إن الخط العربي كسائرالفنون الأخرى شاهد على زمانه. فهو يرينا بوضوح فترات الحركة أو الجمود في المجتمع الذي ولد فيه. فكلما كثر الإبداع في زمن ما، عكست الأعمال الفنية روح وجوهر المجتمع وحيويته في ذلك الزمن. وكلما ركدت الفنون ولم تعد سوى تقليد لما سبقها، فأنها تسجل بذلك مرحلة تخلف وجمود المجتمع في تلك الفترة.
إن ما يمكن الحديث عنه هنا في هذا المقال هو مظهر التكوين في الخط العربي فقط ، أما الجوهري فلا يمكن التحدث عنه بالكلمات فهو من مجال الفن، ولأن تحسـسه يكمن بتـذوقـنا له. تذوق عبر الرؤيا.
ابتدأ الإبداع في الخط العربي أواخر القرن السـابع في خطوط قبة الصخرة بالقدس. خطوط لازالت موجودة حتى يومنا الحاضر. حيث تغـيرت اشكال الحروف بسبب عمل الحروف من الاحجار الملونة على الجدران. أي ان تغير مادة الكتابة من الحبر الى مادة اخرى، فرض اعادة خلق الحروف من جديد. وفي خطوط محراب مسـجد قرطبة في القرن العاشر الميلادي نرى الكلمات ألتصقت الواحدة بالاخرى والغى الخطاط الفراغ التقـليدي بين كلمة وأخرى. وهنا نرى ان التصرف والابداع يتمـيز بجرأة، واسـتمر الخلق الفني وتجاوز الماضي حتى زمننا الحالي في مسـيرة مد وجزراستمرت لاكثر من ألف سـنة من الابتكار واعادة الخلق لنفس الحروف. الابتكار في محراب مسجد قرطبة لايعود فقط لقدرة الفنان فقط، انما لتشجيع المسؤولين ايضا. يقال ان الخليفة الحكم الثاني. استغل علاقاته الدبلوماسية مع الامبراطورية البيزنطية، لارسال باخرة مليئة بالاحجار الملونة، كي يستطيع العمال والخطاط تنفيذ تلك الخطوط الجميلة، التي لازالت تبهر المشاهدين منذ الف سنة.
وقد ترك لنا أجيال الخطاطين من القرون الماضية آلآف الخطوط الجميلة في الكتب وعلى الجدران. ولكن إبداع الخطاط في كل الأوقات احتاج للتـشـجيع المادي والمعنوي من قبل الجمهور، ومن قبل المؤسـسات الفـنية. وعندما يـُفـقد التـشجيع فلا يوجد إبداع وإنما التــقـليد للماضي يظل مهيمناً، أي المراوحة بنفـس المكان، رغم أن عجلة الزمن تدور.
في اكثر الأوقات يصطدم المبدعون بعدم الفهم من المجتمع. وما يجذب انتباهنا هو أننا نرى اليوم في بعض الخطوط القديمة قيمة فنية عالية جداً، ونعتبره غاية في الجمال، ولكن ربما لم يكن ينظر اليه كذلك في زمن ولادته، إن الإبداع يكون دائما غير معروف مســبقا. بل ويأتي في اغلب الأحيان من أماكن مجهولة وغير متوقعة.
ولكن ما هو أكيد ومعروف أن الإبداع كان يأتي دائما في زمن تفــتح فيه كل الأبواب أمام الفنانين دون رقابة ودون توجيه صارم.
يزدهرالإبداع في زمن يتولى فيه الدفاع عن الطليعة الفنية بعض المثقــفين أو المتنورين. كقول الشاعر طاغور:
إن تغلـقوا أبوابكم أمام كل الأخطاء فأن الحقيـقة ستـبقى خارجا
فلابد للفن من حريات واسعة.
وهناك حكيم آخر قال نفس الفكرة ولكن بعبارة أخرى:
" اتركوا في حديقـتكم مكانا للأعــشاب الرديئة
اكتب هذين العبارتين للقول مرة أخرى انه لا إبداع دون حرية تعبير فني تفسح المجال لكل الاساليب. وتشجع كل التيارات حتى لو كانت كالأعشاب الرديئة في الحديقة الجميلة.
يحكم البعض على الفن انطلاقا من فن الماضي فقط. ويقارن الأعمال الفنية لهذا العصر بما تحويه المتاحف من روائع، ونرى هذه الظاهرة كثيرا عند الذين يحكمون على الخط العربي وجودته مقارنة بخطوط الماضي. أو بالأحرى مقارنته بخطوط القرن التاسـع عشـر، ومع احترامنا للماضي فاننا لا نريد العيــش فيه.
وتأتي هنا مقولة كونفسيوس:
من لا يتقدم كل يوم يتراجع كل يوم
إذ لا يمكن اليوم معرفة ما هو فن اليوم بشكل مسبق. فن اليوم وخط اليوم هو ما يمارسـه الخطاطون والفنانون الذين يعيـشون بيــننا. وبعد مرور الزمن سيــبقى الفن الجيد وينـسى الرديء. وهذا هو المهم.
في كل البلدان المتقدمة في العالم، تعمل المؤسسات الثــقافية على جعل نصف مجهودها يتوجه لحفظ الماضي، ونصف يبحث عن الجديد. وهكذا يولد الحوارمع الماضي وينمو النشاط الذهني والحسي لمن يزور المعارض، ولمن يقرأ النقد في وسائل الإعلام.
عندما ننظر إلى تركة الخطاطين القدماء، في الكتب أو على جدران المعالم المعمارية للزمن الماضي. نجد أن هنالك تيارات متعددة في الإبداع الخطي. في فترات زمنية كانت فيها المدن القديمة في تفـتح وتفهم للخط وللفن بشكل عام اكثر بكثير من اليوم.
هنالك مراحل زمنية يكثر فيها الإبداع وأخرى يقل. ولكن ما يلفت النظر عندما ننظر إلى خطوط الماضي، هو رؤية تكوينات مخـتلفة وعلى مواد عديدة في المتاحف والبنايات في المدن الإسلامية القديمة. بينما لو ننظر اليوم بشكل عام على مستوى الملايين من البشر في العالم العربي الإسلامي، لنجد أننا اليوم نمر في اكثر الفـترات فقرا في الإبداع في فن الخط العربي. وهذا يعني أننا في حالة ركود على كل المســتويات، فالفـنون هي شهادة على المجتمعات التي ولدت فيها، بخصوبتها أو بانحسارها.
1
التكوين في الخط، هو تجميع كلمات فيما بينها، بهدف جمالي بحت، وعلى حساب القراءة للعبارة المخطوطة، اذ تنتهي العبارة متلابسة ومتشابكة وغير مقروءة.
هناك رغبة جمالية في خيال الخطاط تدفعه إلى تغيــيرمكان الكلمات والحروف. فيقرب الأحرف المتـشـابهة ويجعلها تـتعانق فيما بينها. يبعد المتـنافرة منها ويصغر من حجمها، ويبـني تكويناً هندسـياً أساسـه الحروف العمودية الصاعدة والحروف المســتقيمة والمدورة.
النظر للتكوين الخطي يكون بشكل كلي، وليس جزئياً ولا يجب رؤية الكلمات والحروف بشكل منفرد، وبهدف القراءة. انما نلقي نظرة شـامله على كل الحروف بآن واحد وبهدف تذوق جمالي بحت، كما لو ننظر للشجرة ككل ولا ننظر لكل غصن او كل ورقة وحدها.
ومن المفروض أن يعطي شكل التكوين للمشـاهد رؤى التوازن الهندسي والتناغم الموسيقي. عبر تعانق الحركات الخطية وثـقل وخفة الحروف. وعبر الامتلاء للحروف والفراغ حولها.
يستخدم الخطاط كل مهارته لإيجاد هذا الـتناغم. فيغير من شكل الحروف. أو يضع حرفا في الوسط يفـترض أن يكون في آخر الكلمة. فكما هو معروف لكل من يكتب العربية أن الحرف العربي يأخذ أشكالا متغـيرة إن كان في بداية الكلمة أو في وسطها أو في آخرها. فتكون هذه القاعدة غـير إجبارية عند الخطاطين في لحظات تخيل شكل التكوين. فيلعبون بالحروف كما يرغبون. ومن السهولة عندهم وضع حرف في وسط الكلمة، اعتياديا يوضع في آخر الكلمة.
الهدف الأول من هذه التكوينات هو جمالي، أي إعطاء المشاهد هندسـية جديدة ونغم جديد ما بين أجسام الحروف والفراغات المحيطة بها. فتكون هذه التكوينات مبعث طاقات جديدة تضاف لذاكرة البشــر. فعندما يتحســس الفرد الجمال الفني، يتحول هذ الجمال إلى طاقة مقوية للانسان يستلمها عبر العمل الفني.
وإن لا يمكن قراءة العبارة، فان ذلك لا يسـبب مشكلة للخطاطين، لأن هدفهم من عمل التكوين هو هدف فني قبل كل شيء وليس قراءة النص. خصوصا وان التكوينات تستخدم دائما نصوص وحكم مشهورة. فيصبح محاولة قراءتها من المشاهد نوع من النشاط الذهني. فبمجرد التعرف على بعض الكلمات يخمن المشـاهد بحدسه اي عبارة كتبت وبأي طريقة حورت، وهكذا يتحول هو بدوره الى مشارك في العملية الفنية.
يستخدم الخطاط كل ما أجيز له استعماله، كتطويل بعض الحروف بشكل أفقي أوعمودي. أو وضع مدات ما بين الحروف. وبدء العبارة من الاعلى نحو الأسفل أو العكس من الأسفل نحو الأعلى.
*
هل أن ذكريات الماضي في فراغ الصحراء والكثبان الرملية الأفـقية المتموجة، هي التي دفعت الخطاط نحو التكوين الثابت المبني على هيكل قائم في الفضاء عاليا؟
*
يبتدئ الخطاط بتخيل شكل هيكل هندسي ستوضع عليه الحروف. هندسية مبسـطة ودون حسابات رياضية. إنما بتقدير الشـكل وثـقله بالتحسـس والتخيـّل. وهذا الهيكل الهندسي الوهمي هو الذي سوف يعطي التوازن والنغم للتكوين. وكذلك ســيمنح القوة لتماسك الكلمات. وسـيكون هذا الهيكل اللامرئي كامنا خلف الحروف. تماما كما يختـفي الهيكل العظمي خلف عضلاتنا. وان هذا الهيكل الامرئي نفـسه سيكون سبب إعجاب كل من لا يقرا الحرف العربي، أمام التكوينات الخطية. لان هذه الهندسـية البدائية المبسـطة هي لغة عالمية. والتوازن الذي تسـمح به الهندسة هو مصدر سعادة داخلية.
ان مرونة بعض الأساليب الخطية، كأسـلوب الـثلث ساعدت على إنجاز التكوينات ذات الحروف المدورة. بينما اسـتعمل الخط الكوفي للتكوينات ذات الخطوط المسـتـقيمة. وهكذا أن بعض الأسـاليب تسمح للخطاط اكثر من غيرها بتحقيق رؤاه على الورق.
في البداية يتخيل الخطاط أشكال حروفه بهدف عمل التكوين، كتمثال كبير من الكلمات، يقف على الأرض، ويصعد عاليا في الفضاء.
يفكر الخطاط في بناء جديد للعبارة، ويتحسـس حروفه الصاعدة، والتي ستواجه ضغط الفضاء، وشــد الجاذبية الأرضية. ومهما كان التكوين الخطي صغيرا فانه صورة لعالم اكبر. وهكذا تكون الأمور دائما في الخط، فان ابسط حرف يمثل في ذهن الخطاط عوالم واسعة من الأشكال والمعاني.
يلتزم الخطاط بالأمانة في انجاز الحروف بأحسن مايتمكن، من اصغر حرف إلى نهاية التكوين. ولا يمكن أبدا الغــش في مجال الخط. فان لم يكن الخطاط على احسـن ما يرام. فان ذلك ســيبدوا واضحا في ضعف الحروف وهـشاشـة التكوين. إذ انه يلـتزم ذهـنيا وجسـميا وبكل احساساته في تركيز تام قبل بداية الخط. وان اختل تركيزه بسبب ما واضطرب فـسيكون ذلك واضحا للعين المتمرسـة، التي ســترى خطوطه فيما بعد.
لذلك فان الخطاط يبحث قبل بدء الخط عن جو هادئ. ويبدأ التمرين بخط كل حروف الالفباء للاسلوب الذي سوف يخط فيه، ويكررها لساعات طويلة. حتى يشعر تماما بكمال قدرته وتمكنه من كل الحروف. آنذاك يبدأ الخط.
إن هذا التمرين لن يكون تـقـنيا فحسـب، بل يقود الخطاط إلى أجواء داخلية هادئة وصفاء روحي. ورؤى تعلو إلى السـمو. فتـتيقظ عنده كل خلايا الجسم. وعلى الرغم من مظهره السـكوني الثابت، يبقى عالمه الداخلي في حركة دائبة. إن هذه الأحاسـيس الداخلية هي التي تصب في الحروف وتغذيها بالطاقات العالية. فاليد تتحرك ببطيء لكن الفكر والأحاسـيس تتخيل الأشكال بسرعة.
عندما يكرر الخطاط عمل الحروف في التمرين فإنما يدفع الذهن إلى الذهاب في أماكن فسـيحة واسعة وفارغة. ترتسم فيها بوضوح صور التكوينات المتخيلة و التي يريد خطها. وتدريجيا يحتل هذا الفراغ الذي يراه بمخيلته، الخطوط والتكوينات وصدى العبارات المخطوطة. يتوجه عند ذاك بقلمه نحو المحبرة ليخط ما يرى في المخيلة، فـتـتحول الورقة إلى شكل المنظر الفسـيح الذي تخيله، يمارس فيه الخطاط حرية التعـبير والابتكار بتشكيلات جديدة. تكوينات لم تعرف من قبل. ولكنها على صلة عائلية بخطوط الماضي.
يخط الخطاط أولا الحروف التي توحي بالثبات. ودائما يكون هذا الثبات هو مركز التكوين. ولا ينسى بعد ذلك أن يعطي لبعض الحروف حافزاً للهروب من قلب التكوين. وان كانت هذه الثـنائية ناجحة وواضحة للمشاهد فأنها من أهم الأشياء في نجاح التكوين. وقيل قديما إن افضل الخط هو ما يبدوا متحركاً رغم أن الحروف ثابتة. وهذا نراه في كل الفنون، فقد كان الفنان الإيطالي مايكل انجيلو يقول لطلابه: عندما ترسم إنساناً، دع ذراعيه توحيان بحركتين، إحداهما في ذهاب إلى الأمام والأخرى في رجوع إلى الخلف.
والفنان الصيني يقول لتلميذه: عندما ترسم غيمة في السماء اعمل طرفا منها يوحي بابتلاع شيء ما، وطرفا ً آخر يوحي وكأنه يبصق شيئا ما.
ان الحروف التي توحي بالثبات، هي التي تسمح للحروف المتحركة بالظهور. وهذه العلاقة النســبية تـتم في مخيلة المشــاهد.
تتـشـابك الحروف وتتلاقى كفرقة رقص على المسرح تطمح إلى التحليق في الفضاء بحركات رهيفة وقوية. تخاطر بالسـقوط ، لكنها لا تسقط قط.
كل حرف في التكوين له موقعه ومظهره المتحرك او الثابت. حركات تعبيرية لا يمكن وصفها بالكلمات. يبقى على المـشاهد نفـسه تحسـسها وترجمة جمالياتها الى طاقة فنية، كغذاء فني.
يمكن للخطاط أن يعطي لنفس العبارة ونفس الكلمات تكوينات متعددة ومختلفة. يعكس فيها مفهومه الجمالي وفلسـفته ونظرته للعالم. يمكن أن يكون التكوين منغلقا على نفـسه، أو متفـتحا على العالم. يمكنه أيضاً أن يكون واقفا، ويمكنه أن يكون راكضاً.
مهما يكن كبر وصغر التكوين الذي يعمله الخطاط، فانه يبقى يحتفظ بقوته التعبيرية بسبب الهيكل الهندسي التجريدي الذي فكر به في بداية عمله الخطي.
أما ديناميكية التكوين فتتكون في البداية من اصغر الحروف، ثم في الكلمات، وأخيرا ً في التكوين كله.
4
قوة وديناميكية الحروف آتية من داخل كل حرف. فمثلا لو نأخذ حرف الألف في خط الثلث فانه عند الخطاط ليس خطا مستقيما وهمزة فقط، بل انه سلـسلة من الحركات المتموجة اللامرئية داخل الخط. فأن هذا الحرف الذي يبدو مسـتقيما لأول وهلة. انما هو مجموعة من حركات معقدة. فيبدأ الحرف من الاعلى بتـقعر خفيف غير مرئي لجهة الـيمين، ثم تحدب رهيف نحو اليسار، وبعد ذلك ينزل الحرف في استقامة وسطية، وقبل هبوطه لملامسة السطر يميل قليلا نحو اليسار. وهذه الفوارق الصغيرة هي كل الخط في الأساليب الكلاسيكية، وان فـُقدت فسيكون الخط ضعيفا. كذلك يخفي الخطاط في كل حرف مستدير أجزاء صغيرة من خطوط مسـتقـيمة لمنح الحرف قوة تجنبه الارتخاء.
إن هذه الحركات الصغيرة والرهيفة. والتي تعلمها الخطاط الناشئ من الخطاطين الكبارالذين سبقوه، هي التي تجعل من حروفه خطوط ثرية التعبير الفني.
أما ديناميكية الكلمات فإنها تأتى من مقدرة الخطاط بإعادة صياغة ورسم الكلمة في كل مرة من جديد، وهذا ممكن وذلك عبر إعادة الخط لنفس الحروف بشكل أقوى من السابق. أو البحث في المخيلة عن رسوم متعددة لنفس الحروف كي تشغل المكان بشكل افضل. ففي أسلوب الثلث مثلا ًتوجد لكل حرف عدة أشكال ابتكرها الخطاطون منذ قرون عديدة.
قبل كل شيء، يتخيل الخطاط الاتجاهات العريضة للتكوين. والمساحة التي سوف يشغلها التكوين: الشكل المربع، أو المستطيل، أو المثلث. أو يجد شكلا جديدا. ثم يأتي بالحروف ويُسكنها في هذه الفراغات، أو يسكبها كالصائغ عندما يعمل الحلية، يـُسكن الحروف داخل وحول الهيكل الذي تخيله. وإن بقيت حروف متمردة ترفض الانصياع والمشاركة بالعملية الفنية، فيترك لها مكان صغير، ويخطها بقلم رفيع، كيلا يؤثر حجمها على المظهر الفني العام للتكوين.
وهكذا فان للخطاط قوة التحكم في مصير حروفه. وهنالك ما تقوله الحروف هي أيضا، فأنها تطيع بعض الخطاطين وليس جميعهم. ولهذا نعجب بخطوط البعض فقط ونميل لرؤية خطوطهم بأستمرار.
إن مشاهدة تكوين قوي تهبنا شعوراً بالامتلاء والاطمئنان. على عكس الخطوط الرديئة التي تخلق بداخلنا إحساسا بالقلق.
كانت التكوينات القديمة الجميلة، كأغصان سوداء متـشابكة لشجرة محترقة بفعل حرارة الشمس في قلب الصحراء. حروف سوداء عارية كهيكل عظمي على خلفية صافية للفضاء. تلابست الحروف في التكوين ولم تعد الكلمات تقرأ. فهدف الخطاط قبل كل شيء هو رؤية جمالية شاملة عبر كل الحروف.
التكوين الخطي يعطي نصف المعلومات للمشاهد، أما النصف المتمم فيبحث عنه المشاهد في نفسه، يبحث عن المعنى محاولا القراءة، ويتخيل في الشكل العام للتكوين أشياء قد تبـتعد تماما عما تخيل الخطاط. آنذاك يضع حقـيـقـته في العمل الفني، فيـشعر هو نفسه وكأنه مـساهم في عمل التكوين. يمكنه أن يشعر هو أيضا انه فنان وخلا ّق.
*
ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي بدأت تظهر تكوينات تتسم بالجرأة في المعالم المعمارية في آسيا الوسطى. ثم إيران والعراق ومصر. تكوينات متشابكة لا يستطيع قراءتها أحد، الهدف منا متعة العين، والانغمار في التأملات.
koufi geometrique, kufi
تكوينات الخط الكوفي الهندسي التي عملت من الطابوق، تلغي أهم ما في خط القدماء بسبب نوعية المواد الأولية للبناء. تلغي أهم ما كان معروفا في الخط العربي، ألا وهو النحافة والسمك داخل كل حرف.
في الخط الكوفي الهندسي بالمعمار يكتب الخطاط الحرف بالطابوق، وكذلك الفراغ المحيط بالحرف يكون بسمك الطابوق أيضا. انه زمن جديد للخط طبقته جميع الدول الإسلامية بمعالمها المعمارية. ولم نخسر أي شيء، فالخط الكلاسيكي استمر وتقدم والأساليب الجديدة للقرن الرابع عشر هي الأخرى تطورت.
ففي الوهلة الأولى لا تبدوا أية علاقة بين كوفي المصاحف و بين الكوفي الهندسي. ولكن عند التمعن جيدا نرى بوضوح العلاقة العائلية المتـينة بين الاثـنين. وهذا هو الخلق الفني، فانه في البداية يحيّر ويقلق، ولكننا في النهاية نكتـشـف انه ثراء وإضافة لما نملك.
الكتابة بالطابوق وضعت حلول عديدة للمساحات التشــكيلية في العمارة. إذ أن كل الخطوط السابقة التي كبرّت للعمارة لم تكن مـتناسبة، لأنها تقـليد لخط المصاحف. أي تقليد خط منقار القصبة في حركاته الرفيعة والسميكة. بينما في الكوفي الهندسي ولأول مرة تدخل الخطوط بالضبط في المساحة المخصصة لها من قبل المعمار. وبعد ذلك واصل الخطاط القديم إبداعه فأعطى ديناميكية اكبر للخطوط على المنارة فجعلها تنزل مائلة بشكل حلزوني. وحتى المربعات المخطوطة أخذت فيما بعد أشكال قلقة بجعلها ترتكز على نقطة واحدة. وهكذا فإن خط المصاحف بقي في المصاحف. أما العمارة فأنها وجدت ما يلائمها. والنـتيجة هي إثراء للفـنون وبهجة للعيون.
هذا مثال واحد ولكن هنالك أمثلة كثـيرة لإبداع الخطاطين في الماضي. لقد كان الخطاطون والشعراء والموسـيقـيون في طليعة المجددين داخل المدينة الإسلامية. وعند ذكر تراث الحضارة الاسلامية ، انما يذكر المؤرخون نتاجات واعمال هؤلاء المثقفين.
وقد يُطرح اليوم سؤال: ما مدى أهمية وضرورة الحاجة للخط في العصر الحديث ؟ إن المعالم الكبرى يقوم بها معماريين ليسوا على علم بجماليات الخط العربي وماعدا ذلك فان احتياجات الخط الأخرى يمكن أن تقوم بها وسائل الطباعة الحديثة؟
والجواب هو لو ننظر لما تبقى من المعالم القديمة والديكور الخطي، سندرك أن هذا الفن يمكنه أن يغذي باستمرارالأحاسيس والمشاعر لحاضرنا ولمستـقبلنا. وبالإضافة إلى ذلك فان الأجيال الجديدة من الخطاطين يمكنها أن تخلق أجواء جديدة لحاجات جديدة. إذ لا يمكن للبحث الجمالي أن يشـبع رغباتنا فقط، إنه التقدم والتطور بحد ذاته.
وللوصول الى حركة فنية قاعدتها الخط العربي، لابد من وجود صحف وكتب تهتم بالخط. في هذا الزمن الذي يكون فيه سـهلا ً تصوير الخطوط على المعالم وطبعها، كي يتعرف عليها الخطاطون الناشـئون، وتكون دراستها المادة الأولى لخلق خط حديث. كذلك لابد من معارض ولقاءات تخلق مناخ إبداع وتجديد وحوار. كما لاننسى ضرورة التعود على اقتـناء اعمال الخطاطين من قبل كل من يتمكن شراء هذه الاعمال. أنذاك يستطيع الخطاط مواصلة اعطاء الزمن الذي تتطلبه العملية الخطية.
*
في القرون الأربعة الأخيرة كانت الدولة العثمانية هي التي تقود مجموعة الخطاطين على أراضيها. كان الطالب الصغير يدق باب خطاط كبير. وبعد التجربة قد يقبل به الأستاذ كمتعلم أو لا.
على الطالب احترام أستاذه وتتبعه في أسلوبه. وعبر الأستاذ يتعلم التلميذ قوانين الخط. والتي تعلمها الاستاذ هو بدوره من أستاذه. وهكذا أن التعبير الخطي اخذ هذا المنحى عند الدولة العثمانية. والتي هيمنت منذ القرن السادس عشر على كل الدول العربية، عدا المغرب.
كان العمل الفني يدور داخل شبكة من القوانين والمفاهيم يحترمها الجميع. ومن لا يريد احترامها يضع نفسه خارج قوانين الفن الذي يزيّن معالم المدينة. وإن اختار الخروج عن نظام الدولة، فلا تكلفه الدولة بطلبات لإنجاز العمل.
فليذهب إذن إلى السوق ليخط للصفاريين ببضعة دراهم أو ليقم بأي عمل آخر، كتعليم الأطفال في المحلات الفقيرة. لن يعد آنذاك لديه وقت للبحث والتطور، لانه يعمل كثيرا و بمورد قليل. وعندما انهارت الدولة العثمانية، لم تعد قوانينها الفنية تساوي شيئا. لم يعد للخطاط دورا حقيقيا كما كان سابقا. وهكذا انتهى حال الخطاط لحد يومنا الحالي. والاستمرارية للخط القديم انما تتم بجهود بعض الخطاطين الذين يقدروا اهمية هذا الفن لمجتمعنا العربي ولكل من يستعمل الحرف العربي.
ربما كان الهدف من القوانين القديمة في الخط احترام التراث والحفاظ عليه. ولكننا اليوم نرى أنها اصبحت في بعض البلدان عائـقاً لمواصلة هذا التراث، وحتى أنها لم تستطع المحافظة على الخط القديم. فقبل قرن من الزمن كان عدد الخطاطين يحسب بالآلاف أما اليوم فانه يحسب بالعشرات.
إن هذا المثل يمكن تطبيقه على كل نشاطات الدولة العثمانية. وانه أحد الأسباب التي أدت إلى الانهيار المفجع لهذه الإمبراطورية. إذ لا يجب أن ننسى أن جمود جيل من البشر سوف يؤدي إلي فقر الجيل الذي سوف يخلفه.
بل انه لمن المفجع بشكل اكثر رؤية التوجهات الثـقافية لبعض الدوائر الرسمية اليوم وخصوصا في مجال الخط، كامتداد للقوانين الصارمة للنظام العثماني تجاه الخط والذي سبق وان اثبت فـشل هذه التوجهات.
ان جماهير الدول العربية ـ الاسلامية ، تعيــش الفـقر الثقـافي، والكثيرمن شبابها يحلم بالهجرة، الى العالم الصناعي. أي الدول التي تفـتح ذراعيها أمام الخلق الفني بكل اتجاهاته. النظر للخارج بســبب ركود مجتمعاتنا ثقافيا، وتقلص الإنتاج الفني. الانتاج الفني هو انتاج روحي قبل كل شيء والغرض منه تطوير الذوق البشـري والسمو بأخلاق المجتمع ككل.
الخوف من التجديد . كان قد أسـقط الامبراطورية العثمانية، ومزقها . وهذا ما نشـاهده في الكثير من بلداننا ايضا الآن. وعندما يشـعر الناس بهذا الاختـناق الحالي. يطالب البعض وبسـذاجة بالرجوع الى الوراء. الرجوع الى الخلف في قراءة خاطئة للتاريخ، بينما المفروض ان نسـرع الى الامام. وان نتطور مع كل ما اعطانا التطور البشـري الحديث من امكانيات. فلنـتذكر من الماضي فـقط فترات الانفـتاح وخيراتها، ونأخذ أجمل ماتركه الماضي لنا ونطوره بأتجاه المستقبل.
*
ولتوضيح التطور الذي مر به الخط في الزمن الماضي. يمكن ان نأخذ كمثال على ذلك استعمال الخط الكوفي بشـكل واسع للمصاحف في القرن التاسع. ولكن بنهاية القرن العاشـر بدأ التحول نحو أسلوب النسخ . لأسباب اجتماعية عديدة. اهمها الازدهار الحضاري والترف للدولة الاسلامية الكبيرة المتعددة القوميات .
التقدم الحضاري في العصر العباسـي سمح بولادة أساليب في الخط العربي لا حصر لها من ابداع الخطاطين، لان الدولة الاسلامية كانت آنذاك دولة مفتوحة، على شكل الولايات المتحدة او الاتحاد الاوربي في عصرنا الحالي. ففي العالم الغربي الواسع اليوم يتـنقل الناس بدون جوازات سـفر ويعملون في المكان الذي يجدونه ملائما لهم.
وهكذا كانت الدولة الاسلامية سابقا تمتد من بعض اجزاء الصين وحتى الاندلس. فكان للخطاط مجالات عمل واسعة. و تمكن من ابداع اساليب عديدة في الخط. وهكذا كنا نسمع بشار بن برد في القرن الثامن يقول:
واذا خـشـيت تعذرا في بلدة فأشــدد يديك بعـاجل الترحال .
كان يعرف انه يستطيع العيش بمدينة اخرى. وكان الشاعر الحريري في القرن 12 يقول:
وجب البلاد فأيها أرضاك فأختـره وطن .
اما اليوم فلم يعد التـنقل سهلا بين الدول العربية والاسلامية .
ويمكن تصوّر ان هذا المناخ الايجابي، في زمن الدولة الاسلامية المتعددة القوميات. والذي كان يشـمل كل مجالات الابداع. فالشـعراء في كل مكان. والموسـيقـيون في القصور. والمعماريون في المدينة. وكمثال على ذلك: فان الفيلسـوف الغزالي ولد في ايران وعمل استاذا في المدرسة النظامية ببغداد. وزرياب ولد في بغداد وفتح اكبر مدرسة للموسـيقى في الاندلس يتعلم فيها حتى ابناء الاوربيين. وياقوت اكبرخطاطي بغداد في القرن الثالث عشر ولد في اوربا وتبناه الخليفة المستعصمي.
كان الخليفة المأمون يطلب من الخطاطين ان يســـتنـسخوا نموذجا لكل كتاب موجود على الارض. وان كان بلغة اخرى ليترجم ويُخط. وهكذا تنشـط مخيلة الانسان ويتطور المجتمع. وهذا بالضبط ما يحدث الان في الدول الصناعية الكبرى. بينما في العصر الحالي عندما نريد شـراء كتاب وندخل مكتبة عربية تصيبنا الدهـشة لقلة الكتب.
*
في عصرنا الحالي لم تعد الدولة توجه الخط. كما حصل سابقا. مما يعطي الخطاط الحرية الكاملة في عمل خطوطه. لكنما قلة المعارض وقلة الاهتمام بالخط ان لم نقل الاهمال الكامل بعمل الخطاط كجميع الفنون التشكيلية. هذا الاهمال يجعل الخطاط يواجه مشاكل اقتصادية تدفعه إلى ممارسة العمل التجاري الى جانب عمله الفني ، و تجبره على تقليص وقت البحث والتجديد والذي هو ضرورة ملحة كي لا نتراجع إلى الخلف.
كان الكثير من هواة الفن والأثرياء في الزمن الماضي يقـتــنون الخطوط بأسعار عالية مما يوفر الوقت للخطاط للبحث والتدريب. قال أحد الخطاطين القدماء: عندما أخط وأبيع نسخة من كتاب ـ المجسطي ـ وهو كتاب علمي مترجم عن اللغة الاغريقية. يكفيني هذا المورد ان اعيش لمدة سنة.
كان هنالك ايضا ً تشجيع واسع من الشخصيات العليا في الدولة. يقال ان السلطان مصطفى الثاني كان ينظر باعجاب الى الخطاط الحافظ عثمان في القرن السابع عشر وهو يخط. فيقول له:
هل سـيأتي يوم ياحافـظ ان يأتي خطـاط مثــلك؟
فأجابه الحافظ عثمان:
نعم سـيكون هنالك خطـاط مثـلي لو يأتي سـلطان مـثـلـك يمسـك المحبرة لخطاطه المفـضل
*
لا يجد الاطفال والهواة اليوم امكانية تعلم الخط بسهولة. وعلى من يريد تعلم الخط في اكثر الاحيان الاعتماد على نفسه في البحث وتقليد الخطوط المطبوعة. وكم هو تبذير للوقت ان يحاول الشخص التعلم وحيدا لفن كهذا. ان التمرين على الخط والتوصل الى اتقان بضعة اساليب يتطلب سنين من العمل. ولكن يصعب تحقـيق ذلك بشكل فردي. اذ لابد للخطاط المبتديء من فهم وهضم تركة الماضي من الخطوط والتكوينات، ومعرفة اين تكمن جمالياتها. اضافة الى التمرين المســتمر الذي سوف يساعده على ادراك كنه وجوهر الجمال في هذا التعبير الفني. كذلك لابد من اضافة الجديد بالاســتلهام من أشكال وعناصر الطبيعة كالأرض والنار والهواء والماء. وكذلك من الهندســية المخفـية خلف اشكال الازهارمثلا او التأمل في أشكال كثبان الرمل والغيوم في السماء.
كل هذا سيكون صعباً جدا في عالم مادي يبحث عن المنفعة المباشـرة قبل كل شيء.
*
لقد تأثرت التكوينات الخطية سابقا بشكل المعالم المعمارية. كان المعماري يعمل مع الخطاط، في كيفية وضع الخطوط على الجدران. وبهذا تعلم الخطاط كثيرا من المعماري. في هندسـته للاشكال وكيفية احتلال الفضاء. والصعود عاليا بالحروف مع مراعاة قانون الجاذبية. وبهذا عمل الخطاط تكوينات للمكان المطلوب على جدران البناية. ولتـشغل المساحة المخصصة بالضبط.
ومن الخطاطين اللذين عملوا مع المعماريـين أذكر على سبيل المثال الخطاط راقم الذي كان له جرأة كبيرة في كسر العبارة وإعادة تركيبها حسب تخيلاته. ومن تكويناته المشهورة لوحة لاحـول ولا قـوة الا بالله المحفوظة بمتحف طوب كبي باسطنبول.
وضع في وسط هذا التكوين الثلاث لاءات المتباعدة في العبارة. ولكنه لصق بعضها ببعض. ثم عمل الف ولام على اليمين والف وبا على اليسار. في العبارة الف منفردة واحدة، بينما تكوينه احتاج الى اثنين. فأضاف عبارة أخرى هي العـلي العظـيم في الأعلى وخطها بشكل صغير جدا، ولكنه اقترض منها ألِفا ليستعمـلها في اكمال تكوينه للحروف الكبيرة.
الحروف المدورة جعلها تدخل الواحد ببطن الآخر. ولم يتردد بتصغير الحروف واو و قو، كي تدخل بسهولة في التكوين. ثم وضع الأربع نقاط لكل العبارة سوية في أعلى اللاءات ووضع لفظ الجلالة الله في الأعلى.
إن ما يدهش في هذا التكوين هو اتساع مخيلة راقم في عدد المرات التي يتدخل فيها كي يغير مكان الحروف ويصغرها. ويضيف حرفا من اجل بناء تكوين جديد ومتناغم يخضع لهندسية بسيطة وقوية.
وُلد مصطفى راقم في عام 1757 وتوفى عام 1826 وترك لنا الكثير من التكوينات التي تتميز بالأناقة والكمال. وكان العثمانـيون يقولون عنه: إذا كان الغرب فخورا ً بمايكل انجـيلو فنحن فخورون بالخطاط راقم.
ترك لنا الخطاطون القدماء الكثير من التكوينات في المعالم المعمارية وعلى الورق. فـفي حدائق قصر الحمراء خط صغير كـُـتبتْ فيه عبارة هي شعار بني عبّاد: لا غالب إلا الله وقد أضاف الخطاط في الأعلى امتداد للحروف وزخارف تشابه الحروف الكوفية بما يعادل ثلاث مرات حجم العبارة. أي أن ربع المساحة في الاسفل كان كافيا لخط العبارة. ولكن الخطاط عمل إضافات عليا لمعادلة تكوينه، ولكنه من جهة أخرى استغل هذه الزيادات للتمتع بحرية الإبداع والخلق. فالمساحات الإضافية هي ملكه الخاص يتصرف بها كما يحب وكما يريد. العبارة خطت بأسلوب كوفي معروف لكن كل مارسمه في الاعلى كان من ابداعه الشخصي.
الإبداع والخلق يتم في أجواء من التشجيع. فهناك تأثير متبادل بين الخطاط والمجتمع. فإن كان هنالك احترام وتقـدير تبرز الفـنون وتلعب دورها الفعال. وان كان هنالك الإهمال فـسوف تضمحل الفنون ويفـقد المجتمع علاماته الجمالية ويبقى المجتمع مقلدا. الفن هو تكثـيف للطاقات التي تغذي من ينظر إليها. وأن الجمال الـفني يتحول في عيون المـشاهد إلى طاقة إيجابية.
ترتفع الألفات واللامات بخطوط رهـيفة في خط الحجر المحفور في حدائق قصر غرناطة. لا نلبث أن نرى هذه الرهافة حولنا في القصر نفسه. فالأعمدة الرخامية في قصر الحمراء رفيعة رشـيقة. وهنا يأتي السؤال: من تأثر بمن؟ هل ان المعماري تأثـر بعمل الخطاط، أم الخطاط تأثر بهندسة المعماري؟ ان هذا التأثير المتبادل يمكن تصوره في اشـياء متعددة مابين الفن والحياة. الفن هو انعكاس لحركة المجتمع. يتاثر به ويؤثر عليه.
ومن هنا نطرح السؤال التالي: هل يمكن ان نسـتمر على مظهر الخط كما كان في عصر الحصان. ونحن الآن في زمن الطيران؟
حسن المسعود ـــ باريس ـ آذار2007
* المصدر:
arabic calligraphy, Hassan Massoudy التكوين في الخط العربي ـ بقلم حسن المسعود الخطاط
إن ما يمكن الحديث عنه هنا في هذا المقال هو مظهر التكوين في الخط العربي فقط ، أما الجوهري فلا يمكن التحدث عنه بالكلمات فهو من مجال الفن، ولأن تحسـسه يكمن بتـذوقـنا له. تذوق عبر الرؤيا.
ابتدأ الإبداع في الخط العربي أواخر القرن السـابع في خطوط قبة الصخرة بالقدس. خطوط لازالت موجودة حتى يومنا الحاضر. حيث تغـيرت اشكال الحروف بسبب عمل الحروف من الاحجار الملونة على الجدران. أي ان تغير مادة الكتابة من الحبر الى مادة اخرى، فرض اعادة خلق الحروف من جديد. وفي خطوط محراب مسـجد قرطبة في القرن العاشر الميلادي نرى الكلمات ألتصقت الواحدة بالاخرى والغى الخطاط الفراغ التقـليدي بين كلمة وأخرى. وهنا نرى ان التصرف والابداع يتمـيز بجرأة، واسـتمر الخلق الفني وتجاوز الماضي حتى زمننا الحالي في مسـيرة مد وجزراستمرت لاكثر من ألف سـنة من الابتكار واعادة الخلق لنفس الحروف. الابتكار في محراب مسجد قرطبة لايعود فقط لقدرة الفنان فقط، انما لتشجيع المسؤولين ايضا. يقال ان الخليفة الحكم الثاني. استغل علاقاته الدبلوماسية مع الامبراطورية البيزنطية، لارسال باخرة مليئة بالاحجار الملونة، كي يستطيع العمال والخطاط تنفيذ تلك الخطوط الجميلة، التي لازالت تبهر المشاهدين منذ الف سنة.
وقد ترك لنا أجيال الخطاطين من القرون الماضية آلآف الخطوط الجميلة في الكتب وعلى الجدران. ولكن إبداع الخطاط في كل الأوقات احتاج للتـشـجيع المادي والمعنوي من قبل الجمهور، ومن قبل المؤسـسات الفـنية. وعندما يـُفـقد التـشجيع فلا يوجد إبداع وإنما التــقـليد للماضي يظل مهيمناً، أي المراوحة بنفـس المكان، رغم أن عجلة الزمن تدور.
في اكثر الأوقات يصطدم المبدعون بعدم الفهم من المجتمع. وما يجذب انتباهنا هو أننا نرى اليوم في بعض الخطوط القديمة قيمة فنية عالية جداً، ونعتبره غاية في الجمال، ولكن ربما لم يكن ينظر اليه كذلك في زمن ولادته، إن الإبداع يكون دائما غير معروف مســبقا. بل ويأتي في اغلب الأحيان من أماكن مجهولة وغير متوقعة.
ولكن ما هو أكيد ومعروف أن الإبداع كان يأتي دائما في زمن تفــتح فيه كل الأبواب أمام الفنانين دون رقابة ودون توجيه صارم.
يزدهرالإبداع في زمن يتولى فيه الدفاع عن الطليعة الفنية بعض المثقــفين أو المتنورين. كقول الشاعر طاغور:
إن تغلـقوا أبوابكم أمام كل الأخطاء فأن الحقيـقة ستـبقى خارجا
فلابد للفن من حريات واسعة.
وهناك حكيم آخر قال نفس الفكرة ولكن بعبارة أخرى:
" اتركوا في حديقـتكم مكانا للأعــشاب الرديئة
اكتب هذين العبارتين للقول مرة أخرى انه لا إبداع دون حرية تعبير فني تفسح المجال لكل الاساليب. وتشجع كل التيارات حتى لو كانت كالأعشاب الرديئة في الحديقة الجميلة.
يحكم البعض على الفن انطلاقا من فن الماضي فقط. ويقارن الأعمال الفنية لهذا العصر بما تحويه المتاحف من روائع، ونرى هذه الظاهرة كثيرا عند الذين يحكمون على الخط العربي وجودته مقارنة بخطوط الماضي. أو بالأحرى مقارنته بخطوط القرن التاسـع عشـر، ومع احترامنا للماضي فاننا لا نريد العيــش فيه.
وتأتي هنا مقولة كونفسيوس:
من لا يتقدم كل يوم يتراجع كل يوم
إذ لا يمكن اليوم معرفة ما هو فن اليوم بشكل مسبق. فن اليوم وخط اليوم هو ما يمارسـه الخطاطون والفنانون الذين يعيـشون بيــننا. وبعد مرور الزمن سيــبقى الفن الجيد وينـسى الرديء. وهذا هو المهم.
في كل البلدان المتقدمة في العالم، تعمل المؤسسات الثــقافية على جعل نصف مجهودها يتوجه لحفظ الماضي، ونصف يبحث عن الجديد. وهكذا يولد الحوارمع الماضي وينمو النشاط الذهني والحسي لمن يزور المعارض، ولمن يقرأ النقد في وسائل الإعلام.
عندما ننظر إلى تركة الخطاطين القدماء، في الكتب أو على جدران المعالم المعمارية للزمن الماضي. نجد أن هنالك تيارات متعددة في الإبداع الخطي. في فترات زمنية كانت فيها المدن القديمة في تفـتح وتفهم للخط وللفن بشكل عام اكثر بكثير من اليوم.
هنالك مراحل زمنية يكثر فيها الإبداع وأخرى يقل. ولكن ما يلفت النظر عندما ننظر إلى خطوط الماضي، هو رؤية تكوينات مخـتلفة وعلى مواد عديدة في المتاحف والبنايات في المدن الإسلامية القديمة. بينما لو ننظر اليوم بشكل عام على مستوى الملايين من البشر في العالم العربي الإسلامي، لنجد أننا اليوم نمر في اكثر الفـترات فقرا في الإبداع في فن الخط العربي. وهذا يعني أننا في حالة ركود على كل المســتويات، فالفـنون هي شهادة على المجتمعات التي ولدت فيها، بخصوبتها أو بانحسارها.
1
التكوين في الخط، هو تجميع كلمات فيما بينها، بهدف جمالي بحت، وعلى حساب القراءة للعبارة المخطوطة، اذ تنتهي العبارة متلابسة ومتشابكة وغير مقروءة.
هناك رغبة جمالية في خيال الخطاط تدفعه إلى تغيــيرمكان الكلمات والحروف. فيقرب الأحرف المتـشـابهة ويجعلها تـتعانق فيما بينها. يبعد المتـنافرة منها ويصغر من حجمها، ويبـني تكويناً هندسـياً أساسـه الحروف العمودية الصاعدة والحروف المســتقيمة والمدورة.
النظر للتكوين الخطي يكون بشكل كلي، وليس جزئياً ولا يجب رؤية الكلمات والحروف بشكل منفرد، وبهدف القراءة. انما نلقي نظرة شـامله على كل الحروف بآن واحد وبهدف تذوق جمالي بحت، كما لو ننظر للشجرة ككل ولا ننظر لكل غصن او كل ورقة وحدها.
ومن المفروض أن يعطي شكل التكوين للمشـاهد رؤى التوازن الهندسي والتناغم الموسيقي. عبر تعانق الحركات الخطية وثـقل وخفة الحروف. وعبر الامتلاء للحروف والفراغ حولها.
يستخدم الخطاط كل مهارته لإيجاد هذا الـتناغم. فيغير من شكل الحروف. أو يضع حرفا في الوسط يفـترض أن يكون في آخر الكلمة. فكما هو معروف لكل من يكتب العربية أن الحرف العربي يأخذ أشكالا متغـيرة إن كان في بداية الكلمة أو في وسطها أو في آخرها. فتكون هذه القاعدة غـير إجبارية عند الخطاطين في لحظات تخيل شكل التكوين. فيلعبون بالحروف كما يرغبون. ومن السهولة عندهم وضع حرف في وسط الكلمة، اعتياديا يوضع في آخر الكلمة.
الهدف الأول من هذه التكوينات هو جمالي، أي إعطاء المشاهد هندسـية جديدة ونغم جديد ما بين أجسام الحروف والفراغات المحيطة بها. فتكون هذه التكوينات مبعث طاقات جديدة تضاف لذاكرة البشــر. فعندما يتحســس الفرد الجمال الفني، يتحول هذ الجمال إلى طاقة مقوية للانسان يستلمها عبر العمل الفني.
وإن لا يمكن قراءة العبارة، فان ذلك لا يسـبب مشكلة للخطاطين، لأن هدفهم من عمل التكوين هو هدف فني قبل كل شيء وليس قراءة النص. خصوصا وان التكوينات تستخدم دائما نصوص وحكم مشهورة. فيصبح محاولة قراءتها من المشاهد نوع من النشاط الذهني. فبمجرد التعرف على بعض الكلمات يخمن المشـاهد بحدسه اي عبارة كتبت وبأي طريقة حورت، وهكذا يتحول هو بدوره الى مشارك في العملية الفنية.
يستخدم الخطاط كل ما أجيز له استعماله، كتطويل بعض الحروف بشكل أفقي أوعمودي. أو وضع مدات ما بين الحروف. وبدء العبارة من الاعلى نحو الأسفل أو العكس من الأسفل نحو الأعلى.
*
هل أن ذكريات الماضي في فراغ الصحراء والكثبان الرملية الأفـقية المتموجة، هي التي دفعت الخطاط نحو التكوين الثابت المبني على هيكل قائم في الفضاء عاليا؟
*
يبتدئ الخطاط بتخيل شكل هيكل هندسي ستوضع عليه الحروف. هندسية مبسـطة ودون حسابات رياضية. إنما بتقدير الشـكل وثـقله بالتحسـس والتخيـّل. وهذا الهيكل الهندسي الوهمي هو الذي سوف يعطي التوازن والنغم للتكوين. وكذلك ســيمنح القوة لتماسك الكلمات. وسـيكون هذا الهيكل اللامرئي كامنا خلف الحروف. تماما كما يختـفي الهيكل العظمي خلف عضلاتنا. وان هذا الهيكل الامرئي نفـسه سيكون سبب إعجاب كل من لا يقرا الحرف العربي، أمام التكوينات الخطية. لان هذه الهندسـية البدائية المبسـطة هي لغة عالمية. والتوازن الذي تسـمح به الهندسة هو مصدر سعادة داخلية.
ان مرونة بعض الأساليب الخطية، كأسـلوب الـثلث ساعدت على إنجاز التكوينات ذات الحروف المدورة. بينما اسـتعمل الخط الكوفي للتكوينات ذات الخطوط المسـتـقيمة. وهكذا أن بعض الأسـاليب تسمح للخطاط اكثر من غيرها بتحقيق رؤاه على الورق.
في البداية يتخيل الخطاط أشكال حروفه بهدف عمل التكوين، كتمثال كبير من الكلمات، يقف على الأرض، ويصعد عاليا في الفضاء.
يفكر الخطاط في بناء جديد للعبارة، ويتحسـس حروفه الصاعدة، والتي ستواجه ضغط الفضاء، وشــد الجاذبية الأرضية. ومهما كان التكوين الخطي صغيرا فانه صورة لعالم اكبر. وهكذا تكون الأمور دائما في الخط، فان ابسط حرف يمثل في ذهن الخطاط عوالم واسعة من الأشكال والمعاني.
يلتزم الخطاط بالأمانة في انجاز الحروف بأحسن مايتمكن، من اصغر حرف إلى نهاية التكوين. ولا يمكن أبدا الغــش في مجال الخط. فان لم يكن الخطاط على احسـن ما يرام. فان ذلك ســيبدوا واضحا في ضعف الحروف وهـشاشـة التكوين. إذ انه يلـتزم ذهـنيا وجسـميا وبكل احساساته في تركيز تام قبل بداية الخط. وان اختل تركيزه بسبب ما واضطرب فـسيكون ذلك واضحا للعين المتمرسـة، التي ســترى خطوطه فيما بعد.
لذلك فان الخطاط يبحث قبل بدء الخط عن جو هادئ. ويبدأ التمرين بخط كل حروف الالفباء للاسلوب الذي سوف يخط فيه، ويكررها لساعات طويلة. حتى يشعر تماما بكمال قدرته وتمكنه من كل الحروف. آنذاك يبدأ الخط.
إن هذا التمرين لن يكون تـقـنيا فحسـب، بل يقود الخطاط إلى أجواء داخلية هادئة وصفاء روحي. ورؤى تعلو إلى السـمو. فتـتيقظ عنده كل خلايا الجسم. وعلى الرغم من مظهره السـكوني الثابت، يبقى عالمه الداخلي في حركة دائبة. إن هذه الأحاسـيس الداخلية هي التي تصب في الحروف وتغذيها بالطاقات العالية. فاليد تتحرك ببطيء لكن الفكر والأحاسـيس تتخيل الأشكال بسرعة.
عندما يكرر الخطاط عمل الحروف في التمرين فإنما يدفع الذهن إلى الذهاب في أماكن فسـيحة واسعة وفارغة. ترتسم فيها بوضوح صور التكوينات المتخيلة و التي يريد خطها. وتدريجيا يحتل هذا الفراغ الذي يراه بمخيلته، الخطوط والتكوينات وصدى العبارات المخطوطة. يتوجه عند ذاك بقلمه نحو المحبرة ليخط ما يرى في المخيلة، فـتـتحول الورقة إلى شكل المنظر الفسـيح الذي تخيله، يمارس فيه الخطاط حرية التعـبير والابتكار بتشكيلات جديدة. تكوينات لم تعرف من قبل. ولكنها على صلة عائلية بخطوط الماضي.
يخط الخطاط أولا الحروف التي توحي بالثبات. ودائما يكون هذا الثبات هو مركز التكوين. ولا ينسى بعد ذلك أن يعطي لبعض الحروف حافزاً للهروب من قلب التكوين. وان كانت هذه الثـنائية ناجحة وواضحة للمشاهد فأنها من أهم الأشياء في نجاح التكوين. وقيل قديما إن افضل الخط هو ما يبدوا متحركاً رغم أن الحروف ثابتة. وهذا نراه في كل الفنون، فقد كان الفنان الإيطالي مايكل انجيلو يقول لطلابه: عندما ترسم إنساناً، دع ذراعيه توحيان بحركتين، إحداهما في ذهاب إلى الأمام والأخرى في رجوع إلى الخلف.
والفنان الصيني يقول لتلميذه: عندما ترسم غيمة في السماء اعمل طرفا منها يوحي بابتلاع شيء ما، وطرفا ً آخر يوحي وكأنه يبصق شيئا ما.
ان الحروف التي توحي بالثبات، هي التي تسمح للحروف المتحركة بالظهور. وهذه العلاقة النســبية تـتم في مخيلة المشــاهد.
تتـشـابك الحروف وتتلاقى كفرقة رقص على المسرح تطمح إلى التحليق في الفضاء بحركات رهيفة وقوية. تخاطر بالسـقوط ، لكنها لا تسقط قط.
كل حرف في التكوين له موقعه ومظهره المتحرك او الثابت. حركات تعبيرية لا يمكن وصفها بالكلمات. يبقى على المـشاهد نفـسه تحسـسها وترجمة جمالياتها الى طاقة فنية، كغذاء فني.
يمكن للخطاط أن يعطي لنفس العبارة ونفس الكلمات تكوينات متعددة ومختلفة. يعكس فيها مفهومه الجمالي وفلسـفته ونظرته للعالم. يمكن أن يكون التكوين منغلقا على نفـسه، أو متفـتحا على العالم. يمكنه أيضاً أن يكون واقفا، ويمكنه أن يكون راكضاً.
مهما يكن كبر وصغر التكوين الذي يعمله الخطاط، فانه يبقى يحتفظ بقوته التعبيرية بسبب الهيكل الهندسي التجريدي الذي فكر به في بداية عمله الخطي.
أما ديناميكية التكوين فتتكون في البداية من اصغر الحروف، ثم في الكلمات، وأخيرا ً في التكوين كله.
4
قوة وديناميكية الحروف آتية من داخل كل حرف. فمثلا لو نأخذ حرف الألف في خط الثلث فانه عند الخطاط ليس خطا مستقيما وهمزة فقط، بل انه سلـسلة من الحركات المتموجة اللامرئية داخل الخط. فأن هذا الحرف الذي يبدو مسـتقيما لأول وهلة. انما هو مجموعة من حركات معقدة. فيبدأ الحرف من الاعلى بتـقعر خفيف غير مرئي لجهة الـيمين، ثم تحدب رهيف نحو اليسار، وبعد ذلك ينزل الحرف في استقامة وسطية، وقبل هبوطه لملامسة السطر يميل قليلا نحو اليسار. وهذه الفوارق الصغيرة هي كل الخط في الأساليب الكلاسيكية، وان فـُقدت فسيكون الخط ضعيفا. كذلك يخفي الخطاط في كل حرف مستدير أجزاء صغيرة من خطوط مسـتقـيمة لمنح الحرف قوة تجنبه الارتخاء.
إن هذه الحركات الصغيرة والرهيفة. والتي تعلمها الخطاط الناشئ من الخطاطين الكبارالذين سبقوه، هي التي تجعل من حروفه خطوط ثرية التعبير الفني.
أما ديناميكية الكلمات فإنها تأتى من مقدرة الخطاط بإعادة صياغة ورسم الكلمة في كل مرة من جديد، وهذا ممكن وذلك عبر إعادة الخط لنفس الحروف بشكل أقوى من السابق. أو البحث في المخيلة عن رسوم متعددة لنفس الحروف كي تشغل المكان بشكل افضل. ففي أسلوب الثلث مثلا ًتوجد لكل حرف عدة أشكال ابتكرها الخطاطون منذ قرون عديدة.
قبل كل شيء، يتخيل الخطاط الاتجاهات العريضة للتكوين. والمساحة التي سوف يشغلها التكوين: الشكل المربع، أو المستطيل، أو المثلث. أو يجد شكلا جديدا. ثم يأتي بالحروف ويُسكنها في هذه الفراغات، أو يسكبها كالصائغ عندما يعمل الحلية، يـُسكن الحروف داخل وحول الهيكل الذي تخيله. وإن بقيت حروف متمردة ترفض الانصياع والمشاركة بالعملية الفنية، فيترك لها مكان صغير، ويخطها بقلم رفيع، كيلا يؤثر حجمها على المظهر الفني العام للتكوين.
وهكذا فان للخطاط قوة التحكم في مصير حروفه. وهنالك ما تقوله الحروف هي أيضا، فأنها تطيع بعض الخطاطين وليس جميعهم. ولهذا نعجب بخطوط البعض فقط ونميل لرؤية خطوطهم بأستمرار.
إن مشاهدة تكوين قوي تهبنا شعوراً بالامتلاء والاطمئنان. على عكس الخطوط الرديئة التي تخلق بداخلنا إحساسا بالقلق.
كانت التكوينات القديمة الجميلة، كأغصان سوداء متـشابكة لشجرة محترقة بفعل حرارة الشمس في قلب الصحراء. حروف سوداء عارية كهيكل عظمي على خلفية صافية للفضاء. تلابست الحروف في التكوين ولم تعد الكلمات تقرأ. فهدف الخطاط قبل كل شيء هو رؤية جمالية شاملة عبر كل الحروف.
التكوين الخطي يعطي نصف المعلومات للمشاهد، أما النصف المتمم فيبحث عنه المشاهد في نفسه، يبحث عن المعنى محاولا القراءة، ويتخيل في الشكل العام للتكوين أشياء قد تبـتعد تماما عما تخيل الخطاط. آنذاك يضع حقـيـقـته في العمل الفني، فيـشعر هو نفسه وكأنه مـساهم في عمل التكوين. يمكنه أن يشعر هو أيضا انه فنان وخلا ّق.
*
ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي بدأت تظهر تكوينات تتسم بالجرأة في المعالم المعمارية في آسيا الوسطى. ثم إيران والعراق ومصر. تكوينات متشابكة لا يستطيع قراءتها أحد، الهدف منا متعة العين، والانغمار في التأملات.
koufi geometrique, kufi
تكوينات الخط الكوفي الهندسي التي عملت من الطابوق، تلغي أهم ما في خط القدماء بسبب نوعية المواد الأولية للبناء. تلغي أهم ما كان معروفا في الخط العربي، ألا وهو النحافة والسمك داخل كل حرف.
في الخط الكوفي الهندسي بالمعمار يكتب الخطاط الحرف بالطابوق، وكذلك الفراغ المحيط بالحرف يكون بسمك الطابوق أيضا. انه زمن جديد للخط طبقته جميع الدول الإسلامية بمعالمها المعمارية. ولم نخسر أي شيء، فالخط الكلاسيكي استمر وتقدم والأساليب الجديدة للقرن الرابع عشر هي الأخرى تطورت.
ففي الوهلة الأولى لا تبدوا أية علاقة بين كوفي المصاحف و بين الكوفي الهندسي. ولكن عند التمعن جيدا نرى بوضوح العلاقة العائلية المتـينة بين الاثـنين. وهذا هو الخلق الفني، فانه في البداية يحيّر ويقلق، ولكننا في النهاية نكتـشـف انه ثراء وإضافة لما نملك.
الكتابة بالطابوق وضعت حلول عديدة للمساحات التشــكيلية في العمارة. إذ أن كل الخطوط السابقة التي كبرّت للعمارة لم تكن مـتناسبة، لأنها تقـليد لخط المصاحف. أي تقليد خط منقار القصبة في حركاته الرفيعة والسميكة. بينما في الكوفي الهندسي ولأول مرة تدخل الخطوط بالضبط في المساحة المخصصة لها من قبل المعمار. وبعد ذلك واصل الخطاط القديم إبداعه فأعطى ديناميكية اكبر للخطوط على المنارة فجعلها تنزل مائلة بشكل حلزوني. وحتى المربعات المخطوطة أخذت فيما بعد أشكال قلقة بجعلها ترتكز على نقطة واحدة. وهكذا فإن خط المصاحف بقي في المصاحف. أما العمارة فأنها وجدت ما يلائمها. والنـتيجة هي إثراء للفـنون وبهجة للعيون.
هذا مثال واحد ولكن هنالك أمثلة كثـيرة لإبداع الخطاطين في الماضي. لقد كان الخطاطون والشعراء والموسـيقـيون في طليعة المجددين داخل المدينة الإسلامية. وعند ذكر تراث الحضارة الاسلامية ، انما يذكر المؤرخون نتاجات واعمال هؤلاء المثقفين.
وقد يُطرح اليوم سؤال: ما مدى أهمية وضرورة الحاجة للخط في العصر الحديث ؟ إن المعالم الكبرى يقوم بها معماريين ليسوا على علم بجماليات الخط العربي وماعدا ذلك فان احتياجات الخط الأخرى يمكن أن تقوم بها وسائل الطباعة الحديثة؟
والجواب هو لو ننظر لما تبقى من المعالم القديمة والديكور الخطي، سندرك أن هذا الفن يمكنه أن يغذي باستمرارالأحاسيس والمشاعر لحاضرنا ولمستـقبلنا. وبالإضافة إلى ذلك فان الأجيال الجديدة من الخطاطين يمكنها أن تخلق أجواء جديدة لحاجات جديدة. إذ لا يمكن للبحث الجمالي أن يشـبع رغباتنا فقط، إنه التقدم والتطور بحد ذاته.
وللوصول الى حركة فنية قاعدتها الخط العربي، لابد من وجود صحف وكتب تهتم بالخط. في هذا الزمن الذي يكون فيه سـهلا ً تصوير الخطوط على المعالم وطبعها، كي يتعرف عليها الخطاطون الناشـئون، وتكون دراستها المادة الأولى لخلق خط حديث. كذلك لابد من معارض ولقاءات تخلق مناخ إبداع وتجديد وحوار. كما لاننسى ضرورة التعود على اقتـناء اعمال الخطاطين من قبل كل من يتمكن شراء هذه الاعمال. أنذاك يستطيع الخطاط مواصلة اعطاء الزمن الذي تتطلبه العملية الخطية.
*
في القرون الأربعة الأخيرة كانت الدولة العثمانية هي التي تقود مجموعة الخطاطين على أراضيها. كان الطالب الصغير يدق باب خطاط كبير. وبعد التجربة قد يقبل به الأستاذ كمتعلم أو لا.
على الطالب احترام أستاذه وتتبعه في أسلوبه. وعبر الأستاذ يتعلم التلميذ قوانين الخط. والتي تعلمها الاستاذ هو بدوره من أستاذه. وهكذا أن التعبير الخطي اخذ هذا المنحى عند الدولة العثمانية. والتي هيمنت منذ القرن السادس عشر على كل الدول العربية، عدا المغرب.
كان العمل الفني يدور داخل شبكة من القوانين والمفاهيم يحترمها الجميع. ومن لا يريد احترامها يضع نفسه خارج قوانين الفن الذي يزيّن معالم المدينة. وإن اختار الخروج عن نظام الدولة، فلا تكلفه الدولة بطلبات لإنجاز العمل.
فليذهب إذن إلى السوق ليخط للصفاريين ببضعة دراهم أو ليقم بأي عمل آخر، كتعليم الأطفال في المحلات الفقيرة. لن يعد آنذاك لديه وقت للبحث والتطور، لانه يعمل كثيرا و بمورد قليل. وعندما انهارت الدولة العثمانية، لم تعد قوانينها الفنية تساوي شيئا. لم يعد للخطاط دورا حقيقيا كما كان سابقا. وهكذا انتهى حال الخطاط لحد يومنا الحالي. والاستمرارية للخط القديم انما تتم بجهود بعض الخطاطين الذين يقدروا اهمية هذا الفن لمجتمعنا العربي ولكل من يستعمل الحرف العربي.
ربما كان الهدف من القوانين القديمة في الخط احترام التراث والحفاظ عليه. ولكننا اليوم نرى أنها اصبحت في بعض البلدان عائـقاً لمواصلة هذا التراث، وحتى أنها لم تستطع المحافظة على الخط القديم. فقبل قرن من الزمن كان عدد الخطاطين يحسب بالآلاف أما اليوم فانه يحسب بالعشرات.
إن هذا المثل يمكن تطبيقه على كل نشاطات الدولة العثمانية. وانه أحد الأسباب التي أدت إلى الانهيار المفجع لهذه الإمبراطورية. إذ لا يجب أن ننسى أن جمود جيل من البشر سوف يؤدي إلي فقر الجيل الذي سوف يخلفه.
بل انه لمن المفجع بشكل اكثر رؤية التوجهات الثـقافية لبعض الدوائر الرسمية اليوم وخصوصا في مجال الخط، كامتداد للقوانين الصارمة للنظام العثماني تجاه الخط والذي سبق وان اثبت فـشل هذه التوجهات.
ان جماهير الدول العربية ـ الاسلامية ، تعيــش الفـقر الثقـافي، والكثيرمن شبابها يحلم بالهجرة، الى العالم الصناعي. أي الدول التي تفـتح ذراعيها أمام الخلق الفني بكل اتجاهاته. النظر للخارج بســبب ركود مجتمعاتنا ثقافيا، وتقلص الإنتاج الفني. الانتاج الفني هو انتاج روحي قبل كل شيء والغرض منه تطوير الذوق البشـري والسمو بأخلاق المجتمع ككل.
الخوف من التجديد . كان قد أسـقط الامبراطورية العثمانية، ومزقها . وهذا ما نشـاهده في الكثير من بلداننا ايضا الآن. وعندما يشـعر الناس بهذا الاختـناق الحالي. يطالب البعض وبسـذاجة بالرجوع الى الوراء. الرجوع الى الخلف في قراءة خاطئة للتاريخ، بينما المفروض ان نسـرع الى الامام. وان نتطور مع كل ما اعطانا التطور البشـري الحديث من امكانيات. فلنـتذكر من الماضي فـقط فترات الانفـتاح وخيراتها، ونأخذ أجمل ماتركه الماضي لنا ونطوره بأتجاه المستقبل.
*
ولتوضيح التطور الذي مر به الخط في الزمن الماضي. يمكن ان نأخذ كمثال على ذلك استعمال الخط الكوفي بشـكل واسع للمصاحف في القرن التاسع. ولكن بنهاية القرن العاشـر بدأ التحول نحو أسلوب النسخ . لأسباب اجتماعية عديدة. اهمها الازدهار الحضاري والترف للدولة الاسلامية الكبيرة المتعددة القوميات .
التقدم الحضاري في العصر العباسـي سمح بولادة أساليب في الخط العربي لا حصر لها من ابداع الخطاطين، لان الدولة الاسلامية كانت آنذاك دولة مفتوحة، على شكل الولايات المتحدة او الاتحاد الاوربي في عصرنا الحالي. ففي العالم الغربي الواسع اليوم يتـنقل الناس بدون جوازات سـفر ويعملون في المكان الذي يجدونه ملائما لهم.
وهكذا كانت الدولة الاسلامية سابقا تمتد من بعض اجزاء الصين وحتى الاندلس. فكان للخطاط مجالات عمل واسعة. و تمكن من ابداع اساليب عديدة في الخط. وهكذا كنا نسمع بشار بن برد في القرن الثامن يقول:
واذا خـشـيت تعذرا في بلدة فأشــدد يديك بعـاجل الترحال .
كان يعرف انه يستطيع العيش بمدينة اخرى. وكان الشاعر الحريري في القرن 12 يقول:
وجب البلاد فأيها أرضاك فأختـره وطن .
اما اليوم فلم يعد التـنقل سهلا بين الدول العربية والاسلامية .
ويمكن تصوّر ان هذا المناخ الايجابي، في زمن الدولة الاسلامية المتعددة القوميات. والذي كان يشـمل كل مجالات الابداع. فالشـعراء في كل مكان. والموسـيقـيون في القصور. والمعماريون في المدينة. وكمثال على ذلك: فان الفيلسـوف الغزالي ولد في ايران وعمل استاذا في المدرسة النظامية ببغداد. وزرياب ولد في بغداد وفتح اكبر مدرسة للموسـيقى في الاندلس يتعلم فيها حتى ابناء الاوربيين. وياقوت اكبرخطاطي بغداد في القرن الثالث عشر ولد في اوربا وتبناه الخليفة المستعصمي.
كان الخليفة المأمون يطلب من الخطاطين ان يســـتنـسخوا نموذجا لكل كتاب موجود على الارض. وان كان بلغة اخرى ليترجم ويُخط. وهكذا تنشـط مخيلة الانسان ويتطور المجتمع. وهذا بالضبط ما يحدث الان في الدول الصناعية الكبرى. بينما في العصر الحالي عندما نريد شـراء كتاب وندخل مكتبة عربية تصيبنا الدهـشة لقلة الكتب.
*
في عصرنا الحالي لم تعد الدولة توجه الخط. كما حصل سابقا. مما يعطي الخطاط الحرية الكاملة في عمل خطوطه. لكنما قلة المعارض وقلة الاهتمام بالخط ان لم نقل الاهمال الكامل بعمل الخطاط كجميع الفنون التشكيلية. هذا الاهمال يجعل الخطاط يواجه مشاكل اقتصادية تدفعه إلى ممارسة العمل التجاري الى جانب عمله الفني ، و تجبره على تقليص وقت البحث والتجديد والذي هو ضرورة ملحة كي لا نتراجع إلى الخلف.
كان الكثير من هواة الفن والأثرياء في الزمن الماضي يقـتــنون الخطوط بأسعار عالية مما يوفر الوقت للخطاط للبحث والتدريب. قال أحد الخطاطين القدماء: عندما أخط وأبيع نسخة من كتاب ـ المجسطي ـ وهو كتاب علمي مترجم عن اللغة الاغريقية. يكفيني هذا المورد ان اعيش لمدة سنة.
كان هنالك ايضا ً تشجيع واسع من الشخصيات العليا في الدولة. يقال ان السلطان مصطفى الثاني كان ينظر باعجاب الى الخطاط الحافظ عثمان في القرن السابع عشر وهو يخط. فيقول له:
هل سـيأتي يوم ياحافـظ ان يأتي خطـاط مثــلك؟
فأجابه الحافظ عثمان:
نعم سـيكون هنالك خطـاط مثـلي لو يأتي سـلطان مـثـلـك يمسـك المحبرة لخطاطه المفـضل
*
لا يجد الاطفال والهواة اليوم امكانية تعلم الخط بسهولة. وعلى من يريد تعلم الخط في اكثر الاحيان الاعتماد على نفسه في البحث وتقليد الخطوط المطبوعة. وكم هو تبذير للوقت ان يحاول الشخص التعلم وحيدا لفن كهذا. ان التمرين على الخط والتوصل الى اتقان بضعة اساليب يتطلب سنين من العمل. ولكن يصعب تحقـيق ذلك بشكل فردي. اذ لابد للخطاط المبتديء من فهم وهضم تركة الماضي من الخطوط والتكوينات، ومعرفة اين تكمن جمالياتها. اضافة الى التمرين المســتمر الذي سوف يساعده على ادراك كنه وجوهر الجمال في هذا التعبير الفني. كذلك لابد من اضافة الجديد بالاســتلهام من أشكال وعناصر الطبيعة كالأرض والنار والهواء والماء. وكذلك من الهندســية المخفـية خلف اشكال الازهارمثلا او التأمل في أشكال كثبان الرمل والغيوم في السماء.
كل هذا سيكون صعباً جدا في عالم مادي يبحث عن المنفعة المباشـرة قبل كل شيء.
*
لقد تأثرت التكوينات الخطية سابقا بشكل المعالم المعمارية. كان المعماري يعمل مع الخطاط، في كيفية وضع الخطوط على الجدران. وبهذا تعلم الخطاط كثيرا من المعماري. في هندسـته للاشكال وكيفية احتلال الفضاء. والصعود عاليا بالحروف مع مراعاة قانون الجاذبية. وبهذا عمل الخطاط تكوينات للمكان المطلوب على جدران البناية. ولتـشغل المساحة المخصصة بالضبط.
ومن الخطاطين اللذين عملوا مع المعماريـين أذكر على سبيل المثال الخطاط راقم الذي كان له جرأة كبيرة في كسر العبارة وإعادة تركيبها حسب تخيلاته. ومن تكويناته المشهورة لوحة لاحـول ولا قـوة الا بالله المحفوظة بمتحف طوب كبي باسطنبول.
وضع في وسط هذا التكوين الثلاث لاءات المتباعدة في العبارة. ولكنه لصق بعضها ببعض. ثم عمل الف ولام على اليمين والف وبا على اليسار. في العبارة الف منفردة واحدة، بينما تكوينه احتاج الى اثنين. فأضاف عبارة أخرى هي العـلي العظـيم في الأعلى وخطها بشكل صغير جدا، ولكنه اقترض منها ألِفا ليستعمـلها في اكمال تكوينه للحروف الكبيرة.
الحروف المدورة جعلها تدخل الواحد ببطن الآخر. ولم يتردد بتصغير الحروف واو و قو، كي تدخل بسهولة في التكوين. ثم وضع الأربع نقاط لكل العبارة سوية في أعلى اللاءات ووضع لفظ الجلالة الله في الأعلى.
إن ما يدهش في هذا التكوين هو اتساع مخيلة راقم في عدد المرات التي يتدخل فيها كي يغير مكان الحروف ويصغرها. ويضيف حرفا من اجل بناء تكوين جديد ومتناغم يخضع لهندسية بسيطة وقوية.
وُلد مصطفى راقم في عام 1757 وتوفى عام 1826 وترك لنا الكثير من التكوينات التي تتميز بالأناقة والكمال. وكان العثمانـيون يقولون عنه: إذا كان الغرب فخورا ً بمايكل انجـيلو فنحن فخورون بالخطاط راقم.
ترك لنا الخطاطون القدماء الكثير من التكوينات في المعالم المعمارية وعلى الورق. فـفي حدائق قصر الحمراء خط صغير كـُـتبتْ فيه عبارة هي شعار بني عبّاد: لا غالب إلا الله وقد أضاف الخطاط في الأعلى امتداد للحروف وزخارف تشابه الحروف الكوفية بما يعادل ثلاث مرات حجم العبارة. أي أن ربع المساحة في الاسفل كان كافيا لخط العبارة. ولكن الخطاط عمل إضافات عليا لمعادلة تكوينه، ولكنه من جهة أخرى استغل هذه الزيادات للتمتع بحرية الإبداع والخلق. فالمساحات الإضافية هي ملكه الخاص يتصرف بها كما يحب وكما يريد. العبارة خطت بأسلوب كوفي معروف لكن كل مارسمه في الاعلى كان من ابداعه الشخصي.
الإبداع والخلق يتم في أجواء من التشجيع. فهناك تأثير متبادل بين الخطاط والمجتمع. فإن كان هنالك احترام وتقـدير تبرز الفـنون وتلعب دورها الفعال. وان كان هنالك الإهمال فـسوف تضمحل الفنون ويفـقد المجتمع علاماته الجمالية ويبقى المجتمع مقلدا. الفن هو تكثـيف للطاقات التي تغذي من ينظر إليها. وأن الجمال الـفني يتحول في عيون المـشاهد إلى طاقة إيجابية.
ترتفع الألفات واللامات بخطوط رهـيفة في خط الحجر المحفور في حدائق قصر غرناطة. لا نلبث أن نرى هذه الرهافة حولنا في القصر نفسه. فالأعمدة الرخامية في قصر الحمراء رفيعة رشـيقة. وهنا يأتي السؤال: من تأثر بمن؟ هل ان المعماري تأثـر بعمل الخطاط، أم الخطاط تأثر بهندسة المعماري؟ ان هذا التأثير المتبادل يمكن تصوره في اشـياء متعددة مابين الفن والحياة. الفن هو انعكاس لحركة المجتمع. يتاثر به ويؤثر عليه.
ومن هنا نطرح السؤال التالي: هل يمكن ان نسـتمر على مظهر الخط كما كان في عصر الحصان. ونحن الآن في زمن الطيران؟
حسن المسعود ـــ باريس ـ آذار2007
* المصدر:
arabic calligraphy, Hassan Massoudy التكوين في الخط العربي ـ بقلم حسن المسعود الخطاط