عزيزة المانع - رسالة القيان!

«1»

الجاحظ أحد أشهر مثقفي المسلمين وأدبائهم في القرن الثالث للهجرة، كتب عنه كثيرون واستشهد به كثيرون وعده كثيرون مرجعا في البلاغة والفصاحة. كان موسوعة في العلم وسعة المعرفة فكتب في كل شيء، في الأدب والأخلاق والحيوان والنبات والقيان، طيع على حب الدعابة والسخرية، فكان أشهر من كتب في السخرية من المعلمين والبخلاء.
ليلة البارحة حين كنت أقلب في بعض الكتب عثرت على كتاب صغير يحمل ثلاث رسائل للجاحظ: رسالة في الرد على النصارى، ورسالة في ذم أخلاق الكتاب، ورسالة في القيان. فتحت الصفحات على رسالة القيان مباشرة وبدأت أقرأ وفي نيتي أن أعود إلى ذم أخلاق الكتاب لأوافيكم بما يقول الجاحظ عنهم، ولكن ليس الآن.
القيان لمن لا يعرف، لفظ يطلق على الجواري اللاتي كن يتقن العزف والغناء، وقد شاع في العصر العباسي وجود أماكن مخصصة أطلق عليها (بيوت القيان) تجلس فيها القيان للغناء ويأتي إليها الناس للسماع.
ولأن طبيعة البشر واحدة، في كل زمان ومكان، فقد وجد آنذاك، كما هو الحال اليوم، من يلوم على وجود مثل ذلك النشاط الترفيهي ويحرمه، يرى فيه خروجا عن الدين أو الأخلاق، فلم يعجب الجاحظ ذلك ورأى فيه تحريما لما هو غير محرم، فكتب تلك الرسالة التي تمثل مقالة صغيرة رأيه في زيارة القيان والجلوس إليهن والاستماع إلى غنائهن.
يبدأ رسالته بذكر أسماء أصحاب موجهي الرسالة، التي ينقلها عنهم، والتعريف بالجماعة والموجهة الرسالة إليها، يقول: «من (...) وإخوانهم المتمتعين بالنعمة، والمؤثرين للذة، المتمتعين بالقيان وبالإخوان، المعدين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة (...)، إلى أهل الجهالة والجفاء وغلظ الطبع وفساد الحس». ثم يمضي في مقدمته ليبين هدفه من وضع تلك الرسالة، وهو أن يدحض كلام المنتقدين لطلب الترفيه بالسماع، يقول: «فوضعنا في كتابنا هذا حججا على من عابنا بملك القيان ونقم علينا إظهار النعم والحديث بها».
هذه المقدمة تبين بإيجاز منذ البداية رأي الجاحظ في المنكرين على من يستمتع بالسماع ويرتاد بيوت القيان!! وهو يحتج بالقول إن طلب السماع ليس حراما، ويستشهد على ذلك بحوادث من التاريخ الاجتماعي للعرب والمسلمين يعرض فيها نماذج لما كان يحدث من اختلاط ومسامرة بين النساء والرجال، ثم يعلق على ذلك بقوله : «فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفلتة ولا لحظة الخلسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامر، ويسمى المولع بذلك من الرجال الزير، المشتق من الزيارة، (...) ثم إن النساء إلى اليوم من بنات الخلفاء وأمهاتهن فمن دونهن يطفن بالبيت مكشفات الوجوه ونحو ذلك لا يكمل حج إلا به».

تعليقات

[SIZE=6]عزيزة المانع[/SIZE]
رسالة القيان!
«2»

في مقال أمس، لم تكن الغاية من الحديث عن رسالة القيان وكاتبها الجاحظ، مجرد إظهار رأي الجاحظ في حل السماع وزيارة بيوت القيان، فهذا لا يهمنا كثيرا، لأن الجاحظ ليس فقيها ولا يؤخذ عنه القول بالحل والتحريم. كانت الغاية شيئا آخر، كانت الرغبة في التأمل فيما يظهر من تضاد يثير الاستغراب، بين ما يقوله الجاحظ أحيانا في تلك الرسالة، وما اشتهر به من رجاحة العقل وبعد النظر! فالجاحظ يورد في كتابه قصصا ماجنة لا يقبل بها العقل منسوبة إلى أشخاص معروفين، وهي قصص وأخبار يتجسد فيها الكذب ويبدو فيها الوضع، لكن الجاحظ يحكيها على أنها وقائع صادقة، لا يبدي تشككا حولها ولا يظهر منه تردد في قبولها، وهو ما يتنافى مع طبيعة الجاحظ الذي يميل دائما إلى تقديم العقل والاحتكام إليه، فما يذكره المؤرخون عن الجاحظ أنه كان ذا نزعة اعتزالية، والمعتزلة يقدمون العقل وأحكامه على كل شيء، وقد وصفه أحمد أمين أنه «قل أن يقبل خرافة»، كما أن الكتب خلدت القول بأن «كتب الجاحظ تغذي العقل». بل إن الجاحظ نفسه كان يتباهى مفتخرا أن من طبعه أن يقف موقف الشك مما يتلقاه من أقوال الآخرين، مهما بلغت شهرتهم ومكانتهم، فلا يصدق سوى ما جربه بنفسه واستوثق من صدقه، فلم إذن يورد في رسالة القيان تلك الأخبار والحكايات التي يبدو في معظمها الصنعة وطغيان الكذب؟ لم يفعل ذلك؟ إنه من المستبعد أن يكون الجاحظ قد صدق تلك الحكايات الماجنة التي يرويها، فلم يوردها؟الأمر الثاني، الذي يستدعي التأمل في تلك الرسالة، منطق الجاحظ عن النساء، حيث بدا ذلك المنطق بعيدا عن أن يصدر عن مفكر ينظر بشمولية وعمق، كان منطقا أقرب أن يكون لإنسان سطحي لا يرى أبعد من ذاته وما يسرها أو يؤذيها. فهو حين يتحدث عن النساء لا يذكرهن على أنهن أصل في هذا الوجود يشكلن الحياة فيه كما يشكلها الرجل، وإنما هو يصفهن أنهن خلقن من أجل نعيم الرجل وسعادته، فكما خلق الله الأنعام لسعادة الإنسان، خلق المرأة لسعادة الرجل وراحته، فالجاحظ هنا لا يرى فرقا بين الأنعام والمرأة، فكلاهما عنده خلقا من أجل سعادة الرجل! بل إنه حين يستشهد بقوله تعالى (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، يستشهد بها ليؤكد ما يراه من أن خلق المرأة ما هو إلا لأجل الرجل، هو يفهم الآية على أن المخاطبين هم الرجال فقط، وأن المراد بالأزواج في الآية هن النساء، رغم أن الآية ليس فيها ما ينص على ذلك، فهي موجهة للناس كلهم ذكورهم وإناثهم، كما أن (الأزواج) تشمل الرجال والنساء.يقول الجاحظ «والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض وكل ما تقله أكنافها، للإنسان خول ومتاع إلى حين، إلا أن أقرب ما سخر له من روحه وألطفه عند نفسه، الأنثى، فإنها خلقت له ليسكن إليها، (...) ولولا وقوع التحريم (...) فإنه كان يقال ليس أحد أولى بهن من أحد، وإنما هن بمنزلة المشام والتفاح الذي يتهاداه الناس بينهم!كأني بالجاحظ أدرك مدى الخطل الذي أورده في رسالته تلك، ومنافاة ما جاء فيها لما عرف عنه من عقل وفكر، فذكر في خاتمة الكتاب على سبيل الاعتذار وتبرئة النفس، أنه مجرد راو للرسالة التي أشار في مقدمتها إلى أسماء أصحابها يقول: «هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمينا في صورها، فإن كانت صحيحة فقد أدينا منها الرواية، والذين كتبوها أولى بما تقلدوا من الحجة فيها، وإن كانت منحولة فمن قبل الطفيليين إذا كانوا قد أقاموا الحجة في أطراح الحشمة والمرتكبين، ليسهلوا على المقينين ما صنعه المقرفون، فإن قال قائل إن لها في كل صنف من هذه الثلاثة الأصناف حظا وسببا فقد صدق».
 
أعلى