سكت هدير القاذفات وتوقف ومض الصواريخ، وألقيتُ السلاح، مثلي مثل الكثيرين، بعد أن اعتادته يدايّ، كما لو أنه صار جزءًا مني، من جسدي، لا من حياتي فحسب، في المرة الأخيرة التي ركبت قطار العودة إلى بغداد شعرت أني سأحتاج إلى سنوات، أو حتى عقود، كي أستطيع نسيان اهتزاز كل عربة أقلتني من وإلى جبهات القتال،...
حمَلني فوق كتفه مثل شوال مفتوح تتسرب من الدماء وركض بي بين وهج النيران، مشهد لا ينفك أن يتردد في ذاكرتي وينغرس في أحلامي لحد الآن، رغم مرور عمر على انتهاء تلك الحرب، ورغم أني كنت شبه مغيَب عن الوعي، فيما كان جسدي ينتفض مثل سمكة خرجت لتوها من الماء، مع تدافع أنفاسه بين أضلع صدره طيلة المسافة...
طال وقوفه على الشاطئ, يتابع تهادي الزوارق و المراكب الشراعية فوق مياه الخليج الرقراقة, صفق الموج للصخور يطوِح برأسه, المثقلة بطنينٍ رهيب, في شباك تنسجها المرارة من حوله, يردد كلماتها المتحدية, صراخها المستفز في وجهه, بكاء طفلهما, الذي استيقظ مفزوعا من نومه قبل مغادرته للشقة, دون أن يدري مكانا...
استيقظت من نومي مجدداً والعرق يتصبب فوق جبيني، بعد تشتت طويل بين سلسلة من الأحلام الغريبة والمتشابكة، لا تتركني إلا وأنا منهك القوى، وكأني قد ارتحلت فعلاً أينما شاءت... أجوب بلاداً ومدناً يلفها الضباب، أتنقل بين أماكن ويبوت عدة، منها ما هو مألوف جداً بالنسبة لي ومنها ما لا أتذكر أني قد ولجتها من...