(نثبت فيما يلي نص الحوار الطريف الذي دار بين ثلاثة من أدباء مصر وشعرائها في إحدى ليالي رمضان كما أذاعته محطة الشرق الأدنى). . .
5 - المعري والجن
وما رأي المعري في الجن يا أستاذ كامل؟
كامل: يقول:
فأخْشََ المليكَ ولا تَقْعُد على رهَب ... إن أنت بالجن في الظلماء خُشَّيتا
فإنما تلك أخبارٌ مُلفَّقَةٌ ... لخدعة الجاهل الحوشيَّ، حوشيتا
6 - شكوى ابن الرومي
عماد: قل لي يا أستاذ كامل. هل كان ابن الرومي كالمعري يصوم أيضاً؟
كامل: كان المعري يصوم الدهر مختاراً. وكان ابن الرومي يكاد يصوم الدهر مضطراً، لأنه لم يكد يظفر بالقوت.
عماد: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: (فلو كَفَّ قوتي ماءَ وجهي صُنْتُه).
أو يقول:
(لا تَعجبنَّ لمرزوق أخي هوج ... حظاً تخطَّى أصيل الرأي طرَّافا
فخالِق الناس أعراءً بلا وَبرِ ... كاسٍي البهائمِ أوباراً وأصوافا)
أو يقول مُتبر ما بحظه:
(إن للحظَّ كيمياَء إذا ما ... مسَّ كلباً أحاله إنسانا) أو يقول:
(حُرمت في سنَّي وفي ميْعتي ... قِرايَ من دنيا تَضيَّفْتها
لهفي على الدنيا، وهل لهفة ... تُنصف منها، إن تَلهَّفْتها)
إلى آخر ما يقول مما يفيض به ديوانه.
7 - ابن الرومي وشهر الصوم
عبد الغني: ولك هل كان يحب رمضان؟
كامل: كانت تجهده أيامه بقدر ما تبهجه لياليه.
عبد الغني: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: من طرائفه في هذا الباب قوله مداعباً:
(أذمُّهُ غيرَ وقت فيه أحمدهُ ... من العشاءِ إلى أن تسْقع الديكه)
عماد: هذا بيت رائع، فها تذكر إخوته؟
كامل:
(شهر الصيام وإن عظمت حُرمْته ... شهْر ثقيلٌ بطئُ الظلّ والحركة
يمشي الهوْينى، فأمل حين يطلبنا ... فلا السُّلَيْكُ يُدايه ولا السُّلَكه
يا صدق من قال أيام مباركة ... إن كان يكني عن اسم الطول بالبركه)
8 - بياض المشيب
عبد العني: ولكن قل لي يا عماد إن الشعرات البيض في رأسك تكاد تظفر بالشعرات السود، فلماذا لا تعمد إلى الخضاب تسود به ما ابيض من شعرك كما يفعل كثيرون، وكما فعل ابن الرومي حيث يقول:
يا بياض المشيب سودت وجهي ... عند بيض الوجوه سود العيون
وبهذه المناسبة هل تذكر يا أستاذ كامل شيئا لابن الرومي في المشيب؟
كامل: كثير، ولكن هيهات ينسى قوله:
أما رأيت الدهر كيف يجرى ... يثبت ما أكتمه من عمري
بأحرف يخطها في شعري ... يمحو بها غض الشباب النضر
إذا محافظة سطراً بدا في سطر
عبد الغني: والآن أجبني يا أستاذ عماد لماذا لا تعمد إلى الخضاب؟
عماد: إني لا أحب الكذب في الشعر وأنا لا احبه أيضاً في الشعر. ومع ذلك فأنا مقيد بقسم قديم لا أستطيع التحلل منه الآن.
عبد الغني: وما هو هذا القسم؟
عماد: قد تطغى على النفس البشرية في الشباب ساعات يأس أليم تبغض إليها الشباب حتى لتحسب سعادتها في الشيخوخة، وذلك رغبة في الانتقال من حال إلى حال. لا لأان الشيخوخة سعيدة في حقيقتها، وقد قلت في شبابي الباكر قصيدة يأس اذكر منها هذه الأبيات الغريرة:
قل يا رعى الله المشيب ... ولا رعى الله الشباب
عهد بلوت عهوده ... فإذا بأغلبها كذاب
حلو على مُرٍ فهل ... يرضيك من هذين صاب
من لي قد تأطّ ... ر أو بيوم يقال شاب
آليت ثمَّ أليه ... أن لا عمدت إلى الخضاب
9 - ليلة الوزة
عبد الغني: أذكر يا أستاذ كامل. أن الصحف والمجلات منذ خمسة عشر عاماً أشارت إلى ليلة من ليالي رمضان أقيمت في دارك وأطلقت عليها: (ليلة الوزة) اجتمع فيها على مائدتك الزنكلوني وأحمد حسنين وشوقي الهراوي والهياوي وصادق عنبر وأحمد عيسى وأبو العيون ودراز، ولا أزال اذكر منها الأبيات التالية:
(هذا هو المجلس، لا تذكروا ... شبيهه في الصفو لا تذكروا
رأيت فيه كيف أضحت به ... حقيقة مَرْئية عَبْقَر
كان زكي باشا، إلى جانبه ... زعيمُ سوريا الحرُّ شَهْبَندر
وكان هرّاويُ الرقيق الدقيـ ... ق، واللغوي صادق عنبرُ
فما حكاية هذه الليلة؟
كامل: جاء ولدي ذا صباح متهللا يبشرني بأن الوزة التي طارت من بيتنا منذ يومين إلى بيت الجيران عادت إلينا. وكان بعض الأدباء حاضرا فقال متظرفا: (ما دمت قد وجدت الوزة الضائعة فقد وجب عليك أن تدعوني إلى الإفطار عليها غداً. فأجابته إلى اقتراحه، وجاء ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وصاحبنا لا يكف عن تظرفه، ولا يفتأ يروي قصة الوزة ثم يختمها قائلا:
والكيلاني يدعوك إلى الإفطار غدا على هذه الوزة ابتهاجا بعودتها. فيقبل صاحبنا الدعوة في غير تردد.
فلما رأيته يتمادى فيما يظنه إحراجا لي هو - ولو علم - مصدر سرور وبهجة، قابلت تحديه بمثله، فرحت أدعو بقية أصحابي تلفونياً إلى الفطور بعد أن أوجز لهم القصة، حتى تجاوز عددهم الأربعين.
ولا أكتمكما أن تظرف صاحبي - مضافا إليه انسياقي معه في التحدي - قد جنيا على كبش لم يكن له في هذه الجناية يد، كما جنيا على جماعة أخرى من ذوات الأجنحة تكفي لإطعام أربعين أديباً، من بينهم أديبان، كلاهما - على الله - جدير أن يكون أمة وحده.
وقد استولى المرح على الحاضرين حين سمعوا أحد الأديبين يشكوا أضراسه وهو يطحن الأكل طحناً، وعلا هتافهم حين سمعوا ابن الرومي:
على انه ينعَى إلى كل صاحب ... ضروساً له تأتى على النور والكبش
يخبر عنها أن فيها تَثَلُّماً ... وذلكم أدهى وأوكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحى - عند نقرها ... وتجريشها - تأتي على الصلب والهشَّ
وكانت ليلة أنس حافلة قل أن يجود بمثلها الزمن. وتوسطت الوزة المائدة ولم يفكر أحد في لمسها وتمزيق لحمها شكرا لما أسدته إلينا من جميل، بما هيأت لنا من اجتماع سعيد. وقد اجتمع الحاضرون على تخصيص الليلة كلها لأبرع ما يعرفون من حكايات الوز.
10 - ساق الوزة
عماد: بمناسبة اشتغالك بجحا يا أستاذ كامل في هذه الأيام هل كان لجحا نصيب من حكايات الوز.
كامل: نصيب الأسد. فقد ظفرت بعض حكاياته - على عادته - بالجائزة الأولى. وخلاصتها أن الجوع استبد به ذات مرة، فاضطر إلى التهام ساق الوزة المشوية قبل قدوم صاحبه.
فلما سأله في ذلك قال:
ألا تعلم أن للوز ساقاً واحدة؟
وأشتد اللجاج بينهما فخرجا إلى حديقة الدار - وكان يوماً قائظاً يكاد يلتهب الوز واقفاً على رجل رجل.
فقال جحا:
أرأيت صدق ما أقول
فأسرع صاحبه إلى الوز وهشه، فخرجت كل وزة على ساقيها فقال له:
أرأيت الآن لكل وزة ساقين؟
فقال حجا متبالهاً:
آه! لقد ذبحتها يا صاح من غير أن أقول لها هش!
مجلة الرسالة - العدد 699
بتاريخ: 25 - 11 - 1946
5 - المعري والجن
وما رأي المعري في الجن يا أستاذ كامل؟
كامل: يقول:
فأخْشََ المليكَ ولا تَقْعُد على رهَب ... إن أنت بالجن في الظلماء خُشَّيتا
فإنما تلك أخبارٌ مُلفَّقَةٌ ... لخدعة الجاهل الحوشيَّ، حوشيتا
6 - شكوى ابن الرومي
عماد: قل لي يا أستاذ كامل. هل كان ابن الرومي كالمعري يصوم أيضاً؟
كامل: كان المعري يصوم الدهر مختاراً. وكان ابن الرومي يكاد يصوم الدهر مضطراً، لأنه لم يكد يظفر بالقوت.
عماد: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: (فلو كَفَّ قوتي ماءَ وجهي صُنْتُه).
أو يقول:
(لا تَعجبنَّ لمرزوق أخي هوج ... حظاً تخطَّى أصيل الرأي طرَّافا
فخالِق الناس أعراءً بلا وَبرِ ... كاسٍي البهائمِ أوباراً وأصوافا)
أو يقول مُتبر ما بحظه:
(إن للحظَّ كيمياَء إذا ما ... مسَّ كلباً أحاله إنسانا) أو يقول:
(حُرمت في سنَّي وفي ميْعتي ... قِرايَ من دنيا تَضيَّفْتها
لهفي على الدنيا، وهل لهفة ... تُنصف منها، إن تَلهَّفْتها)
إلى آخر ما يقول مما يفيض به ديوانه.
7 - ابن الرومي وشهر الصوم
عبد الغني: ولك هل كان يحب رمضان؟
كامل: كانت تجهده أيامه بقدر ما تبهجه لياليه.
عبد الغني: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: من طرائفه في هذا الباب قوله مداعباً:
(أذمُّهُ غيرَ وقت فيه أحمدهُ ... من العشاءِ إلى أن تسْقع الديكه)
عماد: هذا بيت رائع، فها تذكر إخوته؟
كامل:
(شهر الصيام وإن عظمت حُرمْته ... شهْر ثقيلٌ بطئُ الظلّ والحركة
يمشي الهوْينى، فأمل حين يطلبنا ... فلا السُّلَيْكُ يُدايه ولا السُّلَكه
يا صدق من قال أيام مباركة ... إن كان يكني عن اسم الطول بالبركه)
8 - بياض المشيب
عبد العني: ولكن قل لي يا عماد إن الشعرات البيض في رأسك تكاد تظفر بالشعرات السود، فلماذا لا تعمد إلى الخضاب تسود به ما ابيض من شعرك كما يفعل كثيرون، وكما فعل ابن الرومي حيث يقول:
يا بياض المشيب سودت وجهي ... عند بيض الوجوه سود العيون
وبهذه المناسبة هل تذكر يا أستاذ كامل شيئا لابن الرومي في المشيب؟
كامل: كثير، ولكن هيهات ينسى قوله:
أما رأيت الدهر كيف يجرى ... يثبت ما أكتمه من عمري
بأحرف يخطها في شعري ... يمحو بها غض الشباب النضر
إذا محافظة سطراً بدا في سطر
عبد الغني: والآن أجبني يا أستاذ عماد لماذا لا تعمد إلى الخضاب؟
عماد: إني لا أحب الكذب في الشعر وأنا لا احبه أيضاً في الشعر. ومع ذلك فأنا مقيد بقسم قديم لا أستطيع التحلل منه الآن.
عبد الغني: وما هو هذا القسم؟
عماد: قد تطغى على النفس البشرية في الشباب ساعات يأس أليم تبغض إليها الشباب حتى لتحسب سعادتها في الشيخوخة، وذلك رغبة في الانتقال من حال إلى حال. لا لأان الشيخوخة سعيدة في حقيقتها، وقد قلت في شبابي الباكر قصيدة يأس اذكر منها هذه الأبيات الغريرة:
قل يا رعى الله المشيب ... ولا رعى الله الشباب
عهد بلوت عهوده ... فإذا بأغلبها كذاب
حلو على مُرٍ فهل ... يرضيك من هذين صاب
من لي قد تأطّ ... ر أو بيوم يقال شاب
آليت ثمَّ أليه ... أن لا عمدت إلى الخضاب
9 - ليلة الوزة
عبد الغني: أذكر يا أستاذ كامل. أن الصحف والمجلات منذ خمسة عشر عاماً أشارت إلى ليلة من ليالي رمضان أقيمت في دارك وأطلقت عليها: (ليلة الوزة) اجتمع فيها على مائدتك الزنكلوني وأحمد حسنين وشوقي الهراوي والهياوي وصادق عنبر وأحمد عيسى وأبو العيون ودراز، ولا أزال اذكر منها الأبيات التالية:
(هذا هو المجلس، لا تذكروا ... شبيهه في الصفو لا تذكروا
رأيت فيه كيف أضحت به ... حقيقة مَرْئية عَبْقَر
كان زكي باشا، إلى جانبه ... زعيمُ سوريا الحرُّ شَهْبَندر
وكان هرّاويُ الرقيق الدقيـ ... ق، واللغوي صادق عنبرُ
فما حكاية هذه الليلة؟
كامل: جاء ولدي ذا صباح متهللا يبشرني بأن الوزة التي طارت من بيتنا منذ يومين إلى بيت الجيران عادت إلينا. وكان بعض الأدباء حاضرا فقال متظرفا: (ما دمت قد وجدت الوزة الضائعة فقد وجب عليك أن تدعوني إلى الإفطار عليها غداً. فأجابته إلى اقتراحه، وجاء ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وصاحبنا لا يكف عن تظرفه، ولا يفتأ يروي قصة الوزة ثم يختمها قائلا:
والكيلاني يدعوك إلى الإفطار غدا على هذه الوزة ابتهاجا بعودتها. فيقبل صاحبنا الدعوة في غير تردد.
فلما رأيته يتمادى فيما يظنه إحراجا لي هو - ولو علم - مصدر سرور وبهجة، قابلت تحديه بمثله، فرحت أدعو بقية أصحابي تلفونياً إلى الفطور بعد أن أوجز لهم القصة، حتى تجاوز عددهم الأربعين.
ولا أكتمكما أن تظرف صاحبي - مضافا إليه انسياقي معه في التحدي - قد جنيا على كبش لم يكن له في هذه الجناية يد، كما جنيا على جماعة أخرى من ذوات الأجنحة تكفي لإطعام أربعين أديباً، من بينهم أديبان، كلاهما - على الله - جدير أن يكون أمة وحده.
وقد استولى المرح على الحاضرين حين سمعوا أحد الأديبين يشكوا أضراسه وهو يطحن الأكل طحناً، وعلا هتافهم حين سمعوا ابن الرومي:
على انه ينعَى إلى كل صاحب ... ضروساً له تأتى على النور والكبش
يخبر عنها أن فيها تَثَلُّماً ... وذلكم أدهى وأوكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحى - عند نقرها ... وتجريشها - تأتي على الصلب والهشَّ
وكانت ليلة أنس حافلة قل أن يجود بمثلها الزمن. وتوسطت الوزة المائدة ولم يفكر أحد في لمسها وتمزيق لحمها شكرا لما أسدته إلينا من جميل، بما هيأت لنا من اجتماع سعيد. وقد اجتمع الحاضرون على تخصيص الليلة كلها لأبرع ما يعرفون من حكايات الوز.
10 - ساق الوزة
عماد: بمناسبة اشتغالك بجحا يا أستاذ كامل في هذه الأيام هل كان لجحا نصيب من حكايات الوز.
كامل: نصيب الأسد. فقد ظفرت بعض حكاياته - على عادته - بالجائزة الأولى. وخلاصتها أن الجوع استبد به ذات مرة، فاضطر إلى التهام ساق الوزة المشوية قبل قدوم صاحبه.
فلما سأله في ذلك قال:
ألا تعلم أن للوز ساقاً واحدة؟
وأشتد اللجاج بينهما فخرجا إلى حديقة الدار - وكان يوماً قائظاً يكاد يلتهب الوز واقفاً على رجل رجل.
فقال جحا:
أرأيت صدق ما أقول
فأسرع صاحبه إلى الوز وهشه، فخرجت كل وزة على ساقيها فقال له:
أرأيت الآن لكل وزة ساقين؟
فقال حجا متبالهاً:
آه! لقد ذبحتها يا صاح من غير أن أقول لها هش!
مجلة الرسالة - العدد 699
بتاريخ: 25 - 11 - 1946