أسرد هنا بعضا مما عشته من خلال تجربتين أساسيتين في حياتي، هدفي تعميم أهم ما استنتجته، للفائدة.
التجربة الأولى عشتها من خلال العمل النقابي والحزبي، حتى لا أقول السياسي. وعشت معهما تجربة الكتابة الأدبية والصحافية. وكذلك تجربة الجمعيات الثقافية.
خلال هذه الفترة كان الاهتمام الكبير منصبا على ما يمكن تسميته بالالتزام "الجرامشي". بمعنى كل ما كنت أقوم به كان يتم برؤية إجتماعية و"سياسية" كما كنت افهمها ومعتقدا انني كنت في خدمة، أولا رجال التعليم كجماعة أنتمي إليها، ثم ثانيا في خدمة طبقة "البروليتاريا" وطبقة الشعب المهضوم في حقوقه، خاصة وانني ابن عامل منجمي ظل منخرطا نقابيا للدفاع عن كسرة خبز. كانت هذه التجارب لا تخلو من صراعات، كنت اعتبرها صراعات طبقية. او صراعات بين "الرجعية و التقدمية"... فكانت تبدو لي صراعات منطقية حيث كان هدف كل ممثلين "للطبقتين" التحكم في دواليب "الحكم". ولعمري كان الهدف مشروعا. سواء في البلدية او في البرلمان وطبعا في تشكيل الحكومة. كنت اذن أعتقد انني واعيا بدوري الذي يكمن في التأثير على هذه الطبقة من الشعب بانحيازي لقضاياها حتى نربح اصواتها خلال الانتخابات ونربح ممثلين لها يدافعون عن مصالحها من داخل المؤسسات. كانت إذن الصراعات تبدو منطقية بين مختلف الحزبيين والنقابيين.
اما الجانب الثقافي وخاصة الأدبي، فلم اكن أعطيه الاهتمام الكافي. كنت اعتبره مسألة شخصية، وترفا فنيا حتى وأنه" ملتزم" بقضايا الشعب. خلال هذه الفترة كتبت ونشرت نصوصا، توجتها برواية "أمفيون الرقم المهني 4892"، محققا هكذا حلمي في كتابة نصوص اردتها ان تكون شبيهة بنصوص زولا، وخاصة روايته الشهيرة :جيرمنال. لكن كنت اتابع ما يجري مثلا داخل اتحاد كتاب المغرب، الذي لم انخرط فيه أبدا. كنت اسمع عن الصراعات بين الشعراء والكتاب. كنت اعتقدها تصب في نفس صراعات النقابيين والحزبيين، اي صراعات بين "رجعيين وتقدميين"، فكنت طبعا أميل "لقبيلتي"، أي "للتقدميين" ولو انني كنت الاحظ أن بلية الإقصاء كانت مستشرية حتى بين أعضاء نفس القبيلة. ما كان يؤلمني.
التجربة الثانية ابتدات مع تقاعدي. كنت قد نضجت اكثر وفطنت اكثر لبعض الأمور. اتضح ان السياسة لعبة الكبار أصحاب الاموال والمصالح. السياسة تدار بالهواتف حسب مصالح مخزنية، تقرر في مصير ما كما يشاء المخزن، كما حدث حينما تقرر إغلاق مناجم جرادة. وكل ما كنت احلم به، يعتبر من الطوباوية الأفلاطونية، لا وجود له إلا في جمهوريته التي أقصى منها (وحسنا فعل) الشعراء. لم اعد منخرطا لا في النقابة ولا في الحزب. تحررت من الالتزامات التنظيمية التي كانت تأخذ مني وقتي وجهدي ومالي، ودخلت العالم الثقافي والأدبي بنية خدمة الثقافة والتشجيع على القراءة والكتابة من خلال تأسيس للمقاهي الأدبية بغية جعل هذا الفضاء الكروي بامتياز، فضاء للكتاب أيضا.
فرغم ما راكمت في بدايتها من ايجابيات، حيث وفرنا فضاء لكل محبي الكتاب، اتضح مع الأسف اننا وفرناه ايضا لبعض الوصوليين والانتهازيين الذين لم يكن احد يعرفهم. فأصبحوا بقدرة قادر شعراء وروائيين ونقاد وفنانين تشكيليين وقصاصين. او هكذا خيل لهم. كانت تجربة صادمة حد الدهشة. تجربة يمكن اختزالها في هذا التشبيه : كنت اتخيل ان هذا العالم هو عبارة عن حقول ازهار مختلفة مدسوسة وراء إزار او قناع كنت حملته لمدة طويلة اثناء اهتمامي أكثر بما هو نقابي وحزبي، وحينما ازحته عن وجهي لأستمتع في اواخر عمري بازهار الثقافة والشعر واتلذذ من اعماقي بالطمأنينة الروحية وبصداقة "المثقفين"، وجدت نفسي امام اسطبل يمكن تشبيهه باسطبل "اوجياس" الذي ورد في الاسطورة الإغريقية، ضمن الأشغال الإثني عشرة التي حُكم بها على هرقل.
وجدت نفسي أمام صراعات نرجسية لا تحركها سوى طموحات شخصية بليدة، لا تتعدى دبدبات على الظهر من قبل مسؤول، او صورة امام الميكروفون وتعليق على صفحة الفيس بوك او في أقصى الحالات، تعويضات مادية لا تتعدى بعض الدريهمات. وجدت نفسي بعالم المرضى بالوهم. فهناك من يعتبر نفسه شاعرا يدندن ببحور الخليل، وهناك من يرى نفسه قاصا لا مثيل له ومن يرى نفسه كاتبا مسرحيا وآخر يعتبر نفسه ناقدا ألمعيا وهناك من كان يحلم بتلقي دعوة من مسؤول كبير يوشح صدره بالحمالة الكبرى الخ..فكانت تنتج عن ذلك صراعات لا مرجعية فكرية او ثقافية او ادبية لها. صراعات تغذيها الغيرة ويشعل نارها الحسد. لا تحركها مبادئ كتلك التي حملها ولا زالوا بعض المثقفين الكبار القلائل حيث الإيمان بحقوق الإنسان والديمقراطية التي تشبعنا بها خلال انتخابات داخل الجمعيات او الأحزاب او النقابات، رغم ما كان يشوبها من بعض الخروقات. صراعات هؤلاء "المثقفين" أخبث بكثير. فيكفي، مثلا، ان يتفق على مائدة دسمة البعض منهم، بعيدا عن قانون الحريات العامة، رغم علاته، الذي يفرض إجراءات اكثر ديمقراطية من تفاهتهم وديكتاتوريتهم، ويشكلوا مكتبا، من غير جمع عام، لجمعية هدفها استمالة الداعمين والاستفادة من الريع المادي والمعنوي او الاستفادة من اعفاء من العمل داخل مصلحة ما، بدعوى التفرغ للعمل الثقافي. وتصل بالبعض منهم الوقاحة "كمثقفين" ان يدونوا بالقانون الأساسي ان بعض الأعضاء يعتبرون "دائمي العضوية" بجمعية طبخوها ليلا، حول "حولي مشوي"، كما لو تعلق الأمر بمنظمة الأمم المتحدة.
هكذا اتضح ان عالم "المثقفين" الذي من المفروض ان يكون عالما يفيد المجتمع ويساهم في توعيته وتنمية موارده البشرية، ويكون عالما يحفز ويدرب على الديمقراطية والعملية الانتخابية، اتضح انه في أقصى التخلف ولا يحمل هم المجتمع.
عالم النرجيسيين الأنانيين، عالم التفاهة. عالم النفاق. عالم الكذب و التملق. عالم القبلية بامتياز. عالم الطموح في الجوائز التي تنظمها دول البترودولار لغرض في نفس يعقوب، كما يقال. عالم مريض يصعب ايجاد دواء له. لهذا شبهته بإسطبل "اوجياس" . لا بد له من هرقل يدير مياه نهر الأمازون لكبر حجمه، لتنقيته من فيروس "كورونا الثقافي".
بين التجربتين، تبقى التجربة الأولى امتع، وأنبل رغم كل العوائق. واعتبر التجربة الثانية مقرفة جدااا ومنها قد يتسلل الإحباط لكل من ينتظر شيئا ايجابيا من هؤلاء أشباه" الأدباء المثقفين".
وحتى لا أبدو وكأنني منزه كملاك، فقد يكون هذا الفيروس قد تسرب بداخلي... فاحذروني...وعلي ان التزم بالحجر الصحي...
محمد العرجوني
17-02-2020
التجربة الأولى عشتها من خلال العمل النقابي والحزبي، حتى لا أقول السياسي. وعشت معهما تجربة الكتابة الأدبية والصحافية. وكذلك تجربة الجمعيات الثقافية.
خلال هذه الفترة كان الاهتمام الكبير منصبا على ما يمكن تسميته بالالتزام "الجرامشي". بمعنى كل ما كنت أقوم به كان يتم برؤية إجتماعية و"سياسية" كما كنت افهمها ومعتقدا انني كنت في خدمة، أولا رجال التعليم كجماعة أنتمي إليها، ثم ثانيا في خدمة طبقة "البروليتاريا" وطبقة الشعب المهضوم في حقوقه، خاصة وانني ابن عامل منجمي ظل منخرطا نقابيا للدفاع عن كسرة خبز. كانت هذه التجارب لا تخلو من صراعات، كنت اعتبرها صراعات طبقية. او صراعات بين "الرجعية و التقدمية"... فكانت تبدو لي صراعات منطقية حيث كان هدف كل ممثلين "للطبقتين" التحكم في دواليب "الحكم". ولعمري كان الهدف مشروعا. سواء في البلدية او في البرلمان وطبعا في تشكيل الحكومة. كنت اذن أعتقد انني واعيا بدوري الذي يكمن في التأثير على هذه الطبقة من الشعب بانحيازي لقضاياها حتى نربح اصواتها خلال الانتخابات ونربح ممثلين لها يدافعون عن مصالحها من داخل المؤسسات. كانت إذن الصراعات تبدو منطقية بين مختلف الحزبيين والنقابيين.
اما الجانب الثقافي وخاصة الأدبي، فلم اكن أعطيه الاهتمام الكافي. كنت اعتبره مسألة شخصية، وترفا فنيا حتى وأنه" ملتزم" بقضايا الشعب. خلال هذه الفترة كتبت ونشرت نصوصا، توجتها برواية "أمفيون الرقم المهني 4892"، محققا هكذا حلمي في كتابة نصوص اردتها ان تكون شبيهة بنصوص زولا، وخاصة روايته الشهيرة :جيرمنال. لكن كنت اتابع ما يجري مثلا داخل اتحاد كتاب المغرب، الذي لم انخرط فيه أبدا. كنت اسمع عن الصراعات بين الشعراء والكتاب. كنت اعتقدها تصب في نفس صراعات النقابيين والحزبيين، اي صراعات بين "رجعيين وتقدميين"، فكنت طبعا أميل "لقبيلتي"، أي "للتقدميين" ولو انني كنت الاحظ أن بلية الإقصاء كانت مستشرية حتى بين أعضاء نفس القبيلة. ما كان يؤلمني.
التجربة الثانية ابتدات مع تقاعدي. كنت قد نضجت اكثر وفطنت اكثر لبعض الأمور. اتضح ان السياسة لعبة الكبار أصحاب الاموال والمصالح. السياسة تدار بالهواتف حسب مصالح مخزنية، تقرر في مصير ما كما يشاء المخزن، كما حدث حينما تقرر إغلاق مناجم جرادة. وكل ما كنت احلم به، يعتبر من الطوباوية الأفلاطونية، لا وجود له إلا في جمهوريته التي أقصى منها (وحسنا فعل) الشعراء. لم اعد منخرطا لا في النقابة ولا في الحزب. تحررت من الالتزامات التنظيمية التي كانت تأخذ مني وقتي وجهدي ومالي، ودخلت العالم الثقافي والأدبي بنية خدمة الثقافة والتشجيع على القراءة والكتابة من خلال تأسيس للمقاهي الأدبية بغية جعل هذا الفضاء الكروي بامتياز، فضاء للكتاب أيضا.
فرغم ما راكمت في بدايتها من ايجابيات، حيث وفرنا فضاء لكل محبي الكتاب، اتضح مع الأسف اننا وفرناه ايضا لبعض الوصوليين والانتهازيين الذين لم يكن احد يعرفهم. فأصبحوا بقدرة قادر شعراء وروائيين ونقاد وفنانين تشكيليين وقصاصين. او هكذا خيل لهم. كانت تجربة صادمة حد الدهشة. تجربة يمكن اختزالها في هذا التشبيه : كنت اتخيل ان هذا العالم هو عبارة عن حقول ازهار مختلفة مدسوسة وراء إزار او قناع كنت حملته لمدة طويلة اثناء اهتمامي أكثر بما هو نقابي وحزبي، وحينما ازحته عن وجهي لأستمتع في اواخر عمري بازهار الثقافة والشعر واتلذذ من اعماقي بالطمأنينة الروحية وبصداقة "المثقفين"، وجدت نفسي امام اسطبل يمكن تشبيهه باسطبل "اوجياس" الذي ورد في الاسطورة الإغريقية، ضمن الأشغال الإثني عشرة التي حُكم بها على هرقل.
وجدت نفسي أمام صراعات نرجسية لا تحركها سوى طموحات شخصية بليدة، لا تتعدى دبدبات على الظهر من قبل مسؤول، او صورة امام الميكروفون وتعليق على صفحة الفيس بوك او في أقصى الحالات، تعويضات مادية لا تتعدى بعض الدريهمات. وجدت نفسي بعالم المرضى بالوهم. فهناك من يعتبر نفسه شاعرا يدندن ببحور الخليل، وهناك من يرى نفسه قاصا لا مثيل له ومن يرى نفسه كاتبا مسرحيا وآخر يعتبر نفسه ناقدا ألمعيا وهناك من كان يحلم بتلقي دعوة من مسؤول كبير يوشح صدره بالحمالة الكبرى الخ..فكانت تنتج عن ذلك صراعات لا مرجعية فكرية او ثقافية او ادبية لها. صراعات تغذيها الغيرة ويشعل نارها الحسد. لا تحركها مبادئ كتلك التي حملها ولا زالوا بعض المثقفين الكبار القلائل حيث الإيمان بحقوق الإنسان والديمقراطية التي تشبعنا بها خلال انتخابات داخل الجمعيات او الأحزاب او النقابات، رغم ما كان يشوبها من بعض الخروقات. صراعات هؤلاء "المثقفين" أخبث بكثير. فيكفي، مثلا، ان يتفق على مائدة دسمة البعض منهم، بعيدا عن قانون الحريات العامة، رغم علاته، الذي يفرض إجراءات اكثر ديمقراطية من تفاهتهم وديكتاتوريتهم، ويشكلوا مكتبا، من غير جمع عام، لجمعية هدفها استمالة الداعمين والاستفادة من الريع المادي والمعنوي او الاستفادة من اعفاء من العمل داخل مصلحة ما، بدعوى التفرغ للعمل الثقافي. وتصل بالبعض منهم الوقاحة "كمثقفين" ان يدونوا بالقانون الأساسي ان بعض الأعضاء يعتبرون "دائمي العضوية" بجمعية طبخوها ليلا، حول "حولي مشوي"، كما لو تعلق الأمر بمنظمة الأمم المتحدة.
هكذا اتضح ان عالم "المثقفين" الذي من المفروض ان يكون عالما يفيد المجتمع ويساهم في توعيته وتنمية موارده البشرية، ويكون عالما يحفز ويدرب على الديمقراطية والعملية الانتخابية، اتضح انه في أقصى التخلف ولا يحمل هم المجتمع.
عالم النرجيسيين الأنانيين، عالم التفاهة. عالم النفاق. عالم الكذب و التملق. عالم القبلية بامتياز. عالم الطموح في الجوائز التي تنظمها دول البترودولار لغرض في نفس يعقوب، كما يقال. عالم مريض يصعب ايجاد دواء له. لهذا شبهته بإسطبل "اوجياس" . لا بد له من هرقل يدير مياه نهر الأمازون لكبر حجمه، لتنقيته من فيروس "كورونا الثقافي".
بين التجربتين، تبقى التجربة الأولى امتع، وأنبل رغم كل العوائق. واعتبر التجربة الثانية مقرفة جدااا ومنها قد يتسلل الإحباط لكل من ينتظر شيئا ايجابيا من هؤلاء أشباه" الأدباء المثقفين".
وحتى لا أبدو وكأنني منزه كملاك، فقد يكون هذا الفيروس قد تسرب بداخلي... فاحذروني...وعلي ان التزم بالحجر الصحي...
محمد العرجوني
17-02-2020