الكوفي على الرق. وكان في نهاية القرن الـسابع الميلادي خطا بدائيا. وعندما دعا المعماري الخطاط للمسـاهمة معه لتزيـين جدران قبة الصخرة في القدس، قبل أربعة عـشر قرناً، أعاد الخطاط رسم حروفه كي تـُـعمل بالفسـيفساء ـ الموزاييك ـ وإن كانت عـشرات الأمتار من هذه الخطوط في داخل قبة الصخرة إنجازا رائعا في ذلك الزمن، فأنها أصبحت اليوم في موضع النسـيان بل أن اكثر كتب الخط تهملها ولا تـتكلم عنها.
أن أهمية ذلك اللقاء بين الخطاط والمعماري كان مهما جدا على الصعيد الجمالي. فقد أخذت الحروف البناء الهندسي بتأثـير اقـترابها من المعمار والزخارف. وازدادت جمالا من التناســب بين الطول والعرض. وتلاءمت مع الزخرفة المحيطة بها، وأخيرا أعطت المادة الملونة للحجر مظهرا للخط لم يعرف من قبل.
وبسبب ندرة الأحجار الملونة لعمل الفسـيفسـاء. تحول ديكور المعالم المعمارية فيما بعد إلى السيراميك. أي رسم الحروف والزخارف بالألوان على الطابوق ومن ثم وضع مادة زجاجية عليها. وإدخالها في الفرن كي تخرج الخطوط ملونة ومزججة. فيضعها عمال البناء على الجدران الداخلية والخارجية للمعالم المراد تزيينها.
سمح السـيراميك بمرونة أكثر من الفسيــفساء. ومكـّن من استـعمال خطوط تكثر فيها التدويرات كأسلوب الثلث. كما ابتكر الخطاط للسـيراميك أساليب جديدة كالكوفي الهندسي والذي ما هو إلا الكتابة بالطابوق. فيكون سمك الحرف نفس سمك الطابوق وهو نفسه سمك الفراغ المحيط بالحرف. إن هذه الطريقة في الكتابة كانت تجديدا جريئا .
وهكذا لعبت هذه الخطوط لمدة طويلة من الزمن دورا ثقافيا ديناميكيا داخل مجتمعاتنا. وشكلت الإبداع والخلق الفني المـستـمرين. إبداع الخطاط يزيد من إبداع المهني. ومهارة المهني تسـمح للخطاط الذهاب إلى أبعد ما يمكن في مغامرته الإبداعية. كان المسـؤولون عن الثـقافة يشجعون الخطاط ويثمنون إبداعاته. لذا يتأثر الخطاط بالتـشــجيع المتواصل، فيذهب إلى ابعد ما يمكن في إبداعه.
فن الخط لم يكن حاضرا على الجدران فقط، بل أنه امتزج في مجالات أخرى غير المعالم المعمارية، كالحاجيات اليومية من الفضة والنحاس والزجاج والخشب التي يصنعها المهنيون والتي كانت تـُـزين باستمرار بالخطوط.
ومن الطبيعي أن أجمل الخطوط هي ما عُملت على الورق للكتب واللوحات والرقاع المتعددة الأشكال. كنوز من الإبداع المتواصل عبر القرون.
كل هذه الخطوط أصبحت اليوم في المتاحف. تخطاها الزمن وتبقى كجزء من التراث. نتعامل معها كالماضي الذي يمنحنا الضوء تجاه المســتقبل.
*
قال عبيد الله العنبري في القرن العاشر: ما رأيت خطا ً حسنا ً إلا وامتلأت عيني قرورا ولكن يا عبـيد الله كيف يمكننا الحكم على الخط الحسن وبأي خطوط يمكننا المقارنة؟
وهل أن الخط الحسن في زمانـك أي قبل ألف سنة هو نفسه الخط الحسن اليوم؟ وهل أن عدم وجود خطوط كثيرة في زماننا الحالي هو السبب في عدم امتلاء عـيوننا قرورا؟
نظرتنا للجمال تخـتلف من زمن لآخر ومن شخص لآخر. الجمال نسبي كما الزمن هو نسبي أيضا.
في القرن الثالث عشر واجه الخطاط ياقوت المستعصمي في بغداد مشكلة الحكم على الجودة في الخط. وأخيرا وطد الأسـس المتينة للخط العربي وأعلن ضرورة إتقان 6 أساليب اجبارية للخطاط المهني. وضع هو أشكالها وقواعدها معتمدا ًعلى كل الإنتاج للخطوط فيما قبله.
بغداد الجريحة بعد الحصار عام 1258 وتحطيم المغول لها واحتلالها. لم ترسل لنا خبرا سعيدا بعد ذلك إلا إبداعات الخطاط ياقـوت المستعصمي. الحياة جاءتـنا عن طريق الفن، وهكذا أن الفن ينتصر على الزمن.
القواعد التي وضعها المستعصمي استمرت حتى القرن السادس عشر، إذ أحدث الشيخ حمد الله الاماسي نهضة مشـابهة. كان الشـيخ حمد الله خطاط في مدينة أماسـيا بتركيا.
وأحد تلاميذه هو الأمير بايزيد، الذي أصبح فيما بعد سلطان الدولة العثمانية. كان بايزيد يرى في الاماسي خطاطاً عملاقاً. وكان يمسـك المحبرة بجانبه أثناء الخط. فطلب بايزيد من أسـتاذه الشـيخ حمد الله المجيء إلى اسطنبول وتوجه إليه بالسؤال التالي: هل يمكن تحسـين الأساليب السـتة لياقوت المستعصمي؟
اعتصم الشـيخ حمد الله 40 يوما ً في داره مع كل ما تملك خزينة الإمبراطورية العثمانية من خطوط لياقوت المستعصمي. فأصلح الأساليب الستة وأعطاها توازناً جديداً وديناميكية معاصرة، وحرية في الخط.
أعطى الاماسي للخط شيئاً آخر يذهب أبعد من موضوع الوضوح والتناسق، فقد أعطاه روح داخلية.
لم نرى قبل الاماسي خطا بهذه العذوبة. إذ أخذت الحروف توحي وكأنها خُطتْ بعفوية وبساطة. وبنفـس الوقت تبدو أنها آتية من الداخل نحو الخارج. فتــقود الحركات الخطية عيوننا إلى داخل مادة الحبر. أناقة عالية رغم التعـقيد الواسع فيها.
لقد حرر الاماسي الخط من الثــقل وجعله يرقص في الفضاء. المدات وتطويل بعض الحروف في خط النسخ أعطته حيوية وحلاوة، ولم يعد الخط بعد الاماسي كتابة للقراءة فقـط. إنما فن يملأ العيون قرورا كما يقول عبيد الله العنبري.
صحيح أن هنالك خطوط جيدة عملت قبل الشــيخ حمد الله الاماسي. لكن الاماسي وضع الرهافة إلى جانب القاعدة العقـلانية الكلاسيكية، والتي لازال خطاطي اليوم ينهلون منها، عبر أجيال عديدة من الخطاطين.
وضع الاماسي قواعد لقياسات الحروف وطرق بَري منقار القصبة. استمرت هذه الإصلاحات تغـذي فن الخط والخطاطين لمدة ثلاثة قرون من الزمن. ليضاف إليها فيما بعد ما هـو جديد من قبل مجموعة أخرى من خطاطي القرن التاسع عـشر. كالخطاط عبد الله الزهدي أعظم الخطاطين في عصره، خطوطه تتـميز في الإجادة بالرونق والبهاء. والخطاط الحافظ عثمان الذي أعطى خط النسخ مرونة وقوة، والخطاط مصطفى راقم الذي عمل تكوينات لم تكن تـُعرف مسبقا وتـتميز بالعظمة والأناقة. تكوينات تناسـقت بطرق هندسية تسـتلهم المعمار وتـتأثر به. أشكال جديدة مبتكرة. أعطاها قوة التنظيم والرهافة في آن واحد .
وهكذا كما يقول المثل الشعبي الزمن يبني قلعة ويهدمها فما هو رائع في الزمن الماضي قد لا يكون كذلك اليوم. العمل الفني هو في حوار مستمر مع الإنسان واحساساته، وأن الإنسان يتـغـير ويتطور ويزداد وعيا بمرورالزمن.
الحكم الجمالي يعود إلى ذاكرة الفرد، فمنذ الطفولة نختزن كل ما رأيناه وما سمعناه. وبالتالي تـتكون شخصيتـنا عاطفيا وفكريا وجماليا، وينمو الذوق أيضا من خلال هذه الذاكرة.
وعند ذاك يمكن أن نحكم على الخط الحسن.
فالخط الحسن هو ما يتفاعل مع أحاسيسنا العميقة. وأعيد ما يقوله عبيد الله العنبري: إن الخط الحسن هو ما يملأ عيوننا قرورا. هنالك خط حسن حسب الأساليب القديمة، وخط حسن حسب ابتكار الخطاطين المعاصرين. إذ يمكننا أن نجد صفاءً جديداً في خط اليوم كصفاء الماضي ولكن في خط حديث.
مقياس الجمال يعود للإنسان ومدى اتساع احساساته وتفكيره. وقديما ترك لنا أحد الشعراء بيتا شعريا صغيرا، يوضح مشـكلة كبرى، ألا وهي العلاقة الضرورية بين الإحساس والعـقل:
إذا صح حــس المرء صح قـياسه
وليس يصح العـقل من فاقــد الحس
ومن لا يريد تحســس الزمن الحالي، ويريد البقاء باستمرار في موقع معاكس للتيار، ولا يريد تعلم الإبحار كما يقول المثل. فأنه لم يسـمع المثل الآخر الذي يقول: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
وفي النهاية أليس من الأفضل أن نقطع السـيوف لنكسب الوقت والفن والسلم الاجتماعي لصالحنا .
حسن المسعود
يوم 14 تموز 2007
المصدر:
arabic calligraphy, Hassan Massoudy زمن الخط العربي داخل فضاء المدينة ـ بقلم الخطاط حسن المسعود