عيونُها التي بدت مثل خرزات سود شابها الضباب وجلدها الصدفي الذي فقد لمعانه و أفواهُها المفتوحةُ وكأنها تستغيث جعلتهُ يشعرُ بأنه قد فعل شيئا ولم يذهب سعيه سُدىً،
مرّ بخيالهِ وجهُ أمهِ الباسر ،هدأ روعه عندما نظرَ إلى السمكات فشعر بامتنانٍ للرجل الغريب وحث خطاه نحو بيوت الطين التي تلوح من بعيد،وضع السمكات على الأرض، لمح التماعةَ فرحٍ في عينيها وربما شيئاً من الفخر أيضا ، راحت تجهزُ طحينَها في وعاء العجين بهمةٍ أشعرته بسعادةٍ غامرةٍ ثم عادتْ وقلّبتْ السمكات و لم يزلن مسلوكاتٍ في الحبل يتدثرنَ بسكينة الموت.
- السمكات صيد البارحة !
تبخرت مسحة الفخر من وجهها كما لاحظ ذلك .
- من أين لك؟ ...هل..؟
- هذا صيدهم ، صيد الليل، لقفتْ شباكهم سمكتي الكبيرة فأعطوني السمكات الثلاث الصغيرات بدلا منها.، ظنوا أن ذلك كان عادلاً...وما كانَ بيدي أن أفعلَ شيئاً...
- في مثل هذه الأحوال كان أبوك يقتلُ نفسه ولا يتركها تصل إلى شِباك الآخرين.
- بذلتُ ما في وسعي يا أمي ، النهرُ كان عميقا والأفاعي كثيرة
لمعت في رأسها ذكرى كانت هاجعة ، تعلمُ أن لكلِّ امرئٍ نصيبه ...، تداعت الذاكرة مثل جدارٍعتيق راحت تنهالُ أحجارُهُ على دماغها المتعب ، و أنتِ، ألم تستبدلي صيدكِ ورضيتِ بالبديل؟
- عندما انعطف النهر نحو القرية، من هناك بثثتُ كريات الزهر ورحت أنتظر ... مرت أرباع الساعات وأنصافها طويلةً.. أنتظر زعنفةً تشق وجه الماء..الإنتظارُ ممضٌّ يا أمي
تَذكّرَتْ كيف كانت تطارد صيدَها بصبر، الإنتظار كان طويلا أيضا ، تنصُبُ الأحابيلَ ، تعتني بالجدائلِ ، تتمايل في الذهابِ والإياب ِ نحو النهر وتنتظر .. وكان عليها أن تقنع نفسها بأن الذي حدث كان وما يزال يحدث دائما ، تحتاج النساء في كل مكان لكي يكنّ نساءً فاتنات أن يشعرن باهتزاز أردافهن ، نساءُ القريةِ كلهنّ جميلتهنّ وقبيحتهنّ يسلكنَ الطريق إلى النهر وعلى رؤوسهن الوقاء والبرميل ،الرجال عندما يعودون يريدون ماءً صافياً والقُلّةَ تحت الناقوط لهذا ولأسباب أخرى خرجت إلى شريعة النهر، عيناها تنظران إلى ردفي (ملكية) اللتين تشبهان المطحنة ، تحاول التقاط الحركة وافتعالها فراحت تطرق الأرض بقدميها الحافيتين على أنغام تلك الهزات الموزونة ، تمنت أن يبتعد النهر قليلا ، وعندما أحست بأنها تقترب من براعة ملكية شعرت بالرضا عن نفسها فما حصل اليوم يدحض ما استشعرته الليلة البارحة قبل أن يمضي إلى سبيله،كادت أن تلمسَ قلبَه ، تبعت طريقَهُ أينما يمّمَ ... قذفت عليه أريجَ عطرِها بين الحين والآخر ، حتى إذا ظنت أن الخيطَ يراود سَمِ الخِياط ... اصطادته شباكُ الأخرى و أحابيلُها...كل شيءٍ قسمةٌ ونصيبٌ وكان نصيبها المرحوم ....
- أمي...أمي.....بعد الإنتظار لمحته يسبح بين الماء والماء .. لمحت ظهره الأسود ، كان شبوطا لم أر له مثيلا.
- لماذا يسهل خداع السمك ...ألا يتذكر حينَ يُغريه الطعم؟
يومٌ عسيرٌ ... ذلك اليوم الذي وقفت في ظهيرته سيارة عليها صندوقٌ ملفوفٌ بعلم،... الحرب أخذته ولم يعد .. توطنت الحرب من قبل بناء بيت جديد ... بدتْ كالخريف يغيب ويظهر وفي كل غياب تنبت روح ... وفي كل ظهور تأكل الحرب ما نضج .... الحقل مليء بالشجيرات الخضر بيدَ أن الصيف يكفل يباسها ، في كلِّ شتاءٍ تحترق حطبا ...، مشقاف السمك معلقٌ في حجرة الطين.. لقد رأى أباه ذات يوم كيف يلفّ قبضتهُ على مقبض المشقاف ، رآه أيضا كيف يصنع العجينة وكيف يدس فيها مسحوق الزهر فكبرَ..ولما قالتْ له أمهُ ذات يوم : أنت الآن رجل البيت كبر أيضا حتى شعر أنه يستطيع أن يلفَّ قبضته على المشقاف بقوة،ليس بينه وبين أن يكون رجلا مثلَ أبيه غير تلك المسافة التي طرقها قبلا معه معترفاً أنها كانت بعيدة
نهر (الجادل).... يتلوى من (الصدور) إلى (الذنايب) ..من حد هذه الصفصافة كان أبوه يلقي كرات العجين المخلوط بالزهر ..تبع خطوات أبيه وكأنه معه:
-لاتُلقِها في وسط النهر .. اجعلها أقرب إلى الجرف ولا تمل الإنتظار ، نحن دائما ننتظرُ شيئاً.. ننتظر الصبح لنسعى ... ننتظر الليل لننام ... ننتظر ... وننتظر...
- أنتظر ....أنتظر... ما الذي أنتظرهُ الآن وبين الفينة والأخرى يمد بصره على وجه الماء حتى شعر بأن قلبه يكاد يقفز من صدره إلى الماء حين رآه ....
هذا شبوط كبير ... قوي لم يأكل كثيرا من كريات الزهر ... لم يفقد صوابه بعد..
بين الماء والماء.... يرى الصبي ظهره الأسود ... لكنه ما زال لا يُرام.. يختفي بين عشبة ( قراط الخيل)* المتدليةُ أطرافُها فوق الماء .... ينتظر طويلا ... يرى مويجة تعكر صفو الماء ... يتبعها ... أبوه كان يتركه يشق الماء بزعنفة ظهره ، يمهله كثيرا ، ينفق كثيرا من الوقت .. يُسايرهُ منحدرا مع مجرى الماء ...وكان المشقاف دائما في قبضته
هاهي ذؤابات أكواخ قرية الجادل تظهر من بعيد .... لابد من الحصول عليه
على بعد خمسين أو ستين خطوة ... فاجأته عوارض شبك يقطع النهر ....
رأى بعينيه كيف يتجه الشبوط إلى الشبك المنصوب ...يستسلم إلى عيون الشبكة...وكأنه يستغيث بها مما ألمّ به...
الرجال واقفون قرب الأكواخ .... ينظرون ..
جلس قبالة الشبك وقد انتفخت عيناه حزنا، طفرت دمعة حارّة على خده ، تذكر أمه والطفلين .. شعر أن الشبك يسخر منه ومن الرجولة التي تحدثت عليها أمه، راح يراقب الشباك وهي تهتز لكنه لا يستطيع فعل شيءٍ
الشيخ المسن يراقب الصبي ...
- تعال يا ولد ، خذ تلك السمكات واذهب
- ..... لكن يا عم!؟
- لابأس هنّ نصيبك ..
يمسك الخيط الذي سلكت فيه... يستدير راجعا ، وبين خطوة وأخرى .. يلتفت صوب النهر
- لا تلتفت يا بني ، هذا هو النهر منذ الأزل ، كريمٌ ولكنه يشحّ أحيانا.. لم يكن رزقك ..... إقنع بما حصلت عليه واذهب
كلما نظر إلى المشقاف ظن أن قبضته الصغيرة تستطيع احتواء المقبض لكنه لم يجرب بعد
ربما في المرة القادمة.سأحصل عليه يا أمي....
- قالت في سرّها : هل من مرةٍ قادمة ...
عبد الفتاح المطلبي
مرّ بخيالهِ وجهُ أمهِ الباسر ،هدأ روعه عندما نظرَ إلى السمكات فشعر بامتنانٍ للرجل الغريب وحث خطاه نحو بيوت الطين التي تلوح من بعيد،وضع السمكات على الأرض، لمح التماعةَ فرحٍ في عينيها وربما شيئاً من الفخر أيضا ، راحت تجهزُ طحينَها في وعاء العجين بهمةٍ أشعرته بسعادةٍ غامرةٍ ثم عادتْ وقلّبتْ السمكات و لم يزلن مسلوكاتٍ في الحبل يتدثرنَ بسكينة الموت.
- السمكات صيد البارحة !
تبخرت مسحة الفخر من وجهها كما لاحظ ذلك .
- من أين لك؟ ...هل..؟
- هذا صيدهم ، صيد الليل، لقفتْ شباكهم سمكتي الكبيرة فأعطوني السمكات الثلاث الصغيرات بدلا منها.، ظنوا أن ذلك كان عادلاً...وما كانَ بيدي أن أفعلَ شيئاً...
- في مثل هذه الأحوال كان أبوك يقتلُ نفسه ولا يتركها تصل إلى شِباك الآخرين.
- بذلتُ ما في وسعي يا أمي ، النهرُ كان عميقا والأفاعي كثيرة
لمعت في رأسها ذكرى كانت هاجعة ، تعلمُ أن لكلِّ امرئٍ نصيبه ...، تداعت الذاكرة مثل جدارٍعتيق راحت تنهالُ أحجارُهُ على دماغها المتعب ، و أنتِ، ألم تستبدلي صيدكِ ورضيتِ بالبديل؟
- عندما انعطف النهر نحو القرية، من هناك بثثتُ كريات الزهر ورحت أنتظر ... مرت أرباع الساعات وأنصافها طويلةً.. أنتظر زعنفةً تشق وجه الماء..الإنتظارُ ممضٌّ يا أمي
تَذكّرَتْ كيف كانت تطارد صيدَها بصبر، الإنتظار كان طويلا أيضا ، تنصُبُ الأحابيلَ ، تعتني بالجدائلِ ، تتمايل في الذهابِ والإياب ِ نحو النهر وتنتظر .. وكان عليها أن تقنع نفسها بأن الذي حدث كان وما يزال يحدث دائما ، تحتاج النساء في كل مكان لكي يكنّ نساءً فاتنات أن يشعرن باهتزاز أردافهن ، نساءُ القريةِ كلهنّ جميلتهنّ وقبيحتهنّ يسلكنَ الطريق إلى النهر وعلى رؤوسهن الوقاء والبرميل ،الرجال عندما يعودون يريدون ماءً صافياً والقُلّةَ تحت الناقوط لهذا ولأسباب أخرى خرجت إلى شريعة النهر، عيناها تنظران إلى ردفي (ملكية) اللتين تشبهان المطحنة ، تحاول التقاط الحركة وافتعالها فراحت تطرق الأرض بقدميها الحافيتين على أنغام تلك الهزات الموزونة ، تمنت أن يبتعد النهر قليلا ، وعندما أحست بأنها تقترب من براعة ملكية شعرت بالرضا عن نفسها فما حصل اليوم يدحض ما استشعرته الليلة البارحة قبل أن يمضي إلى سبيله،كادت أن تلمسَ قلبَه ، تبعت طريقَهُ أينما يمّمَ ... قذفت عليه أريجَ عطرِها بين الحين والآخر ، حتى إذا ظنت أن الخيطَ يراود سَمِ الخِياط ... اصطادته شباكُ الأخرى و أحابيلُها...كل شيءٍ قسمةٌ ونصيبٌ وكان نصيبها المرحوم ....
- أمي...أمي.....بعد الإنتظار لمحته يسبح بين الماء والماء .. لمحت ظهره الأسود ، كان شبوطا لم أر له مثيلا.
- لماذا يسهل خداع السمك ...ألا يتذكر حينَ يُغريه الطعم؟
يومٌ عسيرٌ ... ذلك اليوم الذي وقفت في ظهيرته سيارة عليها صندوقٌ ملفوفٌ بعلم،... الحرب أخذته ولم يعد .. توطنت الحرب من قبل بناء بيت جديد ... بدتْ كالخريف يغيب ويظهر وفي كل غياب تنبت روح ... وفي كل ظهور تأكل الحرب ما نضج .... الحقل مليء بالشجيرات الخضر بيدَ أن الصيف يكفل يباسها ، في كلِّ شتاءٍ تحترق حطبا ...، مشقاف السمك معلقٌ في حجرة الطين.. لقد رأى أباه ذات يوم كيف يلفّ قبضتهُ على مقبض المشقاف ، رآه أيضا كيف يصنع العجينة وكيف يدس فيها مسحوق الزهر فكبرَ..ولما قالتْ له أمهُ ذات يوم : أنت الآن رجل البيت كبر أيضا حتى شعر أنه يستطيع أن يلفَّ قبضته على المشقاف بقوة،ليس بينه وبين أن يكون رجلا مثلَ أبيه غير تلك المسافة التي طرقها قبلا معه معترفاً أنها كانت بعيدة
نهر (الجادل).... يتلوى من (الصدور) إلى (الذنايب) ..من حد هذه الصفصافة كان أبوه يلقي كرات العجين المخلوط بالزهر ..تبع خطوات أبيه وكأنه معه:
-لاتُلقِها في وسط النهر .. اجعلها أقرب إلى الجرف ولا تمل الإنتظار ، نحن دائما ننتظرُ شيئاً.. ننتظر الصبح لنسعى ... ننتظر الليل لننام ... ننتظر ... وننتظر...
- أنتظر ....أنتظر... ما الذي أنتظرهُ الآن وبين الفينة والأخرى يمد بصره على وجه الماء حتى شعر بأن قلبه يكاد يقفز من صدره إلى الماء حين رآه ....
هذا شبوط كبير ... قوي لم يأكل كثيرا من كريات الزهر ... لم يفقد صوابه بعد..
بين الماء والماء.... يرى الصبي ظهره الأسود ... لكنه ما زال لا يُرام.. يختفي بين عشبة ( قراط الخيل)* المتدليةُ أطرافُها فوق الماء .... ينتظر طويلا ... يرى مويجة تعكر صفو الماء ... يتبعها ... أبوه كان يتركه يشق الماء بزعنفة ظهره ، يمهله كثيرا ، ينفق كثيرا من الوقت .. يُسايرهُ منحدرا مع مجرى الماء ...وكان المشقاف دائما في قبضته
هاهي ذؤابات أكواخ قرية الجادل تظهر من بعيد .... لابد من الحصول عليه
على بعد خمسين أو ستين خطوة ... فاجأته عوارض شبك يقطع النهر ....
رأى بعينيه كيف يتجه الشبوط إلى الشبك المنصوب ...يستسلم إلى عيون الشبكة...وكأنه يستغيث بها مما ألمّ به...
الرجال واقفون قرب الأكواخ .... ينظرون ..
جلس قبالة الشبك وقد انتفخت عيناه حزنا، طفرت دمعة حارّة على خده ، تذكر أمه والطفلين .. شعر أن الشبك يسخر منه ومن الرجولة التي تحدثت عليها أمه، راح يراقب الشباك وهي تهتز لكنه لا يستطيع فعل شيءٍ
الشيخ المسن يراقب الصبي ...
- تعال يا ولد ، خذ تلك السمكات واذهب
- ..... لكن يا عم!؟
- لابأس هنّ نصيبك ..
يمسك الخيط الذي سلكت فيه... يستدير راجعا ، وبين خطوة وأخرى .. يلتفت صوب النهر
- لا تلتفت يا بني ، هذا هو النهر منذ الأزل ، كريمٌ ولكنه يشحّ أحيانا.. لم يكن رزقك ..... إقنع بما حصلت عليه واذهب
كلما نظر إلى المشقاف ظن أن قبضته الصغيرة تستطيع احتواء المقبض لكنه لم يجرب بعد
ربما في المرة القادمة.سأحصل عليه يا أمي....
- قالت في سرّها : هل من مرةٍ قادمة ...
عبد الفتاح المطلبي