للعنوان في أي أثر مكتوب أحد دورين ، دور نبيل وهو عقد بين الكاتب والقارئ ، ودور دنيء وهو استجلاب القارئ خصوصا للترويج التجاري . هذا التقديم كان ضرورة ، فالعنوان لا يمكن أن يوفي بدوره النبيل إذ هو عنوان موسوعي ليس لفرد أيا كان اطلاعه ومهما بلغ علمه أن يكون وفيا مع قارئه ملاءمة مع العنوان ولا أن يسع مقال حجم هذا العنوان . ما دام الأمر كذلك فلماذا هذه الفضفضة ؟ ولم هذا التضخيم الذي لا يُنال ؟ هي الضرورة . السيرة سير من حيث الأجناس الأدبية ، والسيرة سير من حيث المجالات المعرفية .
في تقديري أي إنتاج كلامي مكتوبا كان أو منطوقا فيه شيء من السيرة وعى المنتج أم لم يع ، قصد أم لم يقصد . وبما أن الإنتاج الكلامي محمل لرسالة ، وكل رسالة تقوم على أقطاب ثلاثة الباث والمتلقي ومضمون الرسالة ، بهذه المقاربة يتوزع ما في السيرة الذاتية بدوره توزيعا ثلاثيا لكل قطب من الأقطاب نصيب . نصيب الباث ثقافته بالأساس ونوازعه ومعتقداته ونجاحاته وكذلك خيباته وما يمكن أن يضاف إلى ذلك ، هذا المزيج مما هو نفسي وما هو عقلي وما هو وجداني وما هو عقدي وما ترسب في العقل الباطن ، إنتاج الباث انعكاس لهذا المزيج بدرجات متساوية أو متفاوتة ، وما قيل عن الباث ينطبق كليا على المتلقي ، بقي مضمون الرسالة كيف يجوز القبول عقليا بأن المضمون أيضا ينطبق عليه ما ينطبق على الباث كما على المتلقي ؟ المضمون كل مضمون يحمل في طياته ذاتا جمعية في علاقة بما هو بيولوجي حسب الجينوم البشري ، إذ ثمة صفات وراثية يتقارب فيها أفراد جنس من الأجناس البشرية وتتباعد مع صفات أجناس أخرى ، وكل مضمون يحمل في طياته أيضا ذاتا جمعية منشؤها ثقافي حضاري ، كالتاريخ وهو الأساسي بالنسبة لنا نحن العرب ـ وإن كانت عبارة نحن العرب ـ لا تعتبر بديهة من البديهيات إذ يوجد من العرب على الكرة الأرضية من لا يعترف بعروبة عرب آخرين وهو مبحث سوسيو ـ اجتماعي / سوسيو / سياسي . كل مضمون يحمل في طياته أيضا ذاتا جمعية منشؤها ثقافي حضاري ، كالتاريخ وهو الأساسي بالنسبة لنا نحن العرب ، إننا العرب لا نعيش لا حاضرنا ولا مستقبلنا ، نحن العرب نعيش الماضي ، يتلبّسنا الماضي ، يتحكم الماضي في صداقاتنا وفي عداواتنا ، أثر قتل الحسين مازال فينا كأن السني أي سني هو الذي قتل الحسين ، وعلى كل شيعي أي شيعي أن يثأر لمقتل الحسين اليوم متى قدر على ذلك . وهو لعمري موقف ليس سليما عقليا فالمسافة الزمنية عشرات من القرون فالشيعي الذي يريد الثأر لمقتل الحسين عليه نبش القبور وأخذ ثأره من الرفات ، ولا هو سليم دينا فالمبدأ الذي يقوم عليه دين العرب في أغلبية هو الإسلام ، ومن تعاليم الإسلام بنصوص قرآنية : [ولا تزر وازرة وزر أخرى ـ الزمر 7] [كل نفس بما كسبت رهينة ـ المدثر 38] [تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كتسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ـ البقرة 134] وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ـ البقرة 124] ، دين العرب بالأغلبية دين واحد فتفرع إلى دينين ، دين سني / دين شيعي . وكل دين من الدينين تفرع إلى أديان / مذاهب . لا يذهبن في ظن القارئ أننا لا يفرق بين الإسلام كدين ومذهب يتفرع عن هذا الدين . التفاعل مع المذهب بين معتنقي الدين الواحد بلغ حد سفك الدماء وما زال ، إن دماء المسلمين التي سالت بسبب المذهب على مر التاريخ أكثر من دماء المسلمين التي سالت بسبب الاختلاف بين الإسلام كدين وغيره من الأديان . التاريخ يتلبس العرب علما وحضارة ، ابن تيمية وغيره يعتبرون تعاطي الكيمياء حراما وكبيرة من الكبائر قد يفوق الشرك لأنها تغير من خلق الله ، وفيها شبهة الغش والغرر بدرجات تتفاوت ، يضيق مجال أمثلة لأنها عديدة ولمن أراد التثبت فليرجع إلى مدونة ابن تيمية وهي متوفرة بشكل أكبر من كبير ورقيا والكترونيا . ولدوران الأرض وثبات الشمس ـ ولم يقل العلم إن الشمس ثابتة على الإطلاق ، وإنما هي ثابتة في تناسب مع حركة دوران الأرض . كراكب القطار ، فالقطار في حركة ولكن الراكبين في ثبات ، إنما ثباتهم ليس مطلقا ، فالراكب ينتقل من مقعد إلى آخر ، والراكب يذهب إلى دورة المياه .. وفي كتاب المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام / جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود خلط كبير وعدم دراية بما وصل إليه العلم مما لا يتنافى مع نصوص القرآن بالأساس والأحاديث بدرجة ثانية . خلط أيضا بين النظرية والقانون كنظرية النشوء والارتقاء لداروين ، فهي نظرية ولم يبلغ لعلمي من اعتبرها قانونا ، وأكبر فائدة من النظرية ككل تتبع المنطق الداخلي فيها صحت أم لم تصح ، ففيها تنمية للعقل ، هذا إلى جانب ما فيها من صواب يخدم المصلحة كتجويد السلالات في الإنتاج النباتي والحيواني أمام مشكلة تغذية أكثر من سبع مليارات من البشر يعمرون هذا الكوكب . يطول الحديث فيما يشرذم الذات الجمعية لدى العرب ، إن ما يقرّب عربيا مسلما إلى عربي غير مسلم ، أكثر مما يقرّب عربيا مسلما ذا مذهب وعربيا مسلما ذا مذهب آخر . هذا التشرذم والتشظي هو الذي غيب السيرة الشعبية من المدونة الأدبية الرسمية ، في الزمن السابق لم يلتفت إليه من أوقف حياته على الشأن الأدبي وهو ما غيب السيرة الشعبية عن برامج التعليم في زمن لاحق حتى زمننا هذا . يقول ابن خلدون متحدثا عن فن الأدب عند العرب : ... وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي أدب الكتاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي (انتهى) . وبالعودة إلى هذه الكتب لا نجد ذكرا للسيرة الشعبية ، فهذا اللون من الأدب لم يكن معترفا به رسميا من قبل القائمين على شؤون الأدب تعريفا وتنظيرا وفهرسة . يستوقف الدارس في الأدب الشعبي عموما اهتمام الأدباء والمؤرخين للأدب عنايتهم بالأزجال وهي فن من فنون الأدب الشعبي يعود أصله عند البعض إلى جزيرة العرب قبل الإسلام ويرجعه البعض إلى أن أصول الأزجال بدأ في الأندلس . وأيا كان الأمر فقد اعترف الأدباء والمؤرخون بالأزجال دون السيرة الشعبية .
بقي السؤال الذي يفرض نفسه : ما السبب أو الأسباب التي من أجلها غيب هذا الصنف الأدبي ؟
في أكثر من كتاب من كتب التراث ورد هذا الخبر : قال زياد بن أبيه يوما لأصحابه : من أنعم الناس عيشا ؟ قالوا : الأمير وأصحابه ـ قال : كلا إن لأعواد المنبر لفزعة وإن لقعقعة لجام البريد لروعة ، ولكن أنعم الناس رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له صنعة تمونه فإنا إن عرفناه أسهرنا ليله وأتعبنا نهاره . ويتفرد ابن عبد ربه بنص يقارب المعنى ويخالف اللفظ حيث فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه .
تلك هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم عندنا نحن العرب منذ القدم . حتى الربيع العربي وثورة الياسمين لم تغير شيئا من الوضع بل ربما زادته سوء ، ذلك أن العرب لا يحكمهم قانون ولا يحكمهم دستور ولا يحكمهم عقد يبرم بين الحاكم والمحكوم وإنما تحكمهم فكرة القبيلة المتغلغلة في وجدانهم وكيانهم ، تحكمهم فكرة الغنيمة ، من يتقلد منصبا يقربه إلى بيت مال ينصب همه على الكم الذي يحوزه من هذا البيت والمنافع التي يمكن أن يصيبها وتصيبه ، وهذا ليس موقفا انطباعيا , أو حسدا يتملك القلب لذوي النفوذ والمناصب ، وإنما هو حكم إجرائي امبريقي . بالعودة إلى الدساتير العربية التي كتبت بعد الاستقلال نجد السلطة بيد الشعب ، وأن الحاكم مواطن كسائر المواطنين يحكمهم قانون فيه كل الآليات للدخول والخروج حتى إذا حانت ساعة الخروج يتحور الدستور وتتغير القوانين لتأبيد حكم الحاكم ، فيصبح رئيس الجمهورية فرعون قومه يقول لهم تصريحا أو تلميحا أنه ربهم الأعلى . لهذا السبب كانت النهاية مأساوية لبورقيبة وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وصدام حسين وغيرهم كثير ، الحاكم أيضا يقصي كل من ساعده للوصول إلى حكمه إذا ما اشتم منه رائحة المنافسة حتى ولو كانت المنافسة شرعية دستوريا وقانونيا يصل حد القتل أحيانا اغتيالا وأحيانا قتلا ناعما بالقانون كما حدث لمحمود محمد طه السوداني . اتهم بالردة وبعد محاكمات وبالقانون أي والله بالقانون أعدم فجر يوم الجمعة 18 يناير 1985 وما أنجزه حاكم السودان أنه جعل الدولة الواحدة دولتين . الحاكم يحارب العقل يحارب الإبداع يحارب الديمقراطية يحارب الحرية والأنكى في كل ذلك أنه يكتم كل نفس حر ويحجب كل شعاع نور باسم الدين . هذا النوع من العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي السبب الرئيس في استبعاد السيرة الشعبية . السيرة بالأساس هي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل من يحاكي فهو كافر مرتد ، ذكرى محمد الفنانة التونسية أهدر دمها ونفذ فيها الاغتيال بسبب كلمة قالتها ، فقد شبهت هجرتها إلى مصر بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم . عدد كتب السيرة النبوية على سبيل الذكر لا الحصر بلغ 219 كتابا . ثم السيرة للصحابة وبدرجة أولى الخلفاء الراشدين ، ثم السيرة لرواة الحديث النبوي وصحة الحديث في علاقة بشرف الراوي ، ثم السيرة للأعلام والنبلاء من حكام وفقهاء ومتصوفة .. تلك السيرة كما يجب أن تكون بالعلامة المسجلة / استندار / حتى إذا حادت السيرة لتتناول السوقة والرعاع وسفلة القوم رفض الأعيان والنبلاء والفقهاء وبالدرجة الأولى الحكام هذا المسار ، فلا يعقل أن يرسخ في المخيال الشعبي أن عنترة العبد الأسود يكون بطلا ، ولا أبا زيد الهلالي ولا حمزة البهلوان ـ رغم أن الشخصية مستمدة من شخصية لها تاريخ فعلي ، حمزة بن عبد المطلب ـ ولا الزير سالم ولا علي الزيبق أما الطامة أن تكون امرأة أي امرأة بطلة لها سيرة كما ورد في سيرة ذات الهمة ..
الإبداع الشعبي خطره جسيم على السلطة أيا كانت هذه السلطة . وإذا كان الأدب الرسمي يصل إلى فئة قليلة من الناس فإن الأدب الشعبي يصل إلى فئة أكبر وخصوصا حين يكون في التجمعات الشعبية وينقله الحكواتي، الفداوي في اللهجة التونسية .
الشعب يرزح تحت نير القهر والاستبداد فيجد في السرد الشعبي متنفسا وتعويضا ، والانتقام من الحاكم المستبد في السرد الشعبي يطعن أدق مواطن شرف الفرد . في المدونة الشفهية التونسية كم كبير من هذا السرد الشعبي الذي يطعن الحاكم في مقتل . منها أن بورقيبة زار متحفا دوليا فيه صور الرؤساء وأن أي رئيس ينحرف تتحرك صورته تلقائيا ، فثارت ثائرته حين لم يجد صورته فأعلمه المشرف على المتحف أنه لا يرى صورته لأنها المروحة التي تدور بسرعة كبيرة . فيها أيضا أن بورقيبة قدم له اقتراح للإمضاء على تعيين وال فرفض لأن المترشح قصير القامة ، وحين علم المترشح سبب الرفض قال وهل بورقيبة طوله نعناعي ؟ في السرد الشعبي الشفهي أيضا أن زين العابدين بن علي ضبطه شرطي مع زوجته ليلى يتبادلان القبلات في حديقة عمومية وهمّ الشرطي بتحرير مخالفة التجاهر بما ينافي الحياء ، ولما عرف الشرطي أن المخالف رئيس للجمهورية تراجع فأصر زين العابدين على أن يقوم الشرطي بعمله فتونس بلاد القانون والمؤسسات ، سجل الشرطي غرامة بمئة دينار للزين ومئتي دينار لليلى ، وحين احتج الرئيس أجابه الشرطي أنت ليست لك سوابق وهي لها ... وبعض النكت مغرقة في الإباحية وفيها حتى الرمي بالمثلية ، (أعرض عن ذكرها) . وبذلك يتبين خطر السرد الشعبي عموما والسير الشعبية خصوصا على السلطة بكل تفرعاتها ، ولعل قصة الجارية تودد في ألف ليلة وليلة أكبر دليل على ذلك . فهي تعرف نفسها : يا سيدي إني أعرف النحو والشعر والفقه والتفسير واللغة وأعرف فن الموسيقى وعلم الفرائض والحساب والقسمة والمساحة وأساطير الأولين ، وأعرف القرآن العظيم وقد قرأته بالسبع والعشر والأربع عشرة وأعرف عدد سوره وآياته وأحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وأعشاره وسجداته وعدد أحرفه وأعرف ما فيه من الناسخ والمنسوخ والمدنية والمكية ، وأسباب التنزيل وأعرف الحديث الشريف دراية ورواية المسند منه والمرسل ونظرت في علوم الرياضة والهندسة والفلسفة وعلم الحكمة والمنطق والمعاني والبيان وحفظت كثيرا من العلم وتعلقت بالشعر وضربت العود ، وعرفت مواضع النغم فيه ومواقع حركات أوتاره فإن غنيت ورقصت فتنت وإن تزينت وتطيبت قتلت وبالجملة فإني وصلت إلى شيء لم يعرفه إلا الراسخون في العلم . (انتهى) . قيل إن سبب حرق ألف ليلة وليلة ما فيه من حديث عن الجنس والإباحيات ، والأمر ليس على تلك الشاكلة فالمكتبة العربية قديما وحديثا فيها العديد من كتب الجنس والإباحية بعض منها كتبه فقيه أو شيخ أو حتى مفسر للقرآن ، ولم يحرقها أحد . إنما السبب الحقيقي أن ألف ليلة ولية أولا من الأدب الشعبي وثانيا لأنه ضرب السلطة في مقتل ، السلطة الأولى التي ضربها هي السلطة الذكورية في مجتمع ذكوري بامتياز ولا خلاف في ذلك ، ففي قصة تودد بالذات من ألف ليلة وليلة تبرز امرأة وليس للمرأة إلا أن تكون في الخدر ، لا تتعرى للعموم إلا في سوق النخاسة ليقلبها المشترون كما يقلبون بقرة أو ناقة ، حتى إذا صارت ملك اليمين أقفلت دونها الأبواب في الحريم . لم أجد فيما كتبه الأقدمون والمحدثون نصا يثأر للمرأة من ذكورية الرجل العربي مثل هذا النص لقصة الجارية تودد في ألف ليلة وليلة . فقد هزمت فقيها عالما محدثا ، وانتصرت على مقري ، وطبيب ماهر ، ومنجم حاسب كاتب ، وفيلسوف ، وإبراهيم بن سيار النظام وهو شخصية لها وجود حقيقي وهو الوحيد الذي ذكر بالاسم في القصة ، وهزمت معلم شطرنج ، ولاعب نرد ، وأرباب آلات الطرب . لم يتوقف الأمر حد الانتصار بل تجاوزه إلى التعرية . إذ كل من ينهزم ينزع ثيابه لتأخذه تودد . والتعرية في حد ذاتها لها دلالات متعددة .
أما القول بأن مؤلف السيرة الشعبية أو كتاب ألف ليلة وليلة ذاكرة جمعية فهو أمر لا يقبله عقل ولا نقل ، صحيح محتوى السيرة الشعبية والأثر السردي المكتوب عموما يمكن أن تشترك فيه الذاكرة الجمعية ، لكن القلم الذي يكتب لا يمكن أن تمسكه إلا يد واحدة ، وبناء النص السردي الشعبي معجما ولغة وبلاغة ومعارف في نهاية الأمر لشخص واحد تكفل بمهمة التدوين ، الإشكالية أن هذا الشخص الذي كتب بيده كان مغيبا في النصوص السردية الشعبية . يعود هذا الغياب وليس التغييب لأحد سببين ، أو لكليهما ، السبب الأول ربما كان المدون ذا مكانة علمية مرموقة وهو كذلك بالنظر في قصة الجارية تودد ، إذ تبرز سعة اطلاعه وعمق معارفه في أدق الجزئيات ، وتبرز المكانة العلمية في تدوين السير الشعبية إلى إلمام المدون بالتاريخ في جزئيات قد لا يتفطن إليها المؤرخ الخبير ، وربما يكون إلى جانب المكانة العلمية مكانة سياسية أو قضائية أو نحوها ، فصاحب الفرج بعد الشدة ونشوار المحاضرة قاض ، ولكنه رغم تضمن الكتابين إلى نصوص سردية بعض شخوصها من الشعب ، فهو لم يحد عن الأدب الستندار ، فثمة الراوي والمتن ، وجاءت النصوص السردية في شكل أخبار بمفهوم الخبر في الأدب . وممن كتب في السرد بشخصيات من الشعب أيضا ابن الجوزي وهو فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم . فقد سار على منهج الرواية وإن كان بدرجة أقل نحو : رُوي / حدثني ... السبب الثاني أن أول من ألف كتابا في السرد سردا عبد الله بن المقفع في كتابه كليلة ودمنة ، وإن كان قد أشار بأنه ترجمه وله قصة على القصة إلا أن الظن عندي أن ابن المقفع قد وضعه ، وليس لدي دليل علمي على ذلك إنما هو تخمين منشؤه الروح العربية الإسلامية في الكتاب ، وإذا كان الكتاب قد حوى ما ليس عربي المنشأ فمرد ذلك ثقافة ابن المقفع ، مهما يكن من أمر فقد كان مصير ابن المقفع صاحب أول كتاب في السرد الإعدام بطريقة بشعة جدا . وربما هذا المصير الذي ناله ابن المقفع جعل الأديب العربي يتشاءم من أن ينسب لنفسه نصا سرديا لا يتناول شخصيات من علية القوم ولمن يناقض هذا الموقف متعللا بكتاب البخلاء للجاحظ يُردُّ عليه بأن الشخصيات في كتاب الجاحظ تناولت شخصيات تتصف بصفة دنيئة ليست من شيم العرب أي صفة البخل وبالتالي لا خوف منها . أما السبب الرئيس هو السلطة التي يفتكها الشعب بنصه الشعبي والسلط ثلاث ، سلطة جنسية وسلطة دينية وسلطة سياسية . تملك نص السيرة السردية السلطة الجنسية بمفهوميها الجنس / الجنس ، والجنس / الجنسانية ، وتملك السلطة الدينية بالإدلاء بدلوه في الشأن الديني متنا أو نقدا للمؤسسة الدينية بكل تفرعاتها ، وتجرأ على السلطة السياسية بافتكاك البطولة والزعامة من الحاكم الذي هو الخليفة أو الوالي وغيرهما لتصبح البطولة لعلي الزيبق مثلا وهذا مالا يقبله الحاكم العربي ، فلم يقدر علي الانتقام من الكاتب الفعلي الذي نجح في التستر فكان انتقامه بالقتل لقارئ السيرة الشعبية ، لقد أخبرتني الدكتورة فوزية الصفار الزاوق وهي الدكتورة التونسية في اللغة والآداب العربية المختصة في السيرة الشعبية أن من كان يقرأ السيرة ويتوغل في قراءتها سرعان ما يموت ، ولم يعرف سبب لذلك حتى تم تحليل ورق كتب السيرة فوُجد أن الورق ممزوج بالسم والقارئ يبل إصبعه بلعابه للمرور إلى الصفحة الموالية فينال شيئا من هذا السم من حيث لا يشعر ، بقراءة بعض الصفحات لا يصيبه شيء وبقراءة عدد من صفحات فيها كم من السم قاتلا يقضي القارئ ، لذلك بقيت السيرة الشعبية زمنا بعيدا عن التناول والدراسة والاعتراف بها في المدونة الأدبية العربية .
عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي
في تقديري أي إنتاج كلامي مكتوبا كان أو منطوقا فيه شيء من السيرة وعى المنتج أم لم يع ، قصد أم لم يقصد . وبما أن الإنتاج الكلامي محمل لرسالة ، وكل رسالة تقوم على أقطاب ثلاثة الباث والمتلقي ومضمون الرسالة ، بهذه المقاربة يتوزع ما في السيرة الذاتية بدوره توزيعا ثلاثيا لكل قطب من الأقطاب نصيب . نصيب الباث ثقافته بالأساس ونوازعه ومعتقداته ونجاحاته وكذلك خيباته وما يمكن أن يضاف إلى ذلك ، هذا المزيج مما هو نفسي وما هو عقلي وما هو وجداني وما هو عقدي وما ترسب في العقل الباطن ، إنتاج الباث انعكاس لهذا المزيج بدرجات متساوية أو متفاوتة ، وما قيل عن الباث ينطبق كليا على المتلقي ، بقي مضمون الرسالة كيف يجوز القبول عقليا بأن المضمون أيضا ينطبق عليه ما ينطبق على الباث كما على المتلقي ؟ المضمون كل مضمون يحمل في طياته ذاتا جمعية في علاقة بما هو بيولوجي حسب الجينوم البشري ، إذ ثمة صفات وراثية يتقارب فيها أفراد جنس من الأجناس البشرية وتتباعد مع صفات أجناس أخرى ، وكل مضمون يحمل في طياته أيضا ذاتا جمعية منشؤها ثقافي حضاري ، كالتاريخ وهو الأساسي بالنسبة لنا نحن العرب ـ وإن كانت عبارة نحن العرب ـ لا تعتبر بديهة من البديهيات إذ يوجد من العرب على الكرة الأرضية من لا يعترف بعروبة عرب آخرين وهو مبحث سوسيو ـ اجتماعي / سوسيو / سياسي . كل مضمون يحمل في طياته أيضا ذاتا جمعية منشؤها ثقافي حضاري ، كالتاريخ وهو الأساسي بالنسبة لنا نحن العرب ، إننا العرب لا نعيش لا حاضرنا ولا مستقبلنا ، نحن العرب نعيش الماضي ، يتلبّسنا الماضي ، يتحكم الماضي في صداقاتنا وفي عداواتنا ، أثر قتل الحسين مازال فينا كأن السني أي سني هو الذي قتل الحسين ، وعلى كل شيعي أي شيعي أن يثأر لمقتل الحسين اليوم متى قدر على ذلك . وهو لعمري موقف ليس سليما عقليا فالمسافة الزمنية عشرات من القرون فالشيعي الذي يريد الثأر لمقتل الحسين عليه نبش القبور وأخذ ثأره من الرفات ، ولا هو سليم دينا فالمبدأ الذي يقوم عليه دين العرب في أغلبية هو الإسلام ، ومن تعاليم الإسلام بنصوص قرآنية : [ولا تزر وازرة وزر أخرى ـ الزمر 7] [كل نفس بما كسبت رهينة ـ المدثر 38] [تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كتسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ـ البقرة 134] وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ـ البقرة 124] ، دين العرب بالأغلبية دين واحد فتفرع إلى دينين ، دين سني / دين شيعي . وكل دين من الدينين تفرع إلى أديان / مذاهب . لا يذهبن في ظن القارئ أننا لا يفرق بين الإسلام كدين ومذهب يتفرع عن هذا الدين . التفاعل مع المذهب بين معتنقي الدين الواحد بلغ حد سفك الدماء وما زال ، إن دماء المسلمين التي سالت بسبب المذهب على مر التاريخ أكثر من دماء المسلمين التي سالت بسبب الاختلاف بين الإسلام كدين وغيره من الأديان . التاريخ يتلبس العرب علما وحضارة ، ابن تيمية وغيره يعتبرون تعاطي الكيمياء حراما وكبيرة من الكبائر قد يفوق الشرك لأنها تغير من خلق الله ، وفيها شبهة الغش والغرر بدرجات تتفاوت ، يضيق مجال أمثلة لأنها عديدة ولمن أراد التثبت فليرجع إلى مدونة ابن تيمية وهي متوفرة بشكل أكبر من كبير ورقيا والكترونيا . ولدوران الأرض وثبات الشمس ـ ولم يقل العلم إن الشمس ثابتة على الإطلاق ، وإنما هي ثابتة في تناسب مع حركة دوران الأرض . كراكب القطار ، فالقطار في حركة ولكن الراكبين في ثبات ، إنما ثباتهم ليس مطلقا ، فالراكب ينتقل من مقعد إلى آخر ، والراكب يذهب إلى دورة المياه .. وفي كتاب المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام / جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود خلط كبير وعدم دراية بما وصل إليه العلم مما لا يتنافى مع نصوص القرآن بالأساس والأحاديث بدرجة ثانية . خلط أيضا بين النظرية والقانون كنظرية النشوء والارتقاء لداروين ، فهي نظرية ولم يبلغ لعلمي من اعتبرها قانونا ، وأكبر فائدة من النظرية ككل تتبع المنطق الداخلي فيها صحت أم لم تصح ، ففيها تنمية للعقل ، هذا إلى جانب ما فيها من صواب يخدم المصلحة كتجويد السلالات في الإنتاج النباتي والحيواني أمام مشكلة تغذية أكثر من سبع مليارات من البشر يعمرون هذا الكوكب . يطول الحديث فيما يشرذم الذات الجمعية لدى العرب ، إن ما يقرّب عربيا مسلما إلى عربي غير مسلم ، أكثر مما يقرّب عربيا مسلما ذا مذهب وعربيا مسلما ذا مذهب آخر . هذا التشرذم والتشظي هو الذي غيب السيرة الشعبية من المدونة الأدبية الرسمية ، في الزمن السابق لم يلتفت إليه من أوقف حياته على الشأن الأدبي وهو ما غيب السيرة الشعبية عن برامج التعليم في زمن لاحق حتى زمننا هذا . يقول ابن خلدون متحدثا عن فن الأدب عند العرب : ... وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي أدب الكتاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي (انتهى) . وبالعودة إلى هذه الكتب لا نجد ذكرا للسيرة الشعبية ، فهذا اللون من الأدب لم يكن معترفا به رسميا من قبل القائمين على شؤون الأدب تعريفا وتنظيرا وفهرسة . يستوقف الدارس في الأدب الشعبي عموما اهتمام الأدباء والمؤرخين للأدب عنايتهم بالأزجال وهي فن من فنون الأدب الشعبي يعود أصله عند البعض إلى جزيرة العرب قبل الإسلام ويرجعه البعض إلى أن أصول الأزجال بدأ في الأندلس . وأيا كان الأمر فقد اعترف الأدباء والمؤرخون بالأزجال دون السيرة الشعبية .
بقي السؤال الذي يفرض نفسه : ما السبب أو الأسباب التي من أجلها غيب هذا الصنف الأدبي ؟
في أكثر من كتاب من كتب التراث ورد هذا الخبر : قال زياد بن أبيه يوما لأصحابه : من أنعم الناس عيشا ؟ قالوا : الأمير وأصحابه ـ قال : كلا إن لأعواد المنبر لفزعة وإن لقعقعة لجام البريد لروعة ، ولكن أنعم الناس رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له صنعة تمونه فإنا إن عرفناه أسهرنا ليله وأتعبنا نهاره . ويتفرد ابن عبد ربه بنص يقارب المعنى ويخالف اللفظ حيث فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه .
تلك هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم عندنا نحن العرب منذ القدم . حتى الربيع العربي وثورة الياسمين لم تغير شيئا من الوضع بل ربما زادته سوء ، ذلك أن العرب لا يحكمهم قانون ولا يحكمهم دستور ولا يحكمهم عقد يبرم بين الحاكم والمحكوم وإنما تحكمهم فكرة القبيلة المتغلغلة في وجدانهم وكيانهم ، تحكمهم فكرة الغنيمة ، من يتقلد منصبا يقربه إلى بيت مال ينصب همه على الكم الذي يحوزه من هذا البيت والمنافع التي يمكن أن يصيبها وتصيبه ، وهذا ليس موقفا انطباعيا , أو حسدا يتملك القلب لذوي النفوذ والمناصب ، وإنما هو حكم إجرائي امبريقي . بالعودة إلى الدساتير العربية التي كتبت بعد الاستقلال نجد السلطة بيد الشعب ، وأن الحاكم مواطن كسائر المواطنين يحكمهم قانون فيه كل الآليات للدخول والخروج حتى إذا حانت ساعة الخروج يتحور الدستور وتتغير القوانين لتأبيد حكم الحاكم ، فيصبح رئيس الجمهورية فرعون قومه يقول لهم تصريحا أو تلميحا أنه ربهم الأعلى . لهذا السبب كانت النهاية مأساوية لبورقيبة وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وصدام حسين وغيرهم كثير ، الحاكم أيضا يقصي كل من ساعده للوصول إلى حكمه إذا ما اشتم منه رائحة المنافسة حتى ولو كانت المنافسة شرعية دستوريا وقانونيا يصل حد القتل أحيانا اغتيالا وأحيانا قتلا ناعما بالقانون كما حدث لمحمود محمد طه السوداني . اتهم بالردة وبعد محاكمات وبالقانون أي والله بالقانون أعدم فجر يوم الجمعة 18 يناير 1985 وما أنجزه حاكم السودان أنه جعل الدولة الواحدة دولتين . الحاكم يحارب العقل يحارب الإبداع يحارب الديمقراطية يحارب الحرية والأنكى في كل ذلك أنه يكتم كل نفس حر ويحجب كل شعاع نور باسم الدين . هذا النوع من العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي السبب الرئيس في استبعاد السيرة الشعبية . السيرة بالأساس هي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل من يحاكي فهو كافر مرتد ، ذكرى محمد الفنانة التونسية أهدر دمها ونفذ فيها الاغتيال بسبب كلمة قالتها ، فقد شبهت هجرتها إلى مصر بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم . عدد كتب السيرة النبوية على سبيل الذكر لا الحصر بلغ 219 كتابا . ثم السيرة للصحابة وبدرجة أولى الخلفاء الراشدين ، ثم السيرة لرواة الحديث النبوي وصحة الحديث في علاقة بشرف الراوي ، ثم السيرة للأعلام والنبلاء من حكام وفقهاء ومتصوفة .. تلك السيرة كما يجب أن تكون بالعلامة المسجلة / استندار / حتى إذا حادت السيرة لتتناول السوقة والرعاع وسفلة القوم رفض الأعيان والنبلاء والفقهاء وبالدرجة الأولى الحكام هذا المسار ، فلا يعقل أن يرسخ في المخيال الشعبي أن عنترة العبد الأسود يكون بطلا ، ولا أبا زيد الهلالي ولا حمزة البهلوان ـ رغم أن الشخصية مستمدة من شخصية لها تاريخ فعلي ، حمزة بن عبد المطلب ـ ولا الزير سالم ولا علي الزيبق أما الطامة أن تكون امرأة أي امرأة بطلة لها سيرة كما ورد في سيرة ذات الهمة ..
الإبداع الشعبي خطره جسيم على السلطة أيا كانت هذه السلطة . وإذا كان الأدب الرسمي يصل إلى فئة قليلة من الناس فإن الأدب الشعبي يصل إلى فئة أكبر وخصوصا حين يكون في التجمعات الشعبية وينقله الحكواتي، الفداوي في اللهجة التونسية .
الشعب يرزح تحت نير القهر والاستبداد فيجد في السرد الشعبي متنفسا وتعويضا ، والانتقام من الحاكم المستبد في السرد الشعبي يطعن أدق مواطن شرف الفرد . في المدونة الشفهية التونسية كم كبير من هذا السرد الشعبي الذي يطعن الحاكم في مقتل . منها أن بورقيبة زار متحفا دوليا فيه صور الرؤساء وأن أي رئيس ينحرف تتحرك صورته تلقائيا ، فثارت ثائرته حين لم يجد صورته فأعلمه المشرف على المتحف أنه لا يرى صورته لأنها المروحة التي تدور بسرعة كبيرة . فيها أيضا أن بورقيبة قدم له اقتراح للإمضاء على تعيين وال فرفض لأن المترشح قصير القامة ، وحين علم المترشح سبب الرفض قال وهل بورقيبة طوله نعناعي ؟ في السرد الشعبي الشفهي أيضا أن زين العابدين بن علي ضبطه شرطي مع زوجته ليلى يتبادلان القبلات في حديقة عمومية وهمّ الشرطي بتحرير مخالفة التجاهر بما ينافي الحياء ، ولما عرف الشرطي أن المخالف رئيس للجمهورية تراجع فأصر زين العابدين على أن يقوم الشرطي بعمله فتونس بلاد القانون والمؤسسات ، سجل الشرطي غرامة بمئة دينار للزين ومئتي دينار لليلى ، وحين احتج الرئيس أجابه الشرطي أنت ليست لك سوابق وهي لها ... وبعض النكت مغرقة في الإباحية وفيها حتى الرمي بالمثلية ، (أعرض عن ذكرها) . وبذلك يتبين خطر السرد الشعبي عموما والسير الشعبية خصوصا على السلطة بكل تفرعاتها ، ولعل قصة الجارية تودد في ألف ليلة وليلة أكبر دليل على ذلك . فهي تعرف نفسها : يا سيدي إني أعرف النحو والشعر والفقه والتفسير واللغة وأعرف فن الموسيقى وعلم الفرائض والحساب والقسمة والمساحة وأساطير الأولين ، وأعرف القرآن العظيم وقد قرأته بالسبع والعشر والأربع عشرة وأعرف عدد سوره وآياته وأحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وأعشاره وسجداته وعدد أحرفه وأعرف ما فيه من الناسخ والمنسوخ والمدنية والمكية ، وأسباب التنزيل وأعرف الحديث الشريف دراية ورواية المسند منه والمرسل ونظرت في علوم الرياضة والهندسة والفلسفة وعلم الحكمة والمنطق والمعاني والبيان وحفظت كثيرا من العلم وتعلقت بالشعر وضربت العود ، وعرفت مواضع النغم فيه ومواقع حركات أوتاره فإن غنيت ورقصت فتنت وإن تزينت وتطيبت قتلت وبالجملة فإني وصلت إلى شيء لم يعرفه إلا الراسخون في العلم . (انتهى) . قيل إن سبب حرق ألف ليلة وليلة ما فيه من حديث عن الجنس والإباحيات ، والأمر ليس على تلك الشاكلة فالمكتبة العربية قديما وحديثا فيها العديد من كتب الجنس والإباحية بعض منها كتبه فقيه أو شيخ أو حتى مفسر للقرآن ، ولم يحرقها أحد . إنما السبب الحقيقي أن ألف ليلة ولية أولا من الأدب الشعبي وثانيا لأنه ضرب السلطة في مقتل ، السلطة الأولى التي ضربها هي السلطة الذكورية في مجتمع ذكوري بامتياز ولا خلاف في ذلك ، ففي قصة تودد بالذات من ألف ليلة وليلة تبرز امرأة وليس للمرأة إلا أن تكون في الخدر ، لا تتعرى للعموم إلا في سوق النخاسة ليقلبها المشترون كما يقلبون بقرة أو ناقة ، حتى إذا صارت ملك اليمين أقفلت دونها الأبواب في الحريم . لم أجد فيما كتبه الأقدمون والمحدثون نصا يثأر للمرأة من ذكورية الرجل العربي مثل هذا النص لقصة الجارية تودد في ألف ليلة وليلة . فقد هزمت فقيها عالما محدثا ، وانتصرت على مقري ، وطبيب ماهر ، ومنجم حاسب كاتب ، وفيلسوف ، وإبراهيم بن سيار النظام وهو شخصية لها وجود حقيقي وهو الوحيد الذي ذكر بالاسم في القصة ، وهزمت معلم شطرنج ، ولاعب نرد ، وأرباب آلات الطرب . لم يتوقف الأمر حد الانتصار بل تجاوزه إلى التعرية . إذ كل من ينهزم ينزع ثيابه لتأخذه تودد . والتعرية في حد ذاتها لها دلالات متعددة .
أما القول بأن مؤلف السيرة الشعبية أو كتاب ألف ليلة وليلة ذاكرة جمعية فهو أمر لا يقبله عقل ولا نقل ، صحيح محتوى السيرة الشعبية والأثر السردي المكتوب عموما يمكن أن تشترك فيه الذاكرة الجمعية ، لكن القلم الذي يكتب لا يمكن أن تمسكه إلا يد واحدة ، وبناء النص السردي الشعبي معجما ولغة وبلاغة ومعارف في نهاية الأمر لشخص واحد تكفل بمهمة التدوين ، الإشكالية أن هذا الشخص الذي كتب بيده كان مغيبا في النصوص السردية الشعبية . يعود هذا الغياب وليس التغييب لأحد سببين ، أو لكليهما ، السبب الأول ربما كان المدون ذا مكانة علمية مرموقة وهو كذلك بالنظر في قصة الجارية تودد ، إذ تبرز سعة اطلاعه وعمق معارفه في أدق الجزئيات ، وتبرز المكانة العلمية في تدوين السير الشعبية إلى إلمام المدون بالتاريخ في جزئيات قد لا يتفطن إليها المؤرخ الخبير ، وربما يكون إلى جانب المكانة العلمية مكانة سياسية أو قضائية أو نحوها ، فصاحب الفرج بعد الشدة ونشوار المحاضرة قاض ، ولكنه رغم تضمن الكتابين إلى نصوص سردية بعض شخوصها من الشعب ، فهو لم يحد عن الأدب الستندار ، فثمة الراوي والمتن ، وجاءت النصوص السردية في شكل أخبار بمفهوم الخبر في الأدب . وممن كتب في السرد بشخصيات من الشعب أيضا ابن الجوزي وهو فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم . فقد سار على منهج الرواية وإن كان بدرجة أقل نحو : رُوي / حدثني ... السبب الثاني أن أول من ألف كتابا في السرد سردا عبد الله بن المقفع في كتابه كليلة ودمنة ، وإن كان قد أشار بأنه ترجمه وله قصة على القصة إلا أن الظن عندي أن ابن المقفع قد وضعه ، وليس لدي دليل علمي على ذلك إنما هو تخمين منشؤه الروح العربية الإسلامية في الكتاب ، وإذا كان الكتاب قد حوى ما ليس عربي المنشأ فمرد ذلك ثقافة ابن المقفع ، مهما يكن من أمر فقد كان مصير ابن المقفع صاحب أول كتاب في السرد الإعدام بطريقة بشعة جدا . وربما هذا المصير الذي ناله ابن المقفع جعل الأديب العربي يتشاءم من أن ينسب لنفسه نصا سرديا لا يتناول شخصيات من علية القوم ولمن يناقض هذا الموقف متعللا بكتاب البخلاء للجاحظ يُردُّ عليه بأن الشخصيات في كتاب الجاحظ تناولت شخصيات تتصف بصفة دنيئة ليست من شيم العرب أي صفة البخل وبالتالي لا خوف منها . أما السبب الرئيس هو السلطة التي يفتكها الشعب بنصه الشعبي والسلط ثلاث ، سلطة جنسية وسلطة دينية وسلطة سياسية . تملك نص السيرة السردية السلطة الجنسية بمفهوميها الجنس / الجنس ، والجنس / الجنسانية ، وتملك السلطة الدينية بالإدلاء بدلوه في الشأن الديني متنا أو نقدا للمؤسسة الدينية بكل تفرعاتها ، وتجرأ على السلطة السياسية بافتكاك البطولة والزعامة من الحاكم الذي هو الخليفة أو الوالي وغيرهما لتصبح البطولة لعلي الزيبق مثلا وهذا مالا يقبله الحاكم العربي ، فلم يقدر علي الانتقام من الكاتب الفعلي الذي نجح في التستر فكان انتقامه بالقتل لقارئ السيرة الشعبية ، لقد أخبرتني الدكتورة فوزية الصفار الزاوق وهي الدكتورة التونسية في اللغة والآداب العربية المختصة في السيرة الشعبية أن من كان يقرأ السيرة ويتوغل في قراءتها سرعان ما يموت ، ولم يعرف سبب لذلك حتى تم تحليل ورق كتب السيرة فوُجد أن الورق ممزوج بالسم والقارئ يبل إصبعه بلعابه للمرور إلى الصفحة الموالية فينال شيئا من هذا السم من حيث لا يشعر ، بقراءة بعض الصفحات لا يصيبه شيء وبقراءة عدد من صفحات فيها كم من السم قاتلا يقضي القارئ ، لذلك بقيت السيرة الشعبية زمنا بعيدا عن التناول والدراسة والاعتراف بها في المدونة الأدبية العربية .
عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي