أقصد بمورفولوجية القصة القصيرة حياة أشكال هذا الجنس الأدبي، في تاريخية هذه الأشكال وأنواعها ووظائفها. المبدأ الجامع لكل أنواع الكتابة القصصية، هو اكتشاف ما هو ضروري، ولا شيء آخر.
وفي كل أنواع – أشكال القصة القصيرة يتحقق النجاح بالتوافق مع هذا الضروري، على أن هذا الضروري يتغير شكله كما تتغير دلالته مع كل كتابة قصصية، تلك التي نَسِمُها بأنها قديمة، أو تلك التي ننحو إلى نعتها بالجديدة. إن مورفولوجية القصة تقوم على مبدأ جمالي يتجلى في معنى الضرورة ذاته، الضرورة التي تؤكد على الحرية باستمرار، فلا ضرورة بدون حرية، وإذا كانت الحرية هي القيمة الوحيدة التي تسعف على الابتكار، فإن الكاتب الذي يتمتع بالحرية، يجعل قارئه يتمتع بهذه الحرية لا في تلقي القصة القصيرة – من أي نوع كانت – وحسب، بل يتمتع بالحرية في ذوقه، هذه الحرية الذوقية هي التي تمكن من استيعاب كل أنواع القصص المنضوية تحت إطار جامع أساسه ومبدأه الضرورة.
إن القصة القصيرة تنزع دوما نحو اكتمال جماليتها، ويتبدى هذا بوضوح في مورفولوجيتها، حيث النزوع المستمر إلى الهارمونيا والتصميم المتناسق. وليست الدوافع الكامنة في الأحداث أو الأفعال أو المواقف أو الرؤى، إلا دوافع أولية لإحداث التغيير ولإبرازه، وكل تغيير يستتبعه بناء جمالي جديد، بمعنى مورفولوجية مغايرة لسابقاتها وللاحقتها. في هذا الجهد الدؤوب للإبداعات القصصية ولإبداع الجمالية المنبثقة عنها يتحول (الشكل)، فينداح عن ذلك تحول في مورفولوجية القصة القصيرة.
ارتبط اصطلاح المورفولوجية لدى صاحبه رائد التحليل البنيوي للسرد فلاديمير بروب بالوظائف، لقد كان مسعاه الدؤوب الشاق المُجْهِد هو تحديد حفنة من الوظائف التي تكتنف البنى العامة للمحكي الخرافي الشعبي، حتى وهو يصل إلى هذا التحديد بطريقة رياضية تكاد تكون حتمية، ظلت المحكيات تتدفق ومعها تتدفق وظائف جديدة، إلا أن جهده النقدي المبذول بعناية لاقى توفيقا كبيرا وجعل مورفولوجية الخرافات (الحكايات) تبدو دقيقة وشفيفة مترائية في أشكال لا تتجاوزها. إن مورفولوجية القصة القصيرة قامت أساسا على الحبكة، وبالأخص نوع هذه الحبكة. ولقد تغيرت القصة القصيرة من شكل إلى شكل بنوع حضور الحبكة أو غيابها. ومع الحبكة يمكن إيراد دوال سردية أخرى تجعل هذه الحبكة تتطاول أو تتضاءل أو تختفي، ومعها يعلو صوت البطل أو يتلاشى أو ينمحي.
«في مجال الفن العظيم، الشكل- أو، كما أدعوه في هذا المقام، الرغبة في البرهان بدلا من الرغبة في التحليل – هو الذي يسود في نهاية الأمر، فالشكل هو الذي يسمح للمرء بإنهاء العمل» هذا ما تقوله سوزان سونتاغ، وهي تتحدث عن سينما رائد الموجة الجديدة في فرنسا، جان لوك غودار. إن الرأي ذاته ينسحب على القصة القصيرة في تحولاتها (القليلة على أي حال) فكل التحولات المورفولوجية التي مرت بها القصة القصيرة كامنة في الشكل الفني، على أن يفهم من الشكل الفني كلية القصة القصيرة-كل مكوناتها الفنية- بدرجات: درجات هيمنة هذا المكون أو ذاك، وينبغي أن يفهم من الهيمنة ما يسميه رومان ياكبسون، الشكلاني الروسي، «المهيمنة».
فأنواع القصة القصيرة خاضعة لـ(المهيمنة) التي تقود خطاها الجمالية، الخطى الفنية القائمة على رغبة في إتقان الكتابة، وفي الوصول إلى الذروة في إحكام صنعتها. والواقع أن مورفولوجية القصة القصيرة، لمما يثير الحدوس النقدية، بل يجعل هذه الحدوس تتقصى كل ما بإمكانه أن يكثر الكشوفات الجمالية للإبداع القصصي الهائل المنحدر إلينا من القرن التاسع عشر، والذي يرينا أن الشكل الفني القصصي قد تغير وتجدد، وهو في تغيره وتغايره وفي تجدده وتجديده يلازم مورفولوجية محددة.
مورفولوجيات القصة القصيرة ثلاث: وإذا تعمقنا فهي سبع، ويمكن أن تصبح أي رقم نشاء بحسب كمية ونوعية المتن القصصي المدروس. لكن مهلا، إن النقد القصصي هو تصنيف قصصي، والتصنيف ضرورة تأملية أكثر منه ضرورة جمالية، إلا أن مبدعي القصة القصيرة يتطلعون دوما إلى الجديد، رغم معرفتهم العميقة بكثرة الاستعصاءات الإبداعية القصصية. فما هي هذه الأنواع التي تحدد مورفولوجية القصة القصيرة في عمرها الفني القصير منذ النشأة إلى الآن (العمر القصير مقارنة مع العمر الطويل للرواية مثلا). كل حديث عن مورفولوجية القصة القصيرة يضمر في أعطافه حديثا عن أبعاد ثلاثة تقوم عليها هذه المورفولوجية وهي:
- أولا: تاريخ الأشكال (في جنس القصة القصيرة).
- ثانيا: أنواع الأشكال ( في هذا الجنس الأدبي).
- ثالثا: وظائف الأشكال التي تحدد الاشتغال الجمالي لكل أنواع القصة القصيرة.
تاريخ أشكال القصة القصيرة، بدأ في البزوغ مع تلك النزعة الجادة العميقة في تمييز الحدود الجمالية للقصة القصيرة، ومنها تعدد أسماء هذا الجنس الأدبي: الحكاية، الخرافة، المحكي، السرد، النوفيلا، القصة الطويلة، القصة، القصة القصيرة. وإنه لمن اللافت جماليا، أن يحدث الإجماع على جعل حجم القصة القصيرة معيارا محددا لجماليتها الأجناسية، وإن كان الخلاف قد ظل قائما (ولا يزال) حول كمية هذا الحجم: أقل من خمسين صفحة في بدء نشوئها، وألا يزيد على ثلاث صفحات في آخر صيحات هذا الحجم. وإن ميل إدغار ألان بو إلى جعل المعيار الزمني، فاصلا محددا لتجنيس القصة القصيرة قد خفف من غلواء التعداد والإكثار من تعداد محددات النوع وشكله. بيد أن خلافا آخر، برز إلى الوجود ما أن حدثت الثورة على البناء الكلاسي الثلاثي (الأرسطي) الذي ينسب في العادة إلى موباسان، فيقال القصة على منوال موباسان، أو القصة الموباسانية التي تنهض جماليتها على أعمدة ثلاثة كبرى: البداية ، الوسط (الأزمة)، النهاية (الذروة الجمالية) التي تقدم الحل، الملائم جماليا للبناء الفني.
اعتبارا للأحداث وصيرورتها فإن الثورة على هذا البناء الهرمي الذي تم الاعتقاد طويلا بأنه أدى إلى اكتمال القصة القصيرة، قد جعل يقينيات هذا الجنس الأدبي تنهار بانهيار هذا الهرم الثلاثي، وبروز أشكال أخرى من داخل جنس القصة القصيرة بانبثاق أنواع أخرى بديلة جزئيا( لا كليا) لأن الصيرورة الجمالية تنطوي في أعطافها على المحافظة بقدر ما تتقدم إلى البدائل الجديدة الملائمة للصيرورة الجمالية التي لا محيد من وجودها، فلا قصة بدون صيرورة – مثلما لا حياة إنسانية بدون تحولات في هذه الحياة. إن (حياة الأشكال) كما يقول فوسيون، الباحث الفرنسي المعروف، في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته، هي من المبادئ الكبرى لصيرورة الأشكال منذ بداية الأزل وإلى نهاية الأبد؟
إذا تمت كتابة القصة وفق البناء المعماري الفني الهرمي الثلاثي (بداية- وسط – نهاية) وكانت البداية مهادا مفعما بالتشويق، وكان الوسط ذروة الأزمة الدرامية (درامية صراع الأحداث) وكانت النهاية حلا سعيدا أو مأساويا للتشويق (الحبكة)، فإن هذه القصة هي التي تعتبر كلاسيكية: هذه هي القصة التي كتبها إدغار ألان بو وغوغول وتشيخوف، وبالأخص موباسان، هي القصة التي أصل أسسها الرواد الكبار، وأصبحت دارجة بين الأدباء والنقاد وجمهور متلق لهذا الفن الجميل، في مستهل انتشاره عالميا، هي القصة القصيرة كما تم التأصيل لها وتقعيدها وتسميتها والاتفاق على التسمية كما على المبادئ الجمالية. إن نوع الشكل الأبرز الذي تجاوز القصة الموباسانية هو ذاك الشكل الذي رفض الحبكة المنعقدة حول الحدث، وجعلها، بديلا عن ذلك، تنعقد على إيقاع الوصف الدقيق للأشياء وهي تتراءى في مرايا الوجود، أو تنعقد على الشخص، وهو يجهد نفسه للتخفف من أعباء الحياة وتعقدها وتشابكها وثقل الزمن الذي تجري فيه. وإذا كان الزمن هو نهر النسيان كما يقول الروائي الألماني توماس مان، فإن نسيان الإنسان المعاصر أشبه بمغامرة جديدة لابتكار حياة غير موجودة أو حياة يعتقد أن بالإمكان إيجادها افتراضا بأنها من أجمل الحيوات الممكنة.
لعل أوفى ثورة حققتها أشكال القصة القصيرة هي ذاك النوع الذي ارتد على عقيدة السارد العليم بكل شيء وأدخل في القصة (فلسفة الشك) بإيثار السارد المساوي المعرفة، أو الذي يتشارك في المعرفة نفسها أو الأقل معرفة إن مع شخوص القصة القصيرة أو مع متلقيها النموذجيين.
إن أنواع الأشكال في جنس القصة القصيرة متحدر من أشكال الحياة، وبما أن الحياة لا تكف عن التحول، فإنه من الطبيعي أن تتحول أنواع أشكال القصة ارتهانا إلى أنواع تحولات الحياة ذاتها. إن الحياة التي نحياها في بدايات الألفية الثالثة، تنطوي ولا شك على جديد ما، هذا الجديد هو الذي تحاول أنواع الأشكال إظهاره، وبإظهاره تنجلي جمالية القصة القصيرة في إهاب جديد.
* القدس العربي
وفي كل أنواع – أشكال القصة القصيرة يتحقق النجاح بالتوافق مع هذا الضروري، على أن هذا الضروري يتغير شكله كما تتغير دلالته مع كل كتابة قصصية، تلك التي نَسِمُها بأنها قديمة، أو تلك التي ننحو إلى نعتها بالجديدة. إن مورفولوجية القصة تقوم على مبدأ جمالي يتجلى في معنى الضرورة ذاته، الضرورة التي تؤكد على الحرية باستمرار، فلا ضرورة بدون حرية، وإذا كانت الحرية هي القيمة الوحيدة التي تسعف على الابتكار، فإن الكاتب الذي يتمتع بالحرية، يجعل قارئه يتمتع بهذه الحرية لا في تلقي القصة القصيرة – من أي نوع كانت – وحسب، بل يتمتع بالحرية في ذوقه، هذه الحرية الذوقية هي التي تمكن من استيعاب كل أنواع القصص المنضوية تحت إطار جامع أساسه ومبدأه الضرورة.
إن القصة القصيرة تنزع دوما نحو اكتمال جماليتها، ويتبدى هذا بوضوح في مورفولوجيتها، حيث النزوع المستمر إلى الهارمونيا والتصميم المتناسق. وليست الدوافع الكامنة في الأحداث أو الأفعال أو المواقف أو الرؤى، إلا دوافع أولية لإحداث التغيير ولإبرازه، وكل تغيير يستتبعه بناء جمالي جديد، بمعنى مورفولوجية مغايرة لسابقاتها وللاحقتها. في هذا الجهد الدؤوب للإبداعات القصصية ولإبداع الجمالية المنبثقة عنها يتحول (الشكل)، فينداح عن ذلك تحول في مورفولوجية القصة القصيرة.
ارتبط اصطلاح المورفولوجية لدى صاحبه رائد التحليل البنيوي للسرد فلاديمير بروب بالوظائف، لقد كان مسعاه الدؤوب الشاق المُجْهِد هو تحديد حفنة من الوظائف التي تكتنف البنى العامة للمحكي الخرافي الشعبي، حتى وهو يصل إلى هذا التحديد بطريقة رياضية تكاد تكون حتمية، ظلت المحكيات تتدفق ومعها تتدفق وظائف جديدة، إلا أن جهده النقدي المبذول بعناية لاقى توفيقا كبيرا وجعل مورفولوجية الخرافات (الحكايات) تبدو دقيقة وشفيفة مترائية في أشكال لا تتجاوزها. إن مورفولوجية القصة القصيرة قامت أساسا على الحبكة، وبالأخص نوع هذه الحبكة. ولقد تغيرت القصة القصيرة من شكل إلى شكل بنوع حضور الحبكة أو غيابها. ومع الحبكة يمكن إيراد دوال سردية أخرى تجعل هذه الحبكة تتطاول أو تتضاءل أو تختفي، ومعها يعلو صوت البطل أو يتلاشى أو ينمحي.
«في مجال الفن العظيم، الشكل- أو، كما أدعوه في هذا المقام، الرغبة في البرهان بدلا من الرغبة في التحليل – هو الذي يسود في نهاية الأمر، فالشكل هو الذي يسمح للمرء بإنهاء العمل» هذا ما تقوله سوزان سونتاغ، وهي تتحدث عن سينما رائد الموجة الجديدة في فرنسا، جان لوك غودار. إن الرأي ذاته ينسحب على القصة القصيرة في تحولاتها (القليلة على أي حال) فكل التحولات المورفولوجية التي مرت بها القصة القصيرة كامنة في الشكل الفني، على أن يفهم من الشكل الفني كلية القصة القصيرة-كل مكوناتها الفنية- بدرجات: درجات هيمنة هذا المكون أو ذاك، وينبغي أن يفهم من الهيمنة ما يسميه رومان ياكبسون، الشكلاني الروسي، «المهيمنة».
فأنواع القصة القصيرة خاضعة لـ(المهيمنة) التي تقود خطاها الجمالية، الخطى الفنية القائمة على رغبة في إتقان الكتابة، وفي الوصول إلى الذروة في إحكام صنعتها. والواقع أن مورفولوجية القصة القصيرة، لمما يثير الحدوس النقدية، بل يجعل هذه الحدوس تتقصى كل ما بإمكانه أن يكثر الكشوفات الجمالية للإبداع القصصي الهائل المنحدر إلينا من القرن التاسع عشر، والذي يرينا أن الشكل الفني القصصي قد تغير وتجدد، وهو في تغيره وتغايره وفي تجدده وتجديده يلازم مورفولوجية محددة.
مورفولوجيات القصة القصيرة ثلاث: وإذا تعمقنا فهي سبع، ويمكن أن تصبح أي رقم نشاء بحسب كمية ونوعية المتن القصصي المدروس. لكن مهلا، إن النقد القصصي هو تصنيف قصصي، والتصنيف ضرورة تأملية أكثر منه ضرورة جمالية، إلا أن مبدعي القصة القصيرة يتطلعون دوما إلى الجديد، رغم معرفتهم العميقة بكثرة الاستعصاءات الإبداعية القصصية. فما هي هذه الأنواع التي تحدد مورفولوجية القصة القصيرة في عمرها الفني القصير منذ النشأة إلى الآن (العمر القصير مقارنة مع العمر الطويل للرواية مثلا). كل حديث عن مورفولوجية القصة القصيرة يضمر في أعطافه حديثا عن أبعاد ثلاثة تقوم عليها هذه المورفولوجية وهي:
- أولا: تاريخ الأشكال (في جنس القصة القصيرة).
- ثانيا: أنواع الأشكال ( في هذا الجنس الأدبي).
- ثالثا: وظائف الأشكال التي تحدد الاشتغال الجمالي لكل أنواع القصة القصيرة.
تاريخ أشكال القصة القصيرة، بدأ في البزوغ مع تلك النزعة الجادة العميقة في تمييز الحدود الجمالية للقصة القصيرة، ومنها تعدد أسماء هذا الجنس الأدبي: الحكاية، الخرافة، المحكي، السرد، النوفيلا، القصة الطويلة، القصة، القصة القصيرة. وإنه لمن اللافت جماليا، أن يحدث الإجماع على جعل حجم القصة القصيرة معيارا محددا لجماليتها الأجناسية، وإن كان الخلاف قد ظل قائما (ولا يزال) حول كمية هذا الحجم: أقل من خمسين صفحة في بدء نشوئها، وألا يزيد على ثلاث صفحات في آخر صيحات هذا الحجم. وإن ميل إدغار ألان بو إلى جعل المعيار الزمني، فاصلا محددا لتجنيس القصة القصيرة قد خفف من غلواء التعداد والإكثار من تعداد محددات النوع وشكله. بيد أن خلافا آخر، برز إلى الوجود ما أن حدثت الثورة على البناء الكلاسي الثلاثي (الأرسطي) الذي ينسب في العادة إلى موباسان، فيقال القصة على منوال موباسان، أو القصة الموباسانية التي تنهض جماليتها على أعمدة ثلاثة كبرى: البداية ، الوسط (الأزمة)، النهاية (الذروة الجمالية) التي تقدم الحل، الملائم جماليا للبناء الفني.
اعتبارا للأحداث وصيرورتها فإن الثورة على هذا البناء الهرمي الذي تم الاعتقاد طويلا بأنه أدى إلى اكتمال القصة القصيرة، قد جعل يقينيات هذا الجنس الأدبي تنهار بانهيار هذا الهرم الثلاثي، وبروز أشكال أخرى من داخل جنس القصة القصيرة بانبثاق أنواع أخرى بديلة جزئيا( لا كليا) لأن الصيرورة الجمالية تنطوي في أعطافها على المحافظة بقدر ما تتقدم إلى البدائل الجديدة الملائمة للصيرورة الجمالية التي لا محيد من وجودها، فلا قصة بدون صيرورة – مثلما لا حياة إنسانية بدون تحولات في هذه الحياة. إن (حياة الأشكال) كما يقول فوسيون، الباحث الفرنسي المعروف، في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته، هي من المبادئ الكبرى لصيرورة الأشكال منذ بداية الأزل وإلى نهاية الأبد؟
إذا تمت كتابة القصة وفق البناء المعماري الفني الهرمي الثلاثي (بداية- وسط – نهاية) وكانت البداية مهادا مفعما بالتشويق، وكان الوسط ذروة الأزمة الدرامية (درامية صراع الأحداث) وكانت النهاية حلا سعيدا أو مأساويا للتشويق (الحبكة)، فإن هذه القصة هي التي تعتبر كلاسيكية: هذه هي القصة التي كتبها إدغار ألان بو وغوغول وتشيخوف، وبالأخص موباسان، هي القصة التي أصل أسسها الرواد الكبار، وأصبحت دارجة بين الأدباء والنقاد وجمهور متلق لهذا الفن الجميل، في مستهل انتشاره عالميا، هي القصة القصيرة كما تم التأصيل لها وتقعيدها وتسميتها والاتفاق على التسمية كما على المبادئ الجمالية. إن نوع الشكل الأبرز الذي تجاوز القصة الموباسانية هو ذاك الشكل الذي رفض الحبكة المنعقدة حول الحدث، وجعلها، بديلا عن ذلك، تنعقد على إيقاع الوصف الدقيق للأشياء وهي تتراءى في مرايا الوجود، أو تنعقد على الشخص، وهو يجهد نفسه للتخفف من أعباء الحياة وتعقدها وتشابكها وثقل الزمن الذي تجري فيه. وإذا كان الزمن هو نهر النسيان كما يقول الروائي الألماني توماس مان، فإن نسيان الإنسان المعاصر أشبه بمغامرة جديدة لابتكار حياة غير موجودة أو حياة يعتقد أن بالإمكان إيجادها افتراضا بأنها من أجمل الحيوات الممكنة.
لعل أوفى ثورة حققتها أشكال القصة القصيرة هي ذاك النوع الذي ارتد على عقيدة السارد العليم بكل شيء وأدخل في القصة (فلسفة الشك) بإيثار السارد المساوي المعرفة، أو الذي يتشارك في المعرفة نفسها أو الأقل معرفة إن مع شخوص القصة القصيرة أو مع متلقيها النموذجيين.
إن أنواع الأشكال في جنس القصة القصيرة متحدر من أشكال الحياة، وبما أن الحياة لا تكف عن التحول، فإنه من الطبيعي أن تتحول أنواع أشكال القصة ارتهانا إلى أنواع تحولات الحياة ذاتها. إن الحياة التي نحياها في بدايات الألفية الثالثة، تنطوي ولا شك على جديد ما، هذا الجديد هو الذي تحاول أنواع الأشكال إظهاره، وبإظهاره تنجلي جمالية القصة القصيرة في إهاب جديد.
* القدس العربي