أحمد غانم عبدالجليل - راقص الجبهات

حمَلني فوق كتفه مثل شوال مفتوح تتسرب من الدماء وركض بي بين وهج النيران، مشهد لا ينفك أن يتردد في ذاكرتي وينغرس في أحلامي لحد الآن، رغم مرور عمر على انتهاء تلك الحرب، ورغم أني كنت شبه مغيَب عن الوعي، فيما كان جسدي ينتفض مثل سمكة خرجت لتوها من الماء، مع تدافع أنفاسه بين أضلع صدره طيلة المسافة الفاصلة بين الفريقين المتقاتلين، كان يمكن أن يلقى كل منا حتفه ونتناثر أشلاءً في عرض العراء الذي ظل يتمادى أمام الطرفين ما بين تقدم وانسحاب، الآن أكاد لا أتذكر إن كان ضمن أراضينا أم أراضِ دولة الجوار قبل بدء الحرب، لكنه لم يصَب بشظية وهو يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، كما لو كان بهلوانًا يقدم أكثر عروضه تشويقًا على مسرح ظل يتنقل فوق خشبته بلا كلل.
كذلك كان منذ أن التقيت وبقية أفراد الكتيبة به، بعد أن تفاجأنا بوجوده بيننا ضمن الخطوط الأمامية، وليس كغيره من المستجدين الواصلين لتوهم جبهات القتال، سرى الهمس أنه من المغضوب عليهم بسبب شقيقه المعدوم حديثًا، كان في حزب معارض ضمن الأحزاب التي لم تكف السلطة عن تعقبهم طيلة سنوات الحرب وبعدها، حرب أخرى في الخفاء، نتحاشى الكلام عنها قدر الإمكان، خاصة ونحن نرتدي البزة العسكرية ونهتف للنظام في كل فرصة حياة متاحة، لذا رحت والآخرون نتجنب التقرب منه قدر الإمكان، وأظنه فهم ذلك وتفهمه منذ البداية.
بعد فترة وجيزة سمعتُ تردد الشكوك بشأن فبركة تلك الأخبار كي يكون خير طعم لاستدرار الثرثرة في جنبات الخنادق المرتعشة من هول الانفجارات، وأنه يكتب التقارير الأمنية لدى كل شاردة وواردة يمكن له استنطاق إشاراتها من هذا وذاك، بمختلف الرتب العسكرية، وهذا أيضًا كان يصل مسامعه أغلب الظن، دون أن تشي ملامح وجهه ولا تصرفاته، أو كلامه، سواء كان جادًا أم مازحًا بما ينفي أو يؤكد شيئًا من ذلك، وكأنه يستمتع باللغط المنسوج من حوله كشباك العنكبوت، وهِنة لكنها تظل محط قلق وتوتر باستمرار، حتى راودنا شكٌ مضاعف أنه قد يكون هو من أعد وروَّج الحكاية ونقيضتها كي يصنع لنفسه أهمية تمِيزه عن قوافل من الجنود ظلت تُساق إلى أفواه الموت على مدى سنوات.
تم نقله من نيران قاطعنا إلى جبهة بعيدة، وأنا في إجازة طويلة نسبيًا تماثلت خلالها جراحي للشفاء، فيما ظلت قصص وروايات أخرى تحاك بشأنه تباعًا، أخذت تتناثر مثل شظايا الإطلاقات الهادرة من حولنا، أنه مثلًا يدير تجارة واسعة يجمع أغلب رأسمالها من المقاتلين، بمختلف الرتب العسكرية أيضًا، تجارة في مجالات مشروعة وأخرى غير مشروعة، دلته على دروب المهربين وتجار الحروب، وأيضًا كبار المسؤولين المتنفذين في الدولة، مما جعله يكون صاحب نفوذ بدوره، لا يجعله يأخذ ما يشاء من إجازات بصورة استثنائية فحسب، قبل الانتقال إلى العاصمة أو إحدى ضواحيها، بل التوسط للكثيرين مقابل مبالغ يدفعونها عن طيب خاطر لقاء إدراج أسمائهم في قائمة تنقلات من جبهة إلى أخرى قد يجدونها أقل وطأة، أو حتى ضمن حركة ترقية... وما أكثر الشائعات في بلاد مثل بلادنا، خاصة في ليالٍ تترقب الجحيم مع شهقات الحياة المضطربة، والتراب ينهال فوق الرؤوس كلما تتابعت لعلعة القذائف مجددًا.
بقيتُ أتتبع أخباره باستمرار، عن قصد وغير قصد، بعد أن انتشلني ذراعاه من خفقات الموت بينما كنت أتمتم بنطق الشهادة، فصرت أشعر أني مطالب بالدفاع عنه في غيابه على الأقل، لكني لم أستطع أن أفي حتى بالعهد الذي قطعته على نفسي إثر تكاثر الشائعات، لم أعرف ما يمكنني أن أصدِق أو أكذب منها، إلا أنه في كافة الأحوال صار بالنسبة لي من الكبار الذين أتجنب ذكرهم لأي سببٍ كان.
بعد الحرب بنحو عام صادفته في حفل زفاف أحد الأقارب، كان يجلس برفقة زوجته، شابة شديدة الجمال والأناقة، والجاذبية بصراحة، خاصة لمن أمضى سنوات منفيًا في البراري المحترقة، لكني لم أذهب للسلام عليه ومن ثم تذكيره بنفسي، إن كان قد نسيَني، ربما بسبب شدة الهواجس التي أخذت تتملكني رعدة خوف تلو الأخرى، سواء عند حدود الجبهات أو بين رحاب المدينة الزاهية برايات النصر، كما لو كانت في ربوع بلد آخر، خاصة بعد ما تناهى إلى مسامعي من كلام رافق ذكر اسمه من جديد.
عرفت أنه تقلد منصبًا مرموقًا في وزارة التجارة، هذا ما وصلني، فكان حريًا بي أن أتقرب منه، لعله يساعدني في إيجاد وظيفة بعد أن انتهت الحرب وصرت مثل أكثر أبناء جيلي، من الفائضين عن الوطن، رغم كل ما نزفنا من أجله، لكنه أيضًا لم يكن بمنأى عن العديد من الأخبار الأخرى، والتي طرقت أذنيّ بالتأكيد، ذكَّرني بها العرج الخفيف الذي كان يرافق خطوه، يكاد لا يثير الانتباه من بعيد، بسبب دخوله المعتقل لسبب لم يتسنَ لي معرفته ولا المدة التي أمضاها محتجبًا خلف القضبان تحت وقع السياط، وربما نتيجة إصابة تعرض لها قبل همود دويّ الحرب، وقد أعيد لخطوط القتال من جديد كنوع من العقوبة الصارمة التي لم يكن يُستثنى منها حتى قادة الألوية، أو ربما كانت الإصابة ضمن تصفية حسابات تجارية مع أحد الكبار ممن تربطه معهم علاقات يتمادى سر تشعبها من لسانٍ لآخر.
ذات الألسنة تقريبًا أخذت تثرثر بشأن زواجه من تلك الفاتنة، فقد حامت الشائعات بشأنها هي الأخرى، أنها كانت عشيقة مسؤول مهم ومقرَب من القيادة العليا للسلطة الحاكمة، أو أحد الأولاد المدللين في القصور المنعزلة عن كل ما يمكن أن يحدث في البلاد من صخب...
ثرثرة من نوعٍ جديد راحت ترسم دوائرها حوله، تكاد لا تركن إلى الصمت، لكن دون أن تتخلى عن الهمس، كثيرًا ما تشوبه بذاءة وسخرية تتكتم على أسرارها في همزٍ ولمز حذرين، مع ذلك قد يتسرب شيء منها إلى مسامع الآذان الكبيرة، إلا أنها قد تقرر تجاهل تلك الأقاويل بكل ما تنطوي عليه من مقاصد، ربما لأنها تكون بمثابة جزء من امتصاص نقمة لا بد منه بعد حرب ظننا ألا تدرك جنوحها نهاية أبدًا، فانطفأت فجأة ولن يبقى سوى العمل على مُداراتها عن الذاكرة قدر الإمكان.
مع تراكم الثروات كان من المحظوظين، بالأحرى من المرضي عنهم، صار من أصحاب الملايين، بينما اضطررت إلى العمل في مهنٍ كثيرة، بعيدة كل البعد عن شهادتي الجامعية التي كدت أنساها، دون أن تواتيني جرأة الاقتراب ممن اعتاد امتطاء الأمواج العاتية رغم شدة تقلبها، فيما ظل الخوف يسكنني، كما لو أن الحرب لم تغادرني ولم تنزو ومضات الموت عن جنباتي، لأبقى مزروع الخطى عند حواف الشواطئ، ليس لي أكثر من النظر بدهشة تكبر حينًا بعد حين نحو تأرجح القفزات المتعالية هنا وهناك، فلا يتناثر نحوي غير زخات من الكلام المثار عنه وسواه ممن يتسابقون لشراء ما يضطر الآخرون إلى بيعه حينًا بعد حين، حتى تطاول المد فوق شطآني، فاضطررت إلى البحث عن ملجأ آوي إليه بعيدًا عن وطن استملكته الحروب وسادتها، وتسلط عليه رهبانها وسدنتها، هجرته إلى بلاد الغربة المختزلة للسنوات، كما لها القدرة على مط أيامها وساعاتها تمامًا.
لم أصدِق مقولة "الدنيا صغيرة" أكثر مما فعلتُ عندما رأيته يجلس إلى طاولة على رصيف كافتيريا مررت بها وأنا أتجول في شوارع مدينة قصدتها في رحلة عمل قصيرة، ألقيت تحيتي كما لو أني وجدت صديقًا حميمًا لم أعرف شيئًا عنه منذ فترة طويلة، لم يتذكرني إلا بعد أن رويت له عن الجندي الجريح الذي حمله فوق كتفه حتى ألقى بجسده خلف ساتر الأمان لكلينا، كان مجاملًا، كعادته مع الجميع، فأصر أن أجلس معه...
ظللت أحدق في شيب شعر رأسه وتجاعيد وجهه، رغم ذلك كان يبدو كما عهدته، شديد الوسامة، وكأني أكبره بنحو عشرين عامًا، راوغتُ فضول أسئلتي دون انقطاع عن كل ما سمعته عنه وزاد من حيرتي في أمره على نحو متزايد، كما لو أن الغربة تلقي عنا كل قيود الرهبة والتحفظ التي كانت تخالجنا في أوطاننا.
كنت قد عرفت أنه يقيم في الخارج، لكنه ظل من ذوي الحظوة داخل البلاد، رغم تغير كل الأوضاع، وتبدل الوجوه والأسماء مع تعاقب حكومات مضطربة من بعد نظام طوَحنا في كل الاتجاهات عقودًا حتى فقدنا قدرتنا على التوازن.
انضمامه إلى حزب رفاق شقيقه القدامى يؤكد حكاية من حكايات الماضي، كما أنه ممن تأتي أسماؤهم في بعض الصحف والفضائيات المنتقدة للنظام الجديد، ضمن سياق الحديث عن قضايا الفساد والأموال المهرَبة نحو بقاع العالم، كلما تضخمت تزايد عدد الباحثين عن حياة أخرى عبر كل حدود يمكن اجتيازها، لكنه أيضًا ممن يعرفون كيف ينفذون من شباك المنافسين والأعداء، يبدو هذا جليًا عبر جلسته وطريقة كلامه ونبرة صوته وقهقهة ضحكاته، ونحن نتذكر لمحات متفرقة من صورة قديمة بالكاد تخطر على البال في زحمة أحداث منهمكة بحصاد أعمار أخرى.
لم أطل البقاء معه، استأذنت فصافحني كما لو أنه أنهى اجتماع عمل على نحو سريع، فلا حاجة أن يعطي أحدنا رقم هاتفه للآخر، بعد أن تركته ساورتني نقمة كبيرة نحوه وأمثاله، بدل الشعور بالامتنان الذي ظل يأسرني تجاهه لعقود، إلا أنني لم أستسلم لما داخلني من حنق دعاني لوهلة أن أعاود أدراجي لأصب عليه جام غضب عمرٍ من الدحرجة بين سفوح الهزيمة والخنوع والاستسلام، ولو فعلت وجنحت لرغبة العراك معه لتملكني الندم كثيرًا وأنا أقرأ عبر إحدى صفحات الفيسبوك نبأ وفاته إثر حادث مؤسف، لم يتم الكشف عن تفاصيله، أتاح فرصة تسطير عشرات التعليقات، تضمنت بثقة اليقين صخب معلوماتٍ شتى تلبدت بها سماوات سنواته الستينية، الكثير منها يصل حد التناقض، لا التباين فحسب، وكذلك ظروف وأسباب وفاته التي ظلت محط غموض لغزٍ لا سبيل لسبر أسراره، كما كانت حياته.


أحمد غانم عبدالجليل - راقص الجبهات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى