أنور المعداوي - (طفولة نهد) لنزار قباني

نزار قباني؟.. أين كان هذا الشاعر وأين كنت؟! ما أكثر ما يقع في يدي من دواوين الشعر في هذه الأيام، فلا أكاد أقبل عليها حتى أعرض عنها.. إلا هذا الديون! لقد لقيت صاحبه منذ شهر لأول مرة، وأسمعني بعض شعره لأول مرة، ولم أشأ يومئذ أن أقطع برأي في فنه خشية أن يكون قد قدم إلى خير قصائده.. أما الآن، فأستطيع وأنا مطمئن أن أقدم هذا الشعر إلى الناس.. وأن أقدم صاحبه. وقبل أن أضع هذه المجموعة الشعرية فوق مشرحة النقد، أقول إنها تثير مشكلة طال حولها الجدل وسوف يطول، ما دام هناك أناس ينشدون الفن للفن، وأناس ينشدون الفن للمجتمع. أما أولئك فهم الذين يفهمون الفن وأصوله، وعلى أي الدعائم يجب أن تقام. وأما هؤلاء فلا يريدون للفن إلا أن يسير في ركاب المجتمع ولو تنفس برئتين صناعتين، غافلين عن أن رسالة الفن ما هي إلا صدق التعبير عن الحياة، التعبير عما فيها من جمال وقبيح من تناسق وشذوذ، من خير وشر، من حرية وقيود! سيقول من لا يفهمون رسالة الفن إن (طفولة نهر) ما هو إلا صلوات فكر في محراب الجسد، أو صلوات روح، أو صلوات شعور. . وسأقول أنا إنه صلوات فن؛ وحين يرتفع صوت الفن بالصلاة يجب أن تخمد كل الأصوات! أن الدفاع هنا ليس دفاعاً عن صاحب هذا الشعر ولكنه دفاع عن الفن. . أن الفن الصادق لا يعرف القيود، ويوم يتشح الفن بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي فقل إنه قد انحرف عن الجوهر الأصيل في رسالته، وهو أن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير!.. عش في أعماق الحياة، واستخدم كل حواسك في تذوق هذه الأعماق فإذا استطعت أن تعبر في صدق عن انعكاس الحياة على حواسك ووقعها على شعورك فقد أنتجت فنا؛ وبهذا المقياس نستطيع أن ننظر إلى (طفولة نهد) إلى كل أثر فني تبدعه القريحة! لقد كنت أود أن أطيل الدفاع عن رسالة الفن، ولكن الشاعر سبقني فدافع عن شعره في كلمات صادقة حين قال: (الشعر يحيط بالوجود كله.. وينطلق في كل الاتجاهات فترسم ريشته المليح والقبيح، وتتناول المترف والمبتذل، والرفيع والوضيع.. ويخطئ الذين يظنون أنه خط صاعد دائما، لأن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن، بل مهمة الأدباء وعلم الأخلاق.. وأنا أؤمن بجمال القبح، ولذة الألم، وطهارة الإثم، وهي كلها أشياء صحيحة في نظر الفنان. يقول كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن: إن العمل الفني لا يمكن أن يكون فعلا نفعيا يتجه إلى بلوغ لذة أو استعباد ألم، لأن الفن من حيث هو فن لا شأن له بالمنفعة. وقد لوحظ من قديم الأزمان أن الفن ليس ناشئا عن الإرادة، ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فليست قوام الإنسان الفنان؛ فقد تعبر الصور عن فعل يحمد أو يذم من الناحية الخلقية، ولكن الصورة من حيث هي صورة لا يمكن أن تحمد أو تذم من الناحية الأخلاقية؛ لأنه ليس ثمة حكم أخلاقي يمكن أن يصدر عن إنسان عاقل ويكون موضوعة صورة. إن الفنان فنان لا أكثر، أي إنسان يحب ويعبر. ليس الفنان من حيث هو فنان عالما، ولا فيلسوفاً، ولا أخلاقيا. وقد تنصب عليه صفة التخلق من حيث هو إنسان، أما من حيث هو فنان خلاق فلا نستطيع أن نطلب إليه إلا شيئا واحدا هو التكافؤ التام بين ما ينتج، وما يشعر به)

لقد وفق نزار قباني في عرض قضية الفن في هذه الكلمات الصادقة التي تخيرتها من كثير. وحين استشهد برأي كروتشه، وهو رأي يقطع خط الرجعة على الرجعيين. . وحين نفد إلى مكامن الهدف بهذه الإصابة البارعة في قوله: (ولو صح لنا أن نقبل ما زعمته المدرسة الأخلاقية في الفن لمات الفن مختنقا بأبخرة المعابد. . ولوجب أن نحطم كل التماثيل العارية التي نحتها ميشيل أنجل، والصور البارعة التي رسمها رفائيل، لأنها إثم يجب ألا تقع عليه العين؛ ولو ذهبنا مع أشياع هذه المدرسة إلى حيث يريدون، لوجب أن نخرج من حظيرة الشعر الجيد قصيدة النابغة التي قالها في زوجة النعمان

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه = فتناولته واتقتنا باليد

ولكان علينا أن نعلن النابغة، ونعتبره ضالا لا يستحق أن تقرأ سيرته وأشعاره!)

أنا مع نزار قباني ولو وقفت وحدي إلى جانبه، وسأصغي إليه بكل جوارحي حين يهمس في قصيدته (حلمة):

يا حرف نار سابحاً = في بركتي عطور
يا كلمة مهموسة = مكتوبة بنور
سمراء، بل حمراء، بل = لوَّنها شعوري
أم قبلة تجمدت = في نهدك الصغير
مظلة شقراء فوق = قسوة الهجير
إبريق وهج عالق = بهضبتي سرور
أم أنت شباك هوى = مطرز الستور
فراشة محروقة = الجنح على غدير
دافئة كأنها = مرتْ على ضميري

هكذا تمضي أوزانه وقوافيه، متفقة والجو الذي يتنفس فيه شعره، جو الأوزان القصيرة والقوافي الراقصة، أما الصورة الوصفية فتستمد بذورها من خصوبة الحقل الشعري واتساع مداه. . ومن هنا تستمد الوثبة الشعرية قوتها من وثبتين أخريين، هما الوثبة الشعورية والوثبة الموسيقية.

تعال نستمع له مرة أخرى في قصيدته (وشوشة):

في ثغرها ابتهال ... يهمس لي تعال
إلى انعتاق أزرق ... حدوده المحال
نشرد تياري شذا ... لم يخفقا ببال
لا تستحي فالورد في ... طريقنا تلال
ما دمت لي مالي وما ... قيل وما يقال!
وشوشة كريمة ... سخية الظلال
ورغبة مبحوحة ... أرى لها خيال
على فم يجوع في ... عروقه السؤال

هنا ظلال من النفس تلتقي بظلال من الحياة، وبضوء من هنا وضوء من هناك يتم العمل الفني، مستمداً خطوطه من التجربة الشعورية؛ من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان. . أرأيت إلى الرغبة المبحوحة؟ الرغبة التي تتنزى فلا تقوى على الانطلاق؟ الرغبة التي تريد أن تهتك حجب الصمت ولكنها بحت من التردد والتهيب والإحجام؟ الرغبة التي لم يبق منها على الفم والإخيال يلوح ثم يختفي؟ وأي قم؟ فم يجوع السؤال في عروقه. . ولا يبوح!

ويحلق الفكر في آفاق من رهبة الفناء، وتهوم الروح في أودية النسيان التي يبلى فيها كل جديد، ولكنها تهويمات لا تخلو من يقظة تومض تحت الرماد، وتلتمس العزاء في خدعة الخلود. . وتكتمل الألوان في الصورة المنتزعة من معرض الحياة. ما الإطار فمن صنع الخيال السابح وراء الوهم، المتشوق إلى ارتياد المجهول، وتمضي التجربة الشعورية إلى منتهاها حين يقول في قصيدته (سؤال):

تقول: حبيبي إذا ما نموت ... ويدرج في الأرض جثماننا
إلى أي شئ يصير هوانا ... أيبلى كما هي أجسادنا؟
أيتلف هذا البريق العجيب ... كما سوف تتلف أعضاؤنا؟
إذا كان للحب هذا المصير ... فقد ضيعت فيه وأوقاتنا!
أحببت ومن قال أنا نموت ... وتنأى عن الأرض أشباحنا؟
سنحيا. . وحين يعود الربيع ... يعود شذانا وأوراقنا
إذا يذكر الورد في مجلس ... مع الورد.. تسرد أخبارنا!

وحين يطول الانتظار، ويعصف القلق بجمال الرؤى والطيوف ويتوثب الشوق الملح إلى القادم الممعن في إبطائه، تكون النفس الإنسانية في ارتقابها ولهفتها قد أنكرت كل شئ، وكفرت بكل شئ. . استمع له يصف لحظة انتظار:

جعت وجاع المنحدر ... ولا أزال أنتظر
أنا هنا وحدي على ... شرق رمادي الستر
مستلقياً على الذرى ... تلهث في رأسي الفكر
وأرقب النوافذ الزرق ... على شوق كفر

هل أحسست الفكر حين يلهث، والشوق حين يكفر؟! وحين يقبل الحبيب الغائب، تقبل معه الدنيا، وتقبل الذكريات تشق طريقها من وراء الزمن. . ويقبل الصبا بجنونه وأحلامه وأوهامه:

قالت صباح الورد. . ... هذا أنت صاحب الصفر
ألا تزال مثلما ... كنت غلاماً ذا خطر؟
تجعلني على الثرى ... لعباً. . وتقطيع شعر
فإن نهضنا كان في ... وجوهنا ألف أثر!
فلت لها الله ما ... أكرمها تلك الذكر!
أيام كنا كالعصافير. . غناء وسمر
نسابق الفراشة البيضاء. . . ثم ننتصر
ونكسر النجوم ذرات. . . ونحصي ما انكسر
فيستحيل حولنا الغروب شلال صور. . .
حكاية نحن. . فعند كل وردة خبر
إن مرة سئلت، قولي: نحن دورنا القمر!

هنا وفي كثير من القصائد الأخرى لنزار قباني، تلمس أن اكتمال الوحدة الفنية مرجعه إلى تسلل التجربة الشعورية، وتناسق الظلال المنعكسة من النفس والحياة.

وأود أن ألفت النظر إلى أن هذا الشاعر يصوغ معانيه أحيانا في ألفاظ قد تبدو لأصحاب المدرسة المادية في التعبير وكأنها قد استخدمت في غير مواضعها؛ وهي تبدو لهم كذلك لأنهم يعيشون في رحاب الظلال المادية للألفاظ، ولو عاشوا في رحاب ظلالها النفسية لوجدوا كل شئ في موضعه من الشعر، لأنه في موضعه من الشعور. . . إن الشعر ما هو إلا ترجمة صادقة للشعور الصادق، فلا ضير من أن يستخدم فيه اللفظ الذي تتفق ظلاله وظلال النفس، وتنسق إيحاءاته مع منطق الإحساس! ومهما يكن من أمر فإن لمشكلة الظلال النفسية والمادية في اللفظ قضية شغلت القدماء كما شغلت المحدثين، وهي قضية سنعرض لها في مقال تتناول فيه بالنقد أصحاب المدرسة المادية في التعبير قديما وحديثا أولئك الذين لا ينظرون إلى الألفاظ إلا من خلال هياكلها العظيمة! كل ما آخذه على صاحب (طفولة نهد)، هو تلك القوالب النثرية التي يصب فيها شعره أحيانا، وما يرد في بعض أبياته من ألفاظ ابتذلت من كثرة الاستعمال، مما يعصف بجمال القالب الشعري، ويذهب بأثر الإيقاع الموسيقي. استمع له مثلا في هذين البيتين:

ما دمت لي سر المساء معي ... وهذه الأقمار أقماري

وأنجم المساء لي مئزر ... وفوق جفن الشرق مشواري إن كلمة (مشواري) هنا كلمة سوقية لا تتفق أبدا وهذا الجو الشعري الذي عاشت فيه، ولو وردت في النثر لما استسغتها، فما بالك بالشعر؟

واستمع له مرة أخرى في هذين البيتين:

هو الدفء لا تذعري إن = رأيت قميصك نهب تدفع قمه
فما عدت يا طفلتي طفلة = سيهمي الشتاء غيمه بعد غيمه

نهب تدفع قمة؟!. . . إضافتان ثقيلتان على السمع، لا تكاد تطيقها الأذن العادية، فما بالك بالأذن الموسيقية! ألا تحس هنا أن القالب قد بدأ أقرب إلى النثر منه إلى الشعر؟

واستمع له مرة ثالثة في هذين البيتين:

لغي تحارير الهوى وأمضى ... أنا في السحاب وأنت في الأرض
غوري مع الشيطان لا أسف ... ولتبتلعك زوابع البغض

لست أدري كيف تحتمل الصياغة الشعرية كلمة (غوري) هذه. . لقد اهتز صرح الجمال الفني في البيتين تحت وطأة هذه الكلمة!

مآخذ قليلة كنت أرجو أن يخلو منها هذا الديوان، ومهما يكن من أمر فإنها لا تمنعني من القول بأن نزار قباني شاعر... وشاعر موهوب.


أنور المعداوي


مجلة الرسالة - العدد 774
بتاريخ: 03 - 05 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى